عمارة يوسف طعمة: التفاعل والتغيير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
صدر حديثا هذا العام (2022) كتاب عن عمارة المعمار اللبناني يوسف طعمة في بازل - سويسرا بعنوان: "حميميات: عمارة يوسف طعمة" Intimacies: The Architecture of Youssef Tohme لمؤلفيه: كارين دانا وسبيستيان ريدكي، عن دار نشر "بركهاوزر" /بازل- سويسرا Birkhäuser-Basel (عدد الصفحات 216 من القطع الكبير). والمعمار "يوسف طعمة" انهى تعليمه المهني من "مدرسة باري- فيليما" Paris &- Villemin المعمارية سنة 1997، وعمل محاضرا في المدرسة اياها في 1999. وما بين عام 2000- 2006 عمل في عدة مكاتب استشارية باريسية بضمنها العمل في مكتب جان نوفيل الفرنسي. اسس في بيروت عام 2008 مكتبا خاصا به دعاه " مكتب يوسف طعمة معماريون ومشاركون" YTAA . صمم ونفذ عدة مشاريع في فرنسا ولبنان، اختير عضوا في الاكاديمية الفرنسية للعمارة سنة 2018. حائز على العديد من الجوائز المعمارية ونال الكثير من المداليات المهنية.
في الكتاب الذي نعرض اليه في هذا المقال، يسرد المؤلفان بعض من تصاميم طعمة اللبنانية والفرنسية، كما تنشر كارين دانا في الكتاب لقاءً مع المعمار يفصل رواه المهنية ويوضح اسس مقاربته التصميمية، اللتين تساعدا القارئ على فهم اعمق لطبيعة العمارة التى يسعى طعمة لاجتراحها وتنفيذها ضمن رؤى خاصة به اراها جديرة بالاهتمام والتأمل.
ما يميّز في عمارة يوسف طعمة هي الرغبة فان يكون المنتج التصميمي الخاص به وبمكتبه وليد مرجعية نظرية ذاتية يسعى من ورائها الى تفسير او بالاحرى "تنطيق" ذلك المنتج وتبيان خصوصيته ضمن خطابه المعماري الخاص. بمعنى آخر، ينزع "طعمة" الى مزج المفاهيم النظرية التى يؤمن بها مع الحلول التصميمية التى يبتدعها. من هنا، تنبع "متعة" المنتج الابداعي الذي يخلقه وتفردة في المشهد، ذلك التفرد الذي أهله ليكون واحدا من ضمن المعماريين الاقليميين المميزيين.
"..مع موت الحركة الحديثة، لم يعد هناك افكار... لا يوجد شئ ما عالمي، لذلك نحن بحاجة الى اعادة الفكير في كل شئ!". هكذا يتحث يوسف طعمة ويفصح عن رؤاه المهنية بكل وضوح ومباشرية. لكن الاهم يبقى التذكير، (وكما اشرنا الى ذلك قبل قليل)، الى نزوع المعمار لان تكون تلك القيم والمبادئ والرؤى التى يؤمن بها المعمار ويتعاطف معها خلفية لمنتج تصميمي يحرص ان يكون مميزا وذا خصوصية محددة. وعن سؤال تطرحه "كارين دانا" في ذلك اللقاء المنشور بالكتاب عن نوعية خبرته المكانية وتجربته الذاتية نحو مكان ما اثر فيه بصزرة دائمية وكرس لديه انطباعا خاصاً، يجيب طعمة سريعاً بانه : البحر، ذلك الفضاء المفتوح الذي يمكنك الولوج فيه واقعيا، فعندما تكون في البحر، وتلامس نعومته، وتكون محاطاً به وتشعر بتيارات مياهه، فانك بذلك تصبح جزءاً منه! ويضيف المعمار بان "..البحر علمنى معنى البيئة المحيطة والشعور بالجو العام". ويذكر ايضاً "... عندما شرعت بدراساتي المعمارية، حرصت ان احلل المدن البحرية ومدن الموانئ، وتساءلت لماذا يشعر ناسها بمثل هذة الدرجة العالية من الحبور والبهجة؟ وادركت بان في تلك المدن مجرد وجود البحر يعزز الروابط الاجتماعية ويحررنا من كل شئ. كما ان البحر له القدرة على ان ينوب ويضطلع عن البيئة المبنية، والاحياز العامة والطرق وكذلك الكلمات وحتى.. الضجيج!، وهو يعلمنى معنى الصمت والتجريد. كما اني ادركت بان البحر باستطاعته ان يمحو محددات القيم المكرسة في المكان وينزع عنها اهميتها، وعندما تدعوه فانه يأتي اليك مسرعاً ويغمرك!". ويضيف ايضا "..ينتج البحر خاصية المحو والطمس والهروب ايضاً، لانه يحولنا عن" المركز" وينقلنا بعيدا عنه. ثمة اهمية قصوى يتعين مراعاتها وتذكير انفسنا دوماً وهي ان الكائن البشري اليوم لم يعد "مركزا" للكون!".
فيلا السيد SC، العاقورة، 2013، المعمار: يوسف طعمة معماريون ومشاركون، منظر داخلي
هناك العديد من المشاريع المنشورة في الكتاب. انها تعكس اسلوب وخصوصية مقاربة المعمار اللبناني. وفي كل مرة ، وفي كل مشروع يطمح "يوسف طعمة" الى جعل <الثيمة> التصميمية التى يتعاطي معها نموذجا وشاهداً على ما يفكر به او ما يطمح اليه.
في فيلا السيد SC المصممة والمشيدة ما بين 2010 -2013 في العاقورة بقضاء جبيل ، ـ والتى تبعد نحو 68 كم عن العاصمة بيروت، يتوق المعمار الى "تهشيم" التصور التقليدي لمفهوم الدارة ويسعى الى الغائه من "الذاكرة" الاسكانية المألوفة. فهو هنا يتيح لنفسه، وتجاوباً مع رغبة <العميل>: رب الدارة المستقبلي (وتفاعلا مع هواجسه بالعزوف عن السكن في المدن الكبيرة وضجيجها ليستقر في مكان ناءِ وبعيداً عن الناس)، ان يقترح منهاج عمل مفاهيمي خاص به لجهة بلوغ مسعاه التصميمي. فبالاضافة الى "عزلة" موقع الدارة وبعدها عن الآخرين، والواقعة على ارتفاع بلغ 1200 متراً، فان المعمار ينزع الى تكريس الاحساس بتلك "العزلة" من خلال اصطفاء حل تكويني- فضائي تحضر فيه مقومات الانغلاق الشكلي بمظهره وعنوانه وسماته بصورة جليّة. فالدارة ذات الجدران المصمتة تقريبا والواطئة الممتدة افقيا كرجع صدى لخصوصية افقيات الموقع المجاورة، تفتح من جهة واحدة على الوادي الذي تطل عليه، عبر ممر عريض مكشوف من الجانبين ومسقف من الاعلى، ويتصل عضوياُ مع فناء الدارة الوسطي المفتوح، هو الذي يرشد ويغوي ساكني وزوار الدارة بالنظر نحو السماء في اتجاه قمم الجبال المحيطة! في داخل فضاء غرفة المعيشة الواسعة، "يحفر" المعمار "فتحة" كناية عن نافذة في جدارها الممتد طوليا والمقسم بالواح افقية لرفوف تحمل الكثير من الكتب والقليل من التذكارات. وتغدو تلك "الفتحة" وكأنها <لوحة فنية> مؤطرة لمنظر طبيعي ضمن فضاء الغرفة ومفردات الانترير الداخلي الذي اتسمت اجواه بالكثير من التقشف وعدم الاسراف وبزهد "مينمالي" minimally مؤثر. وتُذكّر واقعة "الحفر" هذة (تذكرني شخصياً) بتلك المعالجة التصميمية غير المتوقعة (والمدهشة ..ايضاً)، التى اجترحها "لو كوربوزيه"، يوما ما، في السياج العلوي لفيلا سافوي Villa Savoye في بواسي بضواحي باريس!
في مشروع "منتجع كالاني" البحري (2012 -2017)، الواقع في قرية "حالات" جنوب جبيل. (بالمناسبة في حالات تقع ايضا "فيلا رفعة الجادرجي": المعمار العراقي الرائد المصممة من قبله والمنفذة سنة 1969، والتى زرتها خصيصاً بصحبة الصديق المعمار د. حبيب صادق)، في هذا المشروع يصبو المعمار اللبناني الى توقيع مكونات المشروع في قسمين رئيسيين من الموقع المختار والممتد افقيا بجوار ساحل البحر بطول يصل الى 220 مترا. ففي القسم الاول من الموقع ثمة حوض سباحة طويل ونحيل متاخما للبحر ومجاورا لمنطقة مخصصة للتشميس والاسترخاء والتمتع برؤية المنظر البحري الممتد. في حين ينشر في القسم الثاني من الموقع مباني المنتجع المتنوعة الآخرى والمتكونة من فندق ومطعم وكتل لمبانِ خدمية مساعدة، اضافة الى بُنى لاجنحة بمساحات وظيفية متباينة، تشكلها وحدات بنائية عددها خمس وحدات تتوزع في الطرف الاخير من هذا القسم. وتلفت النظر عمارة هذة الاجنحة من خلال اشكالها المميزة. فكل "بُنية" من تلك البنى تتشكل من خلال ثلاثة الواح قشرية Shell منحنية معمولة من الخرسانة، وهيئاتها متفاوتة موقعيا وشكليا. تغطي اثنان من تلك الالواح جانبي البنية المبنية، في حين يبرز اللوح الثالث القشري الخلفي ويتقاطع مع اللوحين الاثنين الآخرين، مغطيا في الوقت نفسه فضاءات الخدمات المساعدة من حمامات ومرافق صحية وسلالم.
في محاولته التقصي عن حل تصميمي لافت لمشروعه البحري هذا، يذهب يوسف طعمة بعيدا في اتجاه بلاغة تصميمية فريدة، تتجلى في خلق تشكيلات تعبيرية استثنائية، تعيد "فورماتها" اللافتة الى الذاكرة "اميج" مرآى اشرعة المراكب البحرية التى تنتشر عادة في عرض مياه البحر. كما يسعى المعمار وراء نشر مواقعها في صيغة يتوخى منها منح الرائي لها امكانية ان ترى بمشاهد بصرية مختلفة، كلما تحرك ذلك الرائي وغيّر من مكان موقعه الناظر لها. وفي سبيل ترسيخ مضاف لمكانة تلك البنى في مخطط المجمع، فانه يلجأ الى استثمار اشكالها النحتية المميزة و"فرتكاليتها" الواضحة وجعلها متعاكسة مع افقية مفردات المجمع الآخرى، موظفا في هذة الحالة مهمة "التضاد" التكويني الذي خلقه كوسيلة ناجعة لبلوغ مسعاه التعبيري. وفي النتيجة فنحن ازاء حلول تصميمية مثيرة تجذب الانتباه وتفتن مشاهديها بلغتها المعمارية المبدعة!
منتج كالاني البحري، حالات، 2017، المعمار: يوسف طعمة معماريون ومشاركون، وحدات البُنى القشرية
في ما يخص البناية السكنية المسماة (A599) في الاشرفية ببيروت (2013 -2019)، والتى تقول عنها مؤلفة الكتاب " كارين دانا" بانها ".. مثالا رمزيا للاسلوب الذي يتبعه مكتب يوسف طعمة ومشاركوه بغية ايجاد علاقة ربط ما بين المسكن ومحيطه وانتاج هدوء وسكينة في قلب وسط المدينة ونسيجها العمراني". نحن نتحدث عن مبنى سكني متعدد الطوابق يقع على احد شوارع مركز الاشرفية، الحي المعروف في بيروت. ويتخذ الموقع شكلا مثلثاً وبتفاوت مستوى ارضي ملحوظ (يصل الى عشرة امتار) ما بين منسوبيّ جهته الجنوبية والشمالية. ويرتفع المبنى من جهة الى احدى عشر طابقا، لكنه ايضا "يغوص" تحت الارض بسرداب يصل عمقة نحو ستة طوابق مخصصة لموقف السيارات والخدمات. ويتميز المبنى بهيئة قمته اللافته وبشكلها المثلثي المقطوع.
تعتمد لغة المبنى التصميمية على تشغيل القيمة "التكتونية" Tectonic كأجراء تكويني أساسي لجهة احراز اكبر قدر من أحساس جمالي نابع عن نوعية الاسلوب الانشائي المختار. فاعمدة القوام الانشائي الهيكلي هي التى بوجه عام ولوحدها تقريبا تخلق القيمة الجمالية للواجهات وتعمل على ايجاد منظومة من تقسيمات شاقولية وافقية متنوعة تضيف ثراءً ملحوظاُ على جماليات العمارة المصطفاة ولغتها المتفردة. ويلجأ المعمار الى خلق تطليعات انشائية Cantilever عديدة في واجهته الشمالية تبرز كثيرا عن مستوى تلك الواجهات، يراد بها اضافة مساحية ووظيفية للشقق السكنية من جهة ومن جهة آخرى زيادة قوة تعبيرية تلك الواجهة وبالتالي اغناء جمالي اضافي لعمارة المبنى!
لكن اللافت في عمارة المبنى هو اسلوب "تسقيف" قمته، حيث تميل الاضلاع الشاقولية في الواجهتين الشمالية والجنوبية نحو الداخل عند سطح المبنى لتكوّن هيئة مثلثة الشكل تضفي مشهداً جديداَ وغير تقليدي على سطوح المباني متعددة الطوابق. وهذا الاضفاء التشكيلي المميّز منح شكل المبنى نوعا من فرادة تصميمية، اتسم بها مبنى الاشرفية ضمن نسيج البيئة المبنية المحيطة. ويبدو ان تلك "الفرادة التصميمية" وجدت لها صدىً في مكان آخر وعند "عمل" لمعمار آخر. وانا اعني بالذات تشكيلات قمم مباني "ببير إن" Papirøen (جزيرة الورق) في حي كريستيانسهولم Christiansholm في كوبنهاغن، المدينة التى اقيم واسكن فيها بالوقت الحاضر. فالمكان الجديد الذي سبق وان شغلته مخازن للورق، اعيد تصميميه بالكامل من قبل مكتب "كوبه" Cobe المعماري الدانمركي، اثر فوز المكتب بالمرتبة الاولى في مسابقة معمارية نظمت لاعادة تصميم الجزيرة سنة 2016.
والسؤال يبقى قائماً هل نحن إِزاء فعاليّة "تناصية" Intertextuality وجدها معمار "جزيرة الورق" امراً ملائما ومقبولاً في استعارة واضحة من مداخلة المعمار اللبناني بالاشرفية؟ فتاريخ كلا التصميمين مختلف والأبكر هنا هو التصميم البيروتي الذي يعود الى 2013، في حين تشير وثائق تاريخ المشروع الكوبنهاغني الى سنة 2016. ام ان الأمر مجرد "توارد خواطر" Telepathic، يمكن بها ان يبرر المعمار الدانمركي مساهمته تلك بتوق استحضار مَرآى "الجَمّلونات" Gables و"اميجها" المتنوع، التى لطالما اقترن وجودها في حلول تشكيلات اسقف مباني المخازن التقليدية الدانمركية، العاجة بها، يوما ما، مستودعات جزيرة الورق! واياً تكن الاسباب والحوافز، فنحن امام محاولة تصميمية تنزع الى تأثيث قمم المباني متعددة الطوابق بصيغ فنية تحمل مزيجاً من خبرة الاطلاع ومهارة الجهد التصميمي مع التثاقف ومراعاة ذاكرة المكان. وكل هذا اسس لحالة بان يكون كلا التصميمين مادة للتفاضل بينهما من قبل الجمهور الرائي لهما، وبالتالي الحكم عليهما وتقييم جودة الحل التصميمي المجترح وجدواه.
وكما اشرنا سابقاً فان الكتاب المنشور يتعاطي مع تصاميم عديدة انجزها مكتب "يوسف طعمة معماريون ومشاركون"، وهي تصاميم لا تقتصر جغرافيتها المكانية على الارض اللبنانية وانما ثمة مشاريع لافتة انجزها المكتب في فرتسا وفي رومانيا وفي بلدان اخرى. وجميع تلك التصاميم سواء كانت خارج بلده ام في لبنان (..وخصوصاً في لبنان!) يربطها هاجس واضح بان تكون مخرجاتها التكوينية ذات صلة باجتهاد نظري يسعى "يوسف طعمة" لان يكون حاضرا بقوة في صميم تلك العمارة التى ينتجها، العمارة التى لايتردد مصممها ان تكون متفاعلة مع ما يحيطها وغير وَجَلة من التغيير. ونرى في مقاربة هذا المعمار المتميز تنويعا واثراءً للمشهد المعماري الاقليمي وخطابه.