التنافر بصفته.. ميزة تصميمية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما أُزيح الستار عام 2017 وظهر للعيان مجمع "مدينة الطفل" Børneby في احد احياء مدينة كوبنهاغن (المصممون: مكتب "معماريو الشمال" Nord Architects بالاشتراك مع مكتب "كوبي" Cobe)، كان حدث ذلك الظهور يماثل، في رأيي، فعل "خدعة" Trick بارعة يقوم بها ساحر قدير امام انظار مشاهديه في خيمة سيرك جوّال! فالمجمع اياه بمفرداته التصميمية "المتنافرة" شكلا وموادا ووظيفة، نبت امام أعيننا على حين غرة، كأنه "هبط" من السماء فجأة ليستقر في ذلك المثلث الارضي الذي يجاور احد اشهر احياء كوبنهاغن حيّ "كريستيانيا الحرة" Christiania. والحال، أن كتل "مدينة الطفل" تلك، لاتدع اي مشاهد لها، او اي شخص يمر بجانبها من دون تلفت نظره وتثير لديه فضولاً مصحوباً بالدهشة عن قدرة المعمار وجرأته في التعاطي مع كتله المصممة بتلك "الحرية" الطليقة والجدارة في اختيار المقياس المناسب لها والاهلية في تمكين حضورها بالمشهد.
فما نراه من بُنًى وإن بدت، بحكم تجاورها وتلاصقها واتصالها بعضها مع البعض الآخر، تمثل مجمعاً واحداً، الا ان رغبة المعمار وتأكيده بان يكون "الاختلاف" في مواد انشاء تلك البنى، والوانها وتباين اشكال "فورماتها" وتميز طريقة معالجة فتحاتها المختلفة، حاضرا بقوة في صميم قرار اصطفاء اللغة المعمارية واسلوب تنطيقها، ما ولّد إحساساً بالفصل بين تلك البُنى، وكرس شعوراً بـ "واحديتها" المعزولة وثبت تميزها عن مجاوراتها! لكن السؤال يبقى قائما: لماذا هذا الاختلاف التكويني؟ لماذا هذا "التنافر" التصميمي؟
- لماذا؟ - لان "موضوعة" المشروع، وبحسب رؤى مصممي المكتب الاستشاري، تتطلب منهم مثل تلك المقاربة؛ المقاربة التى تعتبر كل تصميم نوعاً من "عملية تغيير" Process of change، ولهذا فانهم يركزون جهدهم على كيفية "تصميم" Design تلك العملية ذاتها، المفضية في الاخير، وطبقا لتلك الرؤى، الى نتائج باهرة وطبعا غير تقليدية.
يَحلُو الى مصممي مكتب "معماريي الشمال" العمل تحت مقولة/ لافتة Motto تنص على ما يلي: "نحن قوم مبدعون..بهدف" Creative people with a purpose. . وعليك ان تفسر هذا "الهدف" كما يحلو لك. اذ انه قد يكون "قصد، او غاية، او سبب او نتيجة او ..نية! وكل هذا وارد لدى اولئك المعماريين الشباب الذين اسسوا مكتبهم الاستشاري الكوبنهاغني سنة 2003. اي في تلك الفترة الزمنية اياها التى أُعُتبرت مرحلة "فاصلة" (..ومفصلية ايضاً) في مسار العمارة الدانمركية، هي التى تكرست معالمها الجديدة ببزوغ عمارة "المكتبة الملكية" <الماسة السوداء>، 1999 (المعماريونSHL ) في المشهد المبنى؛ وأعُتبر ذلك "البزوغ" بمثابة قطيعة لما كان شائعا ومتداولا من طرز "عمارة الحداثة"، مدركة بفهم محدد وذهنية اسكندينافية خاصة! معلوم ان تلك "القطيعة" اثمرت وساهمت بظهور العديد من المكاتب الاستشارية ذات التوجهات المعاصرة وخصوصا "ما بعد الحداثة" منها، مثرية المشهد المهني المحلي وحتى الاقليمي والعالمي بنماذج تصميمية لافتة. لنتذكر مكتب BIG الذي اسسه المعمار الشاب الدانمركي "بياكا انغيلس" Bjarke Ingels (المولود سنة 1974). والذي يعد الآن من المكاتب الاستشارية العالمية المرموقة.
ورجوعاً الى موضوعنا. فمجمع "مدينة الطفل" اياه، هو مكان لرعاية الاطفال نهاراً، والهدف الرئيس له هو الرعاية والاشراف والتسلية لاطفال يرتادونه وقد انهوا وقتهم الدراسي في مدارسهم، وينتظرون ذويهم بعد الانتهاء من عملهم لمرافقتهم الى سكناهم وبيوتهم. ويتراوح سن الاطفال مستخدمي "المدينة" ما بين 0 -15 سنة، وبمقدوره ان يستوعب 700 طفل او اكثر بقليل، ويعد بذلك من أكبر دور رعاية الاطقال النهارية في الدانمرك.
كما أشرنا، قبل قليل، فان فلسفة المكتب التصميمية، تتمسك باطروحة مفادها بان كل مشروع هو "عملية" تغيير. ويتعين "تصميم" تلك العملية ذاتها للوصول الى نتائج غير مسبوقة. وطالما المشروع الذي نتحدث عنه هو "مدينة أطفال"؛ فالتصميم ينبغى ان يكون "مدينة داخل مدينة". ولكن تلك المدينة المستحدثة وان بدت "طفولية"، إلاَّ ان مفرداتها المصممة تشي بما تتضمنه المدن العادية من مثيلات، من هنا تتواجد على سبيل المثال، مبان "كالمتحف"، و"المطعم" و"مبنى البلدية" و"المكتبة" وحتى "مركز اطفاء الحرائق"، بالاضافة الى "ابراج المراقبة" الخ..بمعنى آخر، ثمة توق لدى مصممي المدينة بان تكون هيئات مفردات مدينة الاطفال متساوقة مع اشكال تلك المفردات كما يتصورها الاطفال انفسهم. ولهذا ثمة "عفوية" مبالغ بها تحضر في تصاميم مفردات المدينة، بيد انها عفوية تعيد تأثيث "اشكالها" بعدة فنية، تحمل مزيجاً من الخبرة التصميمية وذاكرة الذائقة الطفولية، مصاغة بتجوال مبدع ما بين المورث التشكيلي للأشياء والتوق باتجاه التجديد. من هنا، تنبع مسوغات الاشكال اللافتة، والالوان الحادة واختلاف المواد الانشائية، التى تسم عناصر مدينة الاطفال واساليب تجميعها وترتيبها في حيز فضائي مشغول بدرجة عالية من الوعي والاثارة. ومما يضفي سمة اضافية الى عناصر المشروع المصمم، الرغبة في تحميل تلك العناصر معانِ مزدوجة، واحيانا غير متوقعة، تتصادى مع ذهنية مستخدمي تلك المدينة ومع تصوراتهم عن الأشياء، ما كسب تلك المفردات وظائف مركبة عكستها صيغ اشكالها المميزة والفريدة المصبوغة بالوان ساطعة ومشوقة. فسطح بوابة مدخل المدينة يتحول الى ساحة لعب داخلية منفذة بهيكل حديدي مصبوغ بلون اصفر ساطع، و"برج الاطفاء" يتجزأ الى مناسيب متعددة تتصل فيما بينها بسلالم دائرية، تغوي مستخدميها الاطفال للصعود والهبوط من خلالها. اما الكتلة الضخمة المميزة "لدار البلدية" في المدينة فقد تضمنت احيازها مساحات فسيحة لاستخدامات متنوعة وجد الاطفال فرص للتسلية فيها كل حسب عمره واهتماماته. وقصارى القول فان جميع مكونات المدينة ومفرداتها التصميمية الاخرى، يمكن لها اداء مختلف الوظائف المتنوعة، وان تكون فضاءاتها "جاهزة" لمتطلبات مرح الاطفال وتسليتهم. ويبدو ان معماريي "المدينة" وضعوا امام اعينهم، وهم في غمرة العمل التصميمي الجاد والمبدع، بان تكون فضاءات العناصر المصممة قادرة على استيعاب الاهداف الوظيفية المركبة، التى تفرضها متطلبات "مستخدمي" تلك المدينة المرحة ..والمشوقة!
عندما زرت مجمع "مدينة الاطفال" مؤخرا وتجولت حوله وصورته بقصد الكتابة عنه (انا الذي أعتبر نفسي مشاهدا له باستمرار لانه يقع على مسار طريقي الى "مدرسة العمارة" في كوبنهاغن، الواقعة في حي "هولمن" المجاور، التي عملت فيها باحثا زائرا لعقد من السنين ولازلت أزور مكتبتها باستمرار)، لفت نظري، وانا أتمعن في أسلوب تجميع مباني المدينة المصممة وفي اصطفاء "فورماتها" المتنوعة، التى بدت لي وكأنها تجميع تلقائي ينطوي على "سذاجة" بريئة وحتى "رعوية" Pastoral، يراد بها، اولاً، استحضار "أميج" المدن الاولى وتلقائية مُجمّعاتها المبنية؛ وثانيا، أن هذا التجميع المعتمد من قبل المصممين واختيار اشكال لافتة لمفرداته يبقى يُنبّهنا، باهمية "المستخدم" الصغير وقيمته في تلك المدينة المصممة ويسعى وراء عكس تصوراتهم عن طبيعة <المدن>، المسكونة في مخيلتهم. وفي اعتقادي، فان تحقيق كلتا المهمتين من قبل مصممي مكتب "معماريي الشمال"، بمثل ذلك الحذق التخطيطي والمهارة في اختيار الاشكال، مثل انجازا تصميميا مبدعا للمكتب ومصمميه!
في العموم، فان مصممي مكتب "معماريي الشمال" قدموا لنا مجمعاً بلغة معمارية لافتة اضافت الكثير (..والجميل!) الى بُنيّة المشهد المبنى، وبالتالي اثرت النسيج المتنوع والمختلف للعاصمة كوبنهاغن. لقد تمكن معمار المدينة، ان يحيل صيغة سلبية "التنافر" التشكيلي لمفردات المشروع، وعدم تجانسها مادةً ومقياساً ولوناً الى نوع من خاصية ايجابية، تعمل على تذكير المشاهد بخصوصية "منتفع" المدينة المصممة وطريقة اسلوب تفكيره. ونرى في مقاربة المكتب واسلوب تصديه للمشكل التصميمي، جهدا مهنيا كفوءاً، يجعل من تلك المقاربة، نهجا تصميمياً جديراً بالاهتمام والدرس.