ثقافات

انصراف القرّاء إلى الكلمات المتقاطعة!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لماذا نرى الإنتاج الأدبي اليوم لم يعد يبلغ المستوى الذي كان عليه أدب الروّاد في ما مضى؟ ذلك الأدب الذي التفّ حوّله قرّاء زمانه ومن بَعدَهم، نرى الآن قراءَنا ـ على اتساع رقعتهم وكثرة عددهم ـ ينصرفون إلى قراءة "الكلمات المتقاطعة"، وما إليها.. والجادون أكثرهم يذهبون إلى قراءات أخرى، على الرغم من الدور الكبير الذي لعبته مطابع القطاع الخاص، إلى جانب المطابع الحكومية في إنتاج الكثير من الروايات والكتب المختلفة!.

ثم لماذا لا نرى الأدب الآن يعبّر عن زمانه كما ينبغي وكما عبّر أولئك السابقون عن زمانهم؟.

أظن أننا متفقون على أنَّ الحركة الأدبية في عالمنا العربي الآن ضعيفة كماً وكيفاً وإقبالاً. وإذا ما تركنا "الكم" جانباً ونظرنا في الباقي نرى أنَّ ضعف "الكيف" له دخل كبير في ضعف "الاقبال" لسبب معروف في السوق، وهو أنَّ البضاعة الرديئة لا تجد إقبالاً من المشترين.

قد يصح القول بأن أدباءَنا الجدد يعبّرون عن زمانهم، لا بإنتاج حي يُصوّر المجتمع الحاضر ويرى القرّاء فيه أنفسهم بوضوح لا تغيب عنه الحقيقة ولا يغمض القصد، وإنما يعبّرون عن الزمان بوجودهم أنفسهم من حيث السلوك والنهج في الحياة.. زمان الجري وراء المادة واستخلاصها من أي سبيل.

هذا، أو ذاك أديب موهوب لا شك في موهبته، أنبتته الأرض التي أنبتت من قبله من الأعلام العظام، ولكنه لا يعكفُ على الأدب كما كانوا يفعلون، ولا يُعاني ما كانوا في سبيله يُعانون، بل هو يجري ويلهث وراء ما يسمونه وسائل الإعلام المختلفة كالإذاعة والتليفزيون، يُعدّ لها برامج يجمع لها من هنا وهناك، والصحافة كذلك تأكل من كدّه وطاقته، إذ يُبذل فيها ما كان أولى بموهبته الأدبية صقلاً وتنمية.

كان الأوائل يعشقون الأدب ويعانون في حياتهم لكي يظلوا عليه عاكفين، لا يشركون به شيئاً، فإن أشركوا به شيئاً كان على الهامش.

الأدب لا يُحب "الضرَّة".. يجب أن ينفرد باهتمام عاشقه، فإن انصرف عنه العاشق إلى غيره لم يمنحه الإجادة والتبريز.

غضّ الطرف عن قلة نشأت في الغنى مثل أحمد شوقي ومحمود تيمور وشكيب أرسلان، وانظر في تاريخ حياة الكثرة تجدهم مرّوا في حياتهم بأزمات عصيبة ولم تصرفهم صارفة عن الأدب: دراسته والإنتاج فيه.

باع المازني كتبه ليأكل بثمنها.. ثم حدث مرة أن اشترى زيتوناً من بقّال، وعندما فحص القرطاس الذي وضع فيه الزيتون وجده ورقة من ديوانه، فأكل الزيتون وحَمدَ الله، ولم يتخلّ عن الأدب، ولم يطلب غيره من أعراض الدنيا.

على أن تلك القلة التي أشرنا إليها عانت من أجل الأدب هي أيضاً، إذ انصرفت عمّا في بيئتها ومن فيها من الترف والمترفين، واتجه أفرادها إلى حرفة الأدب والمعاناة فيها وخدمة المعشوق المحبوب.

ولست أجرّد الأديب من بَشريته، ولا أنكر عليه أن يَطلب ما يقوّم به حياته، ولكني أتصور موقفه من الأدب مثل الموقف من الشجرة الظليلة الجميلة، إن أثمرت أثمرت، وإلّا ظلت قائمة جميلة ظليلة.

قد يقال إنّ مؤلفي الأدب في الغرب ينالون كثيراً من المال عائداً لكتبهم التي توزّع بالملايين، ويضفي عليهم ذلك متعة ونعمة.. وهذا شيء عظيم ورزق حلال، ولكنه يجيء بدون قصد، بمعنى أنَّ الأديب ينتج ما ينتج كغدة تفرز ما خلقت لتفرزه، ليس حافزه ولا في باله ما سيدرّه العمل الأدبي من مال، ويجيء بعد ذلك ما يجيء من الدخل كمكافأة له غير محسوب حسابها من الأصل.

مؤلفة قصة "ذهب مع الريح" التي صدرت في عام 1936، هي الرواية الوحيدة للكاتبة مارغريت ميتشل 1900 ـ 1949 بدأت كتابتها بعد أن أصيبت بمرض أجبرها على المكوث في البيت فترات طويلة، ولم تكن عندما كتبتها تظن أنها ستجني منها ما جنت، ولم يكن ذلك حافزاً لها على الكتابة، ثم همى الغيث... على أن المثير للانتباه أنَّ الغيث الذي همى لم يحفّز الكاتبة على إنتاج أي جديد بعد القصة الفريدة، وهذا يعني بأن المال لم يكن باعثها، وإنما هو الحب الحقيقي للأدب والانغماس فيه.

نعود بعد ذلك إلى أصحابنا في هذا الجيل الذين يبدّدون طاقاتهم ومواهبهم هنا وهناك في أعمال كان الإنتاج الأدبي والتسلّح له أولى بها.. ومثالنا في ذلك الصحافة التي لم تقدم للأدباء إلّا المتاعب، وعندما تركوها شعروا براحة غريبة.

الصحافة صرفّت الكثير من المبدعين في مجال الأدب عن مواصلة الأعمال الأدبية، لا سيما أنَّ الإنسان طاقة متجدّدة.. ففي الكتابة الصحفية يمكن أن يكتب الصحافي بضعة صفحات في اليوم في مواضيع صحفية متنوعة، أما في مجال الأدب فالوضع يختلف كلياً، وقيل أنَّ الصحافة هي مقبرة الأديب، فالكتابة الصحفية تأخذ الحيّز المخصّص للكتابة الأدبية في عقل الأديب ووجدانه.

فالأدباء ليسوا كلهم سواء، ولكن الظاهرة الغالبة هي ما نرى، وهي التي تجر الركود إلى حياتنا الأدبية. وقد نلتمس لهم العذر بأن يكونوا عائلين وتلك الأعمال الخارجة عن نطاق الأدب تجذبهم وتغريهم وتلبّي حاجاتهم إلى المال. ولكن النتيجة هي ما نرى: كساد في الأدب وضعف في الإنتاج، ثم شكوى صارخة من ضعف الحياة الأدبية.

لا شكّ أن ما تفعله بعض الحكومات العربية من تشجيع الكتاب والمبدعين في البذل والعطاء في هذا السبيل، لا شك أنّ هذا مجد وناجح ويدفع أمثال هؤلاء من الكتّاب إلى الابداع، ولكنه ليس كل شيء، ولن يستطيع أحد أن يرغم المتأدبين على عشق الأدب والعكوف عليه واستعذاب المعاناة في سبيله.

ويظل السؤال قائماً، وهو لماذا يغيب الأديب الموهوب في عالمنا اليوم على الرغم من الكم الهائل من الإنتاج الأدبي التي نشاهده هنا وهنا وما يعرض فيها من كم هائل من الكتب في المعارض التي تشارك بها دور النشر المختلفة وما أكثرها في عالمنا العربي، التي لم تتوقف يوماً عن الدوران لجهة تحضير وطباعة الآلاف من الروايات، والكتب بمختلف أنواعها وأحجامها ومضامينها سنوياً.. التي لم تعد تجذب القارئ، أو تحفّزه على الشراء إلّا في حدود ضيقة جداً!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف