ثقافات

تشكيلات آجرية في مبنى "المكتبة الملكية الدانمركية"

في محبة "التفصيل"!

المكتبة الملكية الدانمركية، كوبنهاغن، (1898 – 1906)، الجدار الشمال الشرقي
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لا اخفي ولعي وشغفي بالطابوق، المادة الانشائية المحببة لديّ. اشعر بان الطابوق جزء مني. هل ياترى، يرجع ذلك، بكونه المادة الانشائية التي اهدتها بلاد ما بين النهرين للانسانية؟
فالاجر المحروق تم استخدامه حوالي 4000 سنة قبل الميلاد في تلك البلاد القديمة، وشيد منه اجزاء من زقورة اور، كما اوصل البابليون الاعمال الطابوقية الى مستويات عالية من المهنية والدراية والفنية والتأثير.


المكتبة الملكية الدانمركية، كوبنهاغن، (1898 &- 1906)، تفصيل آجري في الجدار الشمال الشرقي.

لتنذكر "بوابة عشتار" في بابل، التي شيدها نبوخذنصر عام 575 ق.م. والتي كرّسها لعشتار آلهة البابليين، تلك البوابة المشغولة من الآجر المحروق والمزينة باشكال ملونة لمنحوتات تعبر عن حيوانات اسطورية وحقيقية ناتئة "ريليفية" Relief. أيكون ذلك مسوغاً ومبرراً لذلك الهوى المهني الذي اكنه لتلك المادة الصلصالية، التي يشي وجودها بحضور الانهر والسواقي الجارية؟!

..كلما امرّ بجنب مبنى "المكتبة الملكية الدانمركية" القديم في كوبنهاغن، تستدعي الذاكرة ذلك العشق القديم للطابوق، وانا اشاهد "نموذج" حاذق وكفوء من الاعمال الآجرية في الواجهة الشمالية الشرقية من المبنى العتيد. ذلك النموذج الذي لا تكل العين ولا تمل من رؤياه وفحص تفاصيله المدهشة.


المكتبة الملكية الدانمركية، كوبنهاغن، (1898 &- 1906)، تفصيل آجري في الجدار الشمال الشرقي.

وبما اني اعنبر نفسي "مشاهد مستديم" لتلك التفاصيل المبهرة، بكوني زائر دائم للمكان، حيث أُمرّ عدة مرات اسبوعيا على المكتبة الملكية للمطالعة والبحث في مبناها المسمى "الماسة السوداء" (وهو المبنى الحديث للمكتبة الذي افتتح عام 1999. صاحب اللغة المعمارية المميزة، التي صُنفت من اجمل أعمال عمارة ما بعد الحداثة الدانمركية، والتي وعدتكم يوما باني ساكتب عن عمارتها الاستثنائية، .. ولا زلت على وعدي!)

لكني الان اتحدث عن تفصيل طابوقي في جدار الجزء القديم من المكتبة إياها، اراه جد جميل، واتمنى ان تروه انتم جميلا ..ايضاً! وهذا الجزء هو تفصيل في جدار مبنى المرحلة الثانية من المكتبة الذي يعود تاريخ تصميمه الى ما بين 1898 -1906، وقد صممه المعمار الدانمركي "هانس هولم" Hans J. Holm. وفي وقتها كانت المقاربة المعمارية المسماة "الرومانسية الوطنية"، شائعة ومتسيدة في المشهد المهني المحلي وخطابه، هي المتمثلة في جزء منها بالنزعة في ايصال حذاقة التفاصيل الموظفة في اللغة التصميمية الى اقصى حدودها، كما كان الحصول الى تعقيد شكلي مركب لها، يعتبر بمثابة ميزة تصميمية.


المكتبة الملكية الدانمركية، كوبنهاغن، (1898 &- 1906)، تفصيل آجري في الجدار الشمال الشرقي.

ينزع المعمار بشكل اساسي الى توظيف شكل النوافذ التي صممها، لتكون مسرحاً "لسيناريو " خطط له باجتهاد وبمهارة مهنية عالية لتضحى "لعبة" الاقواس المتقاطعة التي اجترحها فيه، وسيلة لبلوغ اكبر قدر ممكن من سطوح فتحات يطمح بها المعمار خلق إنارة ملائمة لاحيازه الداخلية. لكنه ايضا يعي قيمة الاشتغال على مفردة القوس/ العقد الخارجي الذي جاء مزدوجا وبسماكة تشي باهميته التكتونية Tectonic. كما تبدو اشكال بعض اقواسه المتواجدة في فضاء سطح النافذة المصمم، ذات "دبيب" طفيف يحيل (..يحيلني) نحو واحد من اهم عطايا العمارة الاسلامية واكتشافاتها المؤثرة، واعني بها مفردة "القوس المدبب" Pointed Arch، ذلك القوس، الذي ظهر لاول مرة بذلك المبنى المدهش المسمى "قصير عمرة" الواقع في بادية الاردن والمشيد عند بدايات القرن الثامن الميلادي! نعرف ان القوس المدبب وتجلياته الانشائية هو الذي مكـّن العمارة الغوطية تحقيق سبل غير مسبوقة استطاعت بواسطتها انجاز روائعها المعمارية الساحرة، لكن ذلك .. قصة آخرى!


المكتبة الملكية الدانمركية، كوبنهاغن، (1898 &- 1906)، تفصيل آجري في الجدار الشمال الشرقي.

اما قصتنا، الآن، فتتجسد في التشكيلات الآجرية المدهشة، التي اراها امامي، وتفاصيلها المفعمة بالحيوية التي لا تقل اثارة للدهشة. فالمعمار لا يكتفي ولا يقتنع بقيمة تنويعات الاشكال الاستثنائية التي ابدعها، اذ هو توّاق لان يجعل من براعة العمل التنفيذي اليدوي الذي اوصله لمديات واسعة، اداة مضافة لإثراء واجهة الحائط المصمم. انها لمتعة كبيرة حقاً، وانت تمر بمحاذاة تلك التفاصيل الآجرية اللافتة، مستمتعاً برؤية "الآجرة الحمراء" العادية وهي تغدو في ايدي المعمار المقتدر احدى الوسائط المعبرة لاجتراح قيم جمالية مبهرة تجسدت في الاشكال المبتدعة، مثلما تكرست في حذاقة العمل الحرفي اليدوي المتقن!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف