ثقافات

الجوائز ومنح التفرغ للكتابة في ألمانيا

الكاتب غونتر غراس امام بيت الفريد دوبلن في المانيا
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

إيلاف من برلين: احسبُ ان تجربة المانيا وأوربا عموما في دعم النشاطات الفنية والأدبية جديرةٌ بالدراسة من قبل المؤسسات الثقافية العربية والوزارات. ودلالاتُها جديرةٌ بالتأمل أيضا من قبل المثقف العربي. من الصعب استنساخ هذه التجربة. فهي ترتكز على سبق تاريخي وبنية تحتية متينة وارصدة مالية.

ما اقصده بالبنية التحتية هي قبل كل شيء مجموعةُ الممتلكاتِ الثابتة التي تُدار من قبل مؤسساتٍ حكومية وغير حكومية والتي صارت ملكيتها اليها عن طريق متبرعين. في دولنا العربية الريعية في الغالب لا توجد تقاليد راسخة لدى الأثرياء بالتوصية في ان تصير ممتلكاتهم أو أموالهم جزئيا او كليا للمؤسسات الثقافية أو لدعم المتاحف والمكتبات. والدولة الريعية، أي دولة الأموال التي تأتي من فوق هي غير دولة دافعي الضرائب، أي دولة الأموال تأتي من الأسفل. وهذه الخاصية تؤثر على تشكل نمط الثقافة أيضا، لكن هذا موضوع اخر.

فاذا ما اخذنا مثالا الجمعية السويسرية لمعاهدة حقوق الانسان في اوربا (SGEMKO) وجدنا انها تعلن عن منحة إقامة في الشمال الإيطالي في منتجع ميران السياحي للإقامة في مسكنين يحملان اسم ايدلماير. وفرانز ايدلماير كان لخمسين عاما قسا في ميران وقد أوصى بممتلكاته للجمعية السويسرية ورغب في ان يُكرس المسكنان بطريقة ما لمصلحة حقوق الانسان. وفي موقع جمعية حقوق الانسان يشار الى نقاش قد جرى بعد وفاة القس في كيفية الاستفادة من المسكنين، حتى صِيرَ الى قرار بجعلهما مكرسين للكتاب والمترجمين والمحررين اذا ما كانت نصوصهم ذات علاقة بدعم حقوق الانسان الأساسية.

وفي احدى مناطق برلين المشهورة لا تزال صامدةً وسط البنايات العالية احدى الفلل التي بنيت عام ١٨٩٨ بحديقتُها الواسعة. وتسمى فيلا شفارتسشه على اسم مالكها السابق. وبعد ان تقلبت بها الأحوال من وريث لأخر وشهدت الحربين أصبحت مؤخرا دارا للثقافة والفنون في حي شتيغلتس البرليني. احتوت الفيلا على قاعات متعددة جهزت لتحتوي على غاليري لعرض الاعمال التشكيلية، أخرى لتقديم عروض مسرحية أو قراءات أدبية فيما أطلق عليه اسم "منبر الكتاب". كما يصار هنا الى تقديم معزوفات موسيقية، فيما يشغل الطابقَ الأرضي مقهى يلتقي فيه الادباء والفنانون.

يُعلن سنويا في المانيا عن مئات المنح المخصصة للكتاب والفنانين للحصول على جوائز مالية أو فرص لنشر عمل ادبي او كتاب. أكثرها اثارة ربما ذاك القسم الكبير من المنح الذي يهتم بتوفير فرصة للكاتب للإقامة في مكان ما يتفرغ فيها للكتابة. المدة المخصصة تتراوح بين أسبوعين، بضعة أشهر وصولا إلى سنة كاملة.

شروط ومتطلبات

هناك شروط ومتطلبات للتقديم، بعضها بسيط جدا، يتلخص في ارسال نص نثري او شعري وعنوان المُرسِل للتواصل معه. قسم اخر يضع شروطا ومتطلبات أكثر تعقيدا، كأن يكون المتقدم قد أصدر كتابا او نُشر له نص ادبي من قبل دار نشرٍ معروف، قسمٌ ثالث من المنح يستلزم ادراج معلومات تفصيلية عن المتقدم بموجب استمارات خاصة. وقد صادفني ان جهة مانحة قد طلبت من المتقدم ان يذكر ابعاد السيارة طولا وعرضا وارتفاعا في حالة قدومه بسيارته الخاصة.

بعض المنح تخصص لكتاب وادباء من مدينة او مقاطعة بعينها، بعضها مفتوح حتى للأجانب الذي لا يتقنون اللغة الألمانية.

تهتم الجهة المنظمة بتوفير مكان سكن للكاتب، يكون عادة من الأماكن الهادئة والجميلة وتخصص له منحة شهرية تتراوح بين ٥٠٠ الى الفي يورو. وبعض هذه المنح تكون سخية الى درجة انها تتحمل حتى نفقات السفر من والى المكان. واخر موقع للمانحين زرته على شبكة الانترنت وجدت ان الجهة المانحة وفرت كل هذه الأمور مضافا اليها وجبتي فطور وغداء. أحدها وفر حتى دراجات كهربائية للتجول في المكان!

فما يسمى ببيوت الشجر مثلا وهي بيوت التفرغ العائدة للمؤسسة الثقافية جون ميشالسكي تقع عند كتف جبال يورا في سويسرا. ويبعد الموقع ساعة واحدة عن مدينة جنيف حيث تتوفر سبع أماكن إقامة للكتاب والمترجمين. ستة منها تقع على بحيرة جنيف فيما السابع يقابل غابات يورا. واحد من بيوت الشجر مخصص ليكون مطبخا ومكانا لعقد لقاءات بين المشاركين حيث يمكن للكُتّاب تجهيز الطعام وعقد جلسات مشتركة للحديث وتبادل الآراء وتعزيز الروابط الشخصية.

توفر هذه الوحدات السكنية ظروفا مثالية لكاتب او مترجم من اجل ١ـ البداية بعمل ادبي او ٢ـ الاستمرار بعمل تم الشروع به، او ٣ ـ من اجل وضع اللمسات الأخيرة على عمل قارب على الانتهاء.

بشكل أساسي تكون مواقع الإقامة مجهزة للمترجمين والكتاب المنفردين ولكن أيضا لشريكين او أكثر يعملون على مشروع واحد: كاتب مع كاتب آخر. كاتب مع مترجم، كاتب مع أي شكل من الاشكال الابداعية مثل كتابة السيناريوهات او الحوار لعمل فني او اخيرا كاتب ورسام.. الخ.

كل سنة تقوم المؤسسة الثقافية جون ميشالسكي لوحدها باستقبال ٤٠ مترجما وكاتبا من مختلف انحاء العالم. وإذا ما عرفنا ان الكثير من المؤسسات الثقافية الرسمية والمستقلة تقدم عروضا مشابهة بقدر او بآخر، سنجد ان الألوف من الكتاب والمترجمين والفنانين يتمتعون سنويا بمنح التفرغ. وخارطة الاقامة للمنح تشمل بيوت استضافة تمتد من مدينة استنبول شرقا الى الولايات المتحدة او كندا غربا، هذا مرورا بمساكن تفرغ في إيطاليا او فرنسا او إنكلترا وفي المانيا في كل الاحوال. كل هذا مرتبط باتفاقيات تعاون ثقافية بين المؤسسات لتبادل المنافع.

مبتدئ أو معروف

بعض المانحين لا يكترث فيما اذا كان الكاتب الحاصل على المنحة مبتدئا او أن يكون من الكتاب المعروفين من ذوي الخبرة. فلجنة التحكيم تحكم على جودة النص واصالة الكتابة كما ان كل المطلوب من المتمتعين بالمنح ان يكرسوا وقتهم للعمل بجد على مشاريعهم. القسم الكبير من الطلبات المقدمة يجب ان تصل الى الجوري (هيئة المحكمين) بدون أسماء على أن توضع بدلا من اسم الكاتب كلمة سر يختارها بنفسه وفي وثيقة منفصلة توجد كلمة السر واسم الكاتب وعنوانه لكنها متاحة للإدارة فقط. ورغم ان إجراءاتٍ مثل هذه تضمن قدرا كبيرا من الحيادية الا ان انحيازات قد تحصل هنا وهناك لهذا الموضوع او ذاك لهذا الاسم او ذاك.

قسم من المانحين يحدد مواضيع الكتابة، ولكنها في الغالب بعناوين مفتوحة قابلة للتأويل، تتيح التملص والتغريب وليست ذات حدود صارمة. ذلك انما هو إدراك منهم ان المواضيع الأدبية ليس بوسعها ان تكون خالصة لغرض محدد وانما تتجاوز القيود والأُطر. وكمثال فإن مانحا قد خصص جزءا من المنح للكتابة عن الطبيعة، سواء تم تأويلها بطريقة خيالية او تمت الكتابة عنها بطريقة وصفية، واقعية، وفي الحالتين يجهد المانحون ان تكون هذه المواضيع مكرسة لأدراك أهمية الطبيعة وأساليب التعايش المستدامة معها والقادرة على تقديم المساعدة من اجل فهم أفضل لعلاقة بيئية ـ اجتماعية متبادلة التأثير وتسليط الضوء على الفعل البشري على الطبيعة.

أماكن الإقامة متاحة لكل من يشتغل في مجال الآداب والفنون. وفيما يصار الى تقديم افضليات للكتاب والمترجمين، فان المانحين منفتحون على كل الاشتغالات الأخرى طالما كانت الكتابة في صلب مشروعهم. يجد الباحث في عروض المنح البعضَ الذي خصص للكُتّاب بلغات أخرى ومنها اللغة العربية على ان يتم تقديم الطلب بلغة محددة غالبا ما تكون الإنكليزية، الألمانية او الفرنسية. وفي حالة الحصول على المنح بوسع الكاتب ان يستفيد من الوقت للكتابة بلغته الام.

بيت في شجرة

واحد من بيوت الشجر أعد خصيصا لذوي الاحتياجات الخاصة (المعوقين). ويطب من ذوي الاحتياجات الخاصة أن يشيروا الى نوع العوق وما هي المستلزمات الضروري توفرها في حقل مرفق بالطلب خصص لذلك لكي تتم الاستجابة لها. هنا تُقدم للفائز منحة شهرية بمقدار ١٢٠٠ فرنك سويسري طيلة فترة الاقامة وهو ما يعادل تقريبا نفس المبلغ باليورو. وفي المدينة المجاورة يحق للحاصل على المنحة أن يشارك في الفعاليات الثقافية دون أن يكون ذلك شرطا الزاميا للحصول على المنحة.

وفي مثال اخر نجد أن مؤسسة الفريد دوبلن تعنى باستقبال الكتاب في الدار التي تركها لهم الكاتب غونتر غراس.

توجد منافسات مقتصرة على النساء فقط. توجد منافسات أخرى يحدد فيها العمر الأقصى كواحدة. فهناك منافسات لمن هم في سن الثلاثين او اقل. بعضها مخصص للمعوقين فقط ونوع منها لمن عبروا سن السبعين وقد سميت (Ü70). هذا على سبيل المثال فقط.

كم سيكون جميلا ان يحظى الكاتب بشقة للعمل لدى مؤسسة الفريد دوبلن لكي يكتب فيها بهدوء فيما يتردد على مسمع منه صدى طبل الصفيح لغونتر غراس الذي عمل هنا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف