ثقافات

غرفة في شارع اصفر

صعب أن تجد غرفية في بغداد
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

وافقَ أبو سعدٍ على تأجيرِ الغرفة لي. لقد اجتزتُ امتحانَه اذن بنجاح. كانت مهمتُه صعبةً. فالبيتُ ذو طابق واحد. أربعُ غرفٍ أحاطتْ باحةً داخلية ومطبخا وحماماً ثم سلما يقود الى السطح. هذا كلُّ شيء. عائلته سكنت في واحدةٍ من الغرف وفي اثنتين أخريين عائلتان من اقرباءه. بقيت غرفة واحدة صغيرة جدا لا تصلح للعوائل، انما لفرد واحدٍ مثلي. كان عليه ان يتأكد انه اختار الشخص الصحيح ليضعه بين ثلاثِ عوائل. أما مهمتي الملحة فهي على نفس القدر من الصعوبة، ان اعثر على غرفة للإيجار في منطقةٍ ببغداد، نائيةٍ عن المركز ورخيصةٍ بما يتناسب مع افلاسي.
وبعد ان سألني أبو سعد عن اسمي ومن اين أي مدينة انحدرُ، فاجئني بالسؤال:
ـ هل تشرب؟
كنت قد كذبتُ بما يكفي. ففي اجابتي على اسئلتِه كذبتُ لأمرٍ يتعلق بسلامتي فيما ادعيه من اسمٍ ومن اين أكونُ قدِمتُ. كان رجال ناظم گزار يسعون خلفنا وقد سقط بعضُنا في يده، فلماذا اكذب في هذه أيضا، فالصدقُ هنا ان لم يكن نافعا، فلن يكون ضارا. يحتاج المرء حتى وان كان كاذبا الى فسحة من الصدق تشعره بالراحة:
ـ نعم، اشرب.
لم أكن اعرفُ ماذا سيترتب على جوابي. لكن ما حصل أزاح مخاوفي. ففي باحة البيت المحاطة بالغرفِ الأربع كنّا، هو وانا، جالسيْن على كرسيين تفصلنا طاولة. ظهرنا الى الجدار وامامنا حشدٌ من النساء والأطفال جلسوا مفترشين الأرض. على المنضدة التي بيننا وضعتْ احدى النساء قنينة نبيذ وقدحين. وفيما تكفّل كأسان بجعل النشوة تدب في كامل جسدي بعد طول حرمان وتعطش، كنت ألحظ بحواسيّ التي أمهرت في شحذها المطاردة، كيف ان أبا سعد قد دأب على النظر اليَّ كل بضع لحظاتٍ خلسةً، هل سيرخي كأسان من النبيذ رقابتي على نفسي واحدق في النساء بشراهة؟ وهكذا وجدتني حائرا لا اعرف الى اين اهرب بعينيَّ وقد اُحيط بي من كل الجهات.
سكنتُ في الغرفة الصغيرة وقضيت شهورا بينهم. كانت أياما حلوة وهادئة اشعروني فيها بكرم الفقراء ونقائهم بأنني واحدٌ منهم.
...
بنتُ ابي سعد بلغت توا السادسة عشرة، بيضاء البشرة بوجناتٍ موَّردة، تفتح عنفوانها توا. عملتْ في بيت من بيوت الأثرياء ببغداد تخدمهم. كانت تعود الى البيت يوما او يومين في الأسبوع، فيحيط بها الأطفال وتعانقها النساء وتجلس تروى ويستمعون.
ذات ضحىً وأنا في المطبخ دخلت عليّ:
ـ هلو وليد، ماذا تفعل؟
ـ احضر فطوري..
ـ هل احضره لك؟
ـ لا، شكرا، لقد انتهيت.
ـ وليد... هل تأخذني للسينما؟
ـ ... الى السينما؟ ... لم لا؟
ـ متى؟
ـ هل تعرفين فلما جيدا..
ـ نعم اعرف... لكن متى؟
ـ حين يعود ابوك من العمل مساءً سوف أخبره فنذهب في اليوم التالي..
ـ ... لا داعي اذن... انس الموضوع...
.....
مرت سنةٌ ونيّف. كنت قد رحلتُ عن بيت ابي سعد وسكنتُ في مكان آخر. اخذتُ معي ذكرياتٍ حلوة وحنينا لأرواح نقية.
.....
اليومُ كان مشمسا وكنت حينها اتمشى في حدائق ابي نؤاس. في أحد الزوايا الظليلة لمحتُ عن بعد شابة وشابا جالسيْن لصق بعضهما بودٍ على أحد المصاطب. كانت ترتدي تنورتها البيضاء. الوجنتان الموردتان اعرفهما. شاهدتني فنكست رأسها وابتسمت بخفر. خلها تقول للشاب "كم هذا مخجل، انه وليد".
انعطفت في اول ممشى مبتعدا عنهما وابتسمت في داخلي: "لقد وجدت شابا من عمرها". كنت أفكر بالأمر واسير. هواءُ الربيع عليل. بدا الورد أجمل والنسيم حرك الاغصان برفق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف