عبد الوهاب آمن بموهبته.. وظلمه النقاد
محمد سلطان.. الموسيقار الذي أحب فايزة أحمد وصنع النجوم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الحديث عن الموسيقار محمد سلطان الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، حديث ذو شجون لأسباب كثيرة. أولها هويته الفنية كموسيقار، التي إحتاجت إلى سنوات من الجهد، إضافة الى دعم زوجته الأسطورة الراحلة فائزة أحمد، للإعتراف بها من قبل النقاد، كونه لم يبدأ مسيرته الفنية كموسيقي، بل كممثل، بعد أن أنهى دراسة الحقوق. وثانيها علاقة الشهد والدموع التي جمعته بحب عمره الفنانة فائزة أحمد، التي أحبته من النظرة الأولى، وتزوجا وعاشا معاً قصة حب عاصِفة لسنوات، لم تنته حتى رحيلها، رغم أن زواجهما إنتهى بالطلاق.
محمد سلطان وفايزة أحمد(تويتر)
نشأته
ولِد الموسيقار الراحل لأسرة راقية، ونشأ في بيت يعنى بالثقافة والفن، فقد كان والده ظابطاً في الشرطة، تقلد العديد من المناصب الهامّة، ومهتماً بالثقافة والإطلاع، ولديه مكتبة كبيرة في البيت. أما والدته فكانت بنت ذوات تتذوق الموسيقى وتعزف البيانو والعود، نقلت له عدوى حب الموسيقى، وشجعته على تعلمها وهو صغير وباتت شغله الشاغل. لم يكتفِ بتطوير قدراته في العزف فقط، بل بدأ في إكتشاف مَلَكاته بتأليف مقطوعات موسيقية قصيرة من وحي خياله وهو بعُمر ثمان سنوات.
وبعد أربع سنوات، وحينما كان الموسيقار محمد عبد الوهاب يقضي أجازته الصيفية في فيلا مجاورة لفيلا أسرة الموسيقار الراحل، قرر يوماً أن يزوره، ولم تشأ الظروف أن يحصل اللقاء، لكنه لم يستسلم وحاول ثانيةً حتى تحقق له مراده، فقد قابله موسيقار الأجيال فعلاً وسأله: تعرف تعزف، أجابه بنعم، فناوله العود وقال له سَمّعني، فأسمعه لحن من ألحانه، وبعد أن إنتهى إحتضنه وصَحِبه الى بيتهم، وقال لوالده: "أهتم بالولد ده لأنه هيبقى عبد الوهاب ثاني، أنا لا أذهب لأي شخص، لكن إبنك أبهرني بموهبته وهيبقى حاجة كبيرة وموسيقار ذو شأن".
ليس سهلاً أن تقف إلى جانب عمالقة تلحين، سبقوك وصالوا وجالوا في ميدانه قبلك بعقود، ومنهم أساتذتك الذين تبنّوك طفلاً، وتعهدوا موهبتك بالرعاية شاباً، لكن سلطان تمكن من تحقيق ذلك، وبات يوضع بعد أعوام معدودة مِن لمعان إسمه كملحن، إلى جانب موسيقيين كبار كمحمد عبد الوهاب والسنباطي وفريد الأطرش والموجي وبليغ حمدي. إتّسَمت ألحانه بأنغامها الرشيقة النابضة بالحياة والحركة مع مسحة من الشجن، وهو أمر مَيّزه عن غيره من الملحنين. إلى جانب تنوع المقامات الموسيقية لمقاطع العمل الواحد، وغياب وحدة الموضوع بينها في الأعم الأغلب من ألحانه، بعكس السنباطي وبليغ والموجي ومكاوي، وهو أمر تأثر به غالباً من أستاذه ومثله الأعلى محمد عبد الوهاب، الذي بات هذا النمط واضحاً بأعماله الأخيرة الطويلة، مثل لحن "أسألك الرحيلا" أو "من غير ليه". فكل مقطع من مقاطع الأغنية له لحن مختلف عن سابقه ولاحقه، وقد يبدو غير منسجم معه للوهلة الأولى أحياناً، وهو أمر تمَيّزه الأذن الموسيقية فوراً، لكن مهارة عبد الوهاب وتلميذه سلطان في الربط السلس بين المقاطع، قادرة على جعلك تتجاوز عدم الإنسجام بفضل جماليتها والتنسيق الهارموني فيما بينها. الوحيد الذي كان يمتلك مَلَكة إذابة الخط الفاصل بين مقاطع ألحان أغانيه رغم إختلاف مقاماتها، بل حتى ولو كان أحدها شرقياً، والذي يليه ويسبقه غربياً، دون أن تميز الإذن ذلك، هو موسيقار الأزمان فريد الأطرش.
كان وسيماً وله نظرة جذابة، لذا أحبته الراحلة فائزة أحمد من النظرة الأولى، فكان حبها له بجنون. وقد روى في أكثر من لقاء كيف كانت ترافقه كظله وتمسك بيده وتجلس بأحضانه، كلما سنحت الفرصة. وكيف كانت تمتص غضبه حينما يتشاجران، رغم عصبيتها المفرطة. وكيف كانت تدعو أن يكون يومها قبل يومه، لأنها لن تقوى على العيش بعد رحيله وفراقه، وقد تحقق لها ذلك.
أما هو فأحبها بصدق وإخلاص، وعاش بعد رحيلها مع ذكراها وذكرياتها، التي إحتفظ بكل تفاصيلها، ومع صورها التي كانت تملأ الشقة، التي عاشا فيها وشهدت قصة حبهما وأجمل أيام حياتهما، من الحائط إلى الوسائد التي يتكيء عليها جالساً ويتوسدها وهو نائم. لم تجف دموعه عليها، وكان حتى رحيله يبكيها كالأطفال، كلما سمع بإسمها أو تحدث عنها، رغم مرور عشرات السنين على رحيلها. في لقاءه مع الفنانة صفاء أبو السعود في برنامج "ساعة صفا"، الذي وثق لنا الكثير عن هؤلاء العظماء، تحدث بإسهاب عن لقاءه الأول بها، في منزل الموسيقار فريد الأطرش. حينما رأته بادرته بالسؤال: هل أنت طيار؟ أجابها بـ"لا"، فردت: بس أنت شكلك طيار، يقول أجبتها طيار طيار. وهنا تدخل الموسيقار فريد قائلاً: هو ممثل مبتديء شاركني بفيلم "يوم بلا غد"، فقالت: الشاب ده زي القمر لازم تشغله بكل أفلامك. بعدها أعطته رقمها وقالت له إتصل بي وسأنتج لك فيلماً. لم يتصل بها، وشائت الظروف أن يلتقيا بعد سنة صدفة بأحد الفنادق، فجلست معه وسألته لِمَ لَم يتصل، فأجابها بأنه قد أضاع الرقم، فأعطته إياه من جديد، ومَرّت أشهر ولم يتصل أيضاً لإنشغاله، ولأنه لم يأخذ الموضوع على محمل الجد. حتى جاء اليوم الذي إتصلت به صديقة مشتركة لهما ودَعته الى بيتهم، ثم إتصلت بفائزة التي دعتهم جميعاً على العشاء، وهناك تمَشّيا معهاً وبدأ يغني لها وتغني له حتى إنقضى الليل.
مع حب حياته الفنانة الراحلة فايزة أحمد(تويتر)
إعلان حب
بعدها، تطورت علاقتهما كأصدقاء دون أن يكون هنالك إعلان حب من الطرفين، رغم أن مشاعرها تجاهه كانت واضحة، وفي يوم كانا معاً وبدأت تبكي بسبب وضع علاقتهم المعقد، فسألها: تتزوجيني؟ فردت عليه: لكنك لا تحبني، يقول فأجبتها: لكني سأحبك. وقد صدق في وعده، لأنه كان صادقاً مع نفسه، ومع فنه، ومع الآخرين.
بعد ذلك أحبها فعلاً وبكل جوارحه، وضرب في حبه لها أروع الأمثلة في الوفاء، ولحن لها أروع وأجمل أغانيها، أولها "أؤمر يا قمر" ثم "عتاب"، مروراً بـ "حبيتك"، "إنساني"، "جاي القمر"، "بكره تعرف"، "أعلنت عليك الحب"، "صعبان عليا"، "على وش القمر"، "دنيا جديدة"، "مال عليا مال"، "غريب يا زمان"، وصولاً لرائعتها "أحلى طريق في دنيتي"، كما كانت لهم دويتات معاً. أما حياته معها فقد كانت شهد ودموع، فإلى جانب أيام العشق والصفاء والدلال التي منحته إياها، كانت هنالك ليالي من المعاناة بسبب مزاجيتها وعصبيتها، ثم جاء الطلاق. رغم ذلك لم يفترقا، لا فنياً ولا إنسانياً، فقد بقي يتواصل معها، ويلحن أغانيها، ويُعيدها في مرضها وإلى جانبها حتى لحظاتها الاخيرة. وربما هذه المعاناة هي التي أضفت على موسيقاه وألحانه مسحة حزن وشجن تطغى عليها في بعض الأحيان تماماً، مثل لحن أغنية "حكاية كل عاشق" لهاني شاكر، و"جرح الحبيب" لسعاد محمد، و"أحلى طريق في دنيتي" لفائزة أحمد.
مشواره مع السينما
رغم شغفه بالموسيقى، فإن بداية مشواره الفني كانت مع السينما في أفلام أهمها "يوم بلا غد" مع هنري بركات 1962، "الناصر صلاح الدين" مع يوسف شاهين 1963، "عائلة زيزي" مع فطين عبد الوهاب 1963، "باحثة عن الحب" مع أحمد ضياء الدين 1964 و"العتبة جزاز" مع نيازي مصطفى 1969، لم يكن فيها دور بطولة، لكنها كانت أدوار جميلة كشفت عن موهبة فتية، كان يمكن أن تجد طريقها الى النجومية، لو قدر لها أن تستمر وتتطور وتنضج. لكن القدر رَجّح كَفّة الموسيقى، لأنها كانت شغفه وحلمه وشغله الشاغل. لذا بالإضافة الى الأغاني التي لحنها لنفسه وكبار المطربين، فقد وضع الموسيقى التصويرية لنحو 50 فيلماً، أبرزها "التوت والنبوت"، "النمر والأنثى"، "الراقصة والسياسي"، "همس الجواري"، "زوجة محرمة"، "ليه يا دنيا"، "يا عزيزي كلنا لصوص" و"المطارد" وغيرها.
صانع النجوم
كان يوصف بصانع النجوم، وهو فعلاً كذلك، فرغم أنه ليس الوحيد الذي ساهم في إكتشاف وشهرة مطربين، سواء من خلال تبني مواهبهم، أو إعطائهم لحن يكون سبباً بشهرتهم، إلا أن سلطان كان معروفاً بذلك، ربما لمَلَكة كان يمتلكها، أو صدفة كما كان يحب وصفها تواضعاً منه، لكنها ويا للصدفة تكررت مع الكثيرين! إذ يمكن أن يُقال أن محمد سلطان كان مُكتشف هاني شاكر ومحمد ثروت وأصالة ونادية مصطفى، أو بشكل أدق، سبب نجوميتهم. فنظرياً هُم لم يبدأوا معه، لكنهم لم يجدوا طريقهم الى الشهرة ويعرفهم الناس سوى عن طريق ألحانه. "سيبوني أعيش" و"حكاية كل عاشق" كانت سبب شٌهرة هاني شاكر، و"حالة حب" و"حاسب على قلبي حاسب" صنعت نجومية محمد ثروت، كذلك فعلت "خُذ قلبي وروح" و"سامحتك" و"ولا تصدق" مع أصالة، و"مسافات" و"شباكنا العالي" و"مكتوب عليا" مع نادية مصطفى، بل وحتى مطربة عملاقة ومشهورة مثل سعاد محمد تألقت وباتت لها هويتها وبصمتها الفنية الواضحة بألحانه لأغانيها "أوعدك" و"جرح الحبيب". كما لا يخفى أهمية ألحانه في مسيرة مطربين مشهورين مثل الشحرورة صباح التي لحن لها "العشق ملوش كبير"، ومحرم فؤاد الذي لحن له "قدك المياس" و"قالوا كتير"، وميادة الحناوي التي لحن لها"أكثر من الحب" و"آخر مرة"، وسميرة سعيد التي لحن لها "وبَحِب" و"الدنيا كده" و"الليلة دي" و"حكاية".
هذا الأمر كان يعرفه أقرانه وأساتذته، وهناك قصص مشهورة تؤكد ذلك. إحداها مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي أرسل له هاني شاكر، بعد أن قدمه له مأمون الشناوي وقال له: "إذا كنت عاوز تختصر الطريق فإذهب الى سلطان"، ثم إتصل به قائلاً: "بعثت لك مطرب شاب يدعى هاني شاكر، لديه صوت جميل، أرجوا أن تلحن له حاجة حَرّاقة، أي تشهره". والثانية مع الموسيقار سيد مكاوي، الذي قال لأصالة: "إذا أردتي أن تشتهري، فإذهبي الى سلطان ليلحن لك"، رغم أنها غنت قبلها له وللموجي ولحلمي بكر. كان الموسيقار سلطان مدرسة موسيقية سلطانية ثرية بنتاجها، وقيمة فنية كبيرة بتأثيرها، وقامة إنسانية خالدة في خلقها وأخلاقها، وفي القيم الإنسانية الراقية التي كانت تتعامل بها ومن خلالها مع الآخرين.
ظلم النقاد
ظُلِم الموسيقار الراحل في حياته من قبل النقاد، بِعَدم تسليط الضوء عليه أسوة بباقي زملاءه الموسيقيين، في تصرف لا يمكن أن يكون له سوى أحد تفسيرين. الأول أنه لم يكن يُحابي لكي يُسَوّق لنفسه.
والثاني أنهم يرون بأنه لم يَصعد السُلم مِن أوله، بل بإسناد الراحلة فائزة أحمد، وهو أمر حتى لو كان صحيحاً في بداياته المبكرة، وهو نفسه لا ينكره، إلا أن موهبته عَبّرت عَن نفسها سريعاً، وحَصل بعدها على تزكية عمالقة الموسيقى، على رأسهم موسيقار أجيالها محمد عبد الوهاب الذي كان عَرّابه، وموسيقار أزمانها فريد الأطرش الذي كان من أقرب أصدقاءه، وكانا يستأنسان برأيه في الحانهم.
وظُلِم في سنواته الأخيرة بعَدم السؤال عنه من قبل زملاءه الفنانين، خصوصاً بعض مَن كان له فضل إكتشافهم ونجوميتهم، وبعد رحيله بعَدم حضور بعضهم لتشييعه أو عزاءه.