ثقافات

في دراستها النقدية بعنوان "سلطة النسق واستجابة البنية"

الناقدة المصرية هدى عطية تُضيىء على "الشعرية العربية الجديدة"

الناقدة المصرية د. هدى عطية
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في دراستها النقدية التي حملت عنوان "سلطة النسق واستجابة البنية: قراءة ثقافية في تحولات الشعرية العربية"، تسعى الناقدة المصرية الدكتورة هدى عطية، إلى قراءة الشعرية العربية الجديدة على امتداد مراحلها وتنوع تحولاتها كشفًا لشفراتها ومضمراتها النسقية المهيمنة، ورصدًا لاستجابة البنية النصية لهذه الهيمنة.

الدراسة التي جرى مناقشتها ضمن سلسلة الفعاليات الثقافية الدورية لبيت الشعر بمدينة الأقصر التاريخية في صعيد مصر، تحاول تتبع سيكولوجية التلقي والتفاعل والتفضيل المجتمعي للشعر الجديد في مراحله وتحولاته، وصولا إلى سبر أغوار العلل الكامنة وراء تعامل المتلقي معه في كل مرحلة تكريسا أو تهميشا.

وبحسب نصوص الدراسة، فهو أمر لا يتحصل للناقد إلا بقراءة فاحصة تكشف الأنساق الثقافية الفاعلة مثلما تكشف دلالاتها النامية وتعرّي خباء تمثلاتها النصية.

وتذهب "الناقدة المصرية"، من خلال دراستها، إلى القول بأنه من الصعب الامساك بجدليات الأنساق الثقافية المضمرة بغير حوار واع مع الأبنية الجمالية.

تستحضر "عطية" في طرحها رؤية الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، التي تؤكد على أن "الجمالية هي أخطر حيل الثقافة لتمرير أنساقها وإدامتها".
وهذا يعني ضرورة الإعلاء من شأن الوظيفة الجمالية في بنية الخطاب الثقافي - من جهة- والاعتراف بقدرة البلاغي والجمالي في المراوغة وتوليد الأنساق من جهة أخرى.

سلطة صناعة التحول
وتؤكد دراسة الدكتورة "عطية"، على أن المقاربات النقدية التي حاولت تتبع تحولات الشعرية العربية اتكاء على منهجية بنيوية، وما تضمنته من رؤى، تحتاج إلى مزيد من المراجعة والمساءلة.

وتشير إلى أن مقاربة فكرة التحولات في الشعر خاصة أو في الأدب بوجه عام تدفعنا إلى طرح أسئلة ضرورية:
-من أو مـا هو الفاعل الرئيس الذي يمتلك سلطة صناعة التحول؟
-وكيف يؤسس لعدول النوع الأدبي عن صورة ما كان عليها، أو ارتحالاته إلى وجهة أخرى تحت لواء النوع نفسه؟ -وهل تحولات الشعرية العربية التي نقر حدوثها هي صناعة مبدع (رائد) يصادف أن يجد سميعا بين من يحتذون نهجه من مجايليه ومعاصريه، أم تعد تلك التحولات استجابة حتمية لتحولات مناظرة تتعلق بذائقة التلقي، فيكون الإبداع مدفوعا رغما عنه إلى اللعب في بنيته تغييرا وتطويرا ومخالفة استرضاء لقارئه؟

وتوضح "عطية" في دراستها، أن البنيوية في بعديها التكويني والتوليدي ذهبت منحى وجيها في تفسير فعل التحول الأدبي داخل سياق النوع، مؤكدة أن هناك تناظرا دائما غير مباشر ولا شعوري بين البنية الجمالية النصية والبنية الاجتماعية، بمعنى أن كل تحوّل جذري أو تغيّر هامشي في البنية الاجتماعية سيترتب عليه بالضرورة تحوّلات جذرية أو تغيّرات هامشية في بنية النوع، وجمالية النص.

واعتبرت أن الإله الخفي الذي يخطط عمدا تحولات الشعرية العربية بينما يصنع الرؤية الموحدة للمجموع العربي، هو الوعي التاريخي، مشيرة إلى أن التاريخ يحدد مساره بوعي تام قبل أن يتحدد مسيرة، يبدأ من قراءة إشكالات اللحظة، ويخطط للخروج من تلك الإشكالات عبر مجموعة من البني التي يدفعها إلى التحول بني افتراضية إلى بنى ثقافية تكرس لذاتها وحضورها بوعي تام من خلال وجودها في كل منتج ثقافي ينتمي للمرحلة، ومن ثم ستكون العلاقة بين البنية الشعرية والاجتماعية علاقة تبادل يتخلق عنها -لا شعوريا- رؤية العالم.

نسقان ثقافيان
ورأت الناقدة المصرية، في دراستها: "سلطة النسق واستجابة البنية: قراءة ثقافية في تحولات الشعرية العربية"، أن الشعر بمختلف اتجاهاته وتجلياته وتحولاته هو حادثة ثقافية بقدر ما هو حادثة جمالية؛ فكل شاعر يعاني بالضرورة تاريخيته، ويمتص رغما ما تفرزه سياقاتها من أنظمة وقوانين وأعراف تسري خفية في بنية شعره ومادته الفنية، حيث يتولد عن الثنائية المتمثلة في علاقة الشاعر / التاريخ والشاعر/ النص نسقان ثقافيان هما بمثابة وجهين لعملة واحدة: نسق واقعي (ظاهر) يتم تكريسه والانتصار له، يرتبط بالسياق الخارجي أو التاريخي المحيط بالشاعر، ويعد افرازًا لثقافة المؤسسة الاجتماعية والمرجعيات والأيديولوجيات الخاضعة لها. ونسق شعري (مضمر) هو الوجه المثيل للنسق الثقافي الظاهر الذي رام لنفسه خباء نصيًّا متخذًا من فعل الاختباء فيما هو جمالي استراتيجية في ترسيخ وجوده وفروضه ومقولاته.

وأوضحت بأن حضور الأنساق الثقافية المضمرة في الخطابات الشعرية يتأرجح بين حالين: حضور مطمئن يشي بسلطة الثقافة وهيمنتها وقدرتها على إخضاع ذوات هشت لها إبداعا وتلقيا- وهو الوضع الأعم والأكثر تحققا- وحضور آخر قلق؛ فربما تناوش تلك الأنساق المضمرة لمح بصر أو بصيرة فعانت صراعا ناجما عن محاولات تعريتها وكشف عيوبها حيث تستفيق الرؤية الشاعرة على حيل الثقافة في تثبيت أنساقها داخلة معها في ضرب من المساءلة لما تتعمد إضماره في الخطاب الشعري، وقد تبلغ المساءلة حد التمرد على الأنساق لتشكيل عالم لا تكون فيه الذات الشاعرة مجرد بوق للثقافة السائدة، فيكون الشعر في أسمى تجلياته محاولة لمعالجة الواقع الثقافي بكيفية أو بأخرى.

الانفجار الحداثي
وتقول الدراسة بأنه حين نتأمل الشعرية العربية الجديدة نكتشف أن أحد أهم المفاهيم التي لعبت دورًا أساسيا في مختلف مراحل الانفجار الحداثي كان مفهوم العضوية بأشكاله وصيغه وتمثلاته المختلفة.
فمن مرتكزات نقد الرومانتيكية لشوقي مفهوم "العضوية"، ومن منطلقات الكتابة لدى مدرسة أبلو والرابطة القلمية مفهوم آخر للعضوية قائم على وحدة الوجود ووحدة العالم. والمفهوم ذاته شغل مكانة مركزية في التبدي الحداثي الثاني فأنتج الشعراء من أمثال السياب ونازك الملائكة وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور.. وغيرهم، نصوصًا تقوم على العضوية العميقة التي تنهض عليها القصيدة الجديدة في مرحلتها التكوينية، حيث تنقد ككل لا يتجزأ شكلا ومضمونا، وأن إدراك الشكل فى قصائد هؤلاء الشعراء وأمثالهم، يتطلب وعيا شعريا كبيرا يتناول معرفة الأجزاء في مادة القصيدة، وعلاقات هذه الأجزاء بعضها بالبعض الآخر، وائتلافها فيما بينها ووحدتها، ومن لا قدرة له على هذا الإدراك لا يقدر أن يفهم القصيدة الجديدة ولا الأشكال الشعرية الجديدة، وذلك كما ذهب أدونيس في بياناته حول الحداثة.

ولفتت الدراسة إلى أن المكتبة العربية تزاحمت بأبحاث سعت إلى تأكيد مركزية العضوية والوحدة في مقولات الحداثة وإنجازاتها الفنية، واتخذت هذه الاندفاعة النقدية فيما يتصل بالشعر مسارين، عني أحدهما برصد مظاهر العضوية والوحدة في بنية النص الشعري المعاصر إثباتا لجمالية تلك البنية وتأكيدا لقدرة الخيال الخلاق فيها، بينما اتجه الآخر في حركة استرجاعية صوب الشعر القديم محاولا التدليل على أن نصوصه هي أيضا تتمتع بوحدة عضوية ما. ووفقا للدراسة فقد شارك في هذا الجدال عشرات النقاد عبر دراسات ومقاربات منهجية مختلفة، وتراوحت الآراء حول مطلب العضوية وقيمته في الشعرية العربية حضورا وغيابا، لكن لم ينتبه أحد إلى ظهوره باعتباره تجسيدا لنسق ثقافي مضمر، واستجابة شعرية ملائمة وموائمة للطابع التاريخي للمرحلة وللسياق الثقافي الحاكم لها، ذلك الذي عمد إلى تكريس التعاضد محتفيا به ضمن منظومة أنساقه. فلقد دخلت مقولة العضوية الثقافة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي، تنتصب راية خفاقة تزامنا مع انتصابها راية عالية في الحياة السياسية العربية، وفي ذلك المفصل التاريخي أتي الشعر الجديد ليجسد هذه الرؤية الجماعية.

وتشير عطية إلى أن نسق التعاضد ظل قائما إلى أواخر الستينيات، إلى أن تولد من رحم الانكسارات العربية نسق ظاهر جديد هو ما دعته بنسق (التفكك) فى مقابل نسق العضوية.
ونوّهت نصوص الدراسة إلى أنه "لم يعد للقصيدة بؤرة تفيض منها، بل أصبحت سمة الإنتاج تنوعه وتناثره وتعدد أنماطه؛ ذلك لأن الرؤية والأيديولوجيا انهارتا معا وانهارت معهما الذات، هناك موت لمفهوم الذات والوعي الكلى ليحل محله الوعي الجزئي الحسي فى الغالب وهكذا تبدو صور ولقطات ولمحات ولفتات بغير مركز ولا وشائج رابطة. وتتراوح النصوص بين المتفجر عاطفيا والجاف في ظل إلغاء للذات التي تعاني لصالح الذات التي تعاين، وتبلغ تشظيها بحجم تشظي ما تعاينه وقد انهارت واحديتها وعضويتها.

الدافع السيكولوجي
وتابعت الناقدة الدكتورة هدى عطية بالقول: " إنني لا أعتقد أننا نواجه أزمة في الإبداع الشعري، فقد تمخضت عنه الثقافة حاملا جيناتها التكوينية، مجسدا رؤيا العالم الحالية، التي حددتها بانهيار المركز وتفتته وتفككه. فالأزمة الحقيقية تكمن فى سياق الثقافة ذاته؛ فغياب الأيديولوجيا، ونفي الآخر، وتقليص الفضاء وتهميشه، كلها عوامل يعيشها الإنسان العربي فى كل بقاع أقطاره، ومن ثم يمكن أن نرجع عدم تواصل الجمهور مع الشعر في لحظة ما من تاريخه المعاصر إلى الدافع السيكولوجي الذي حمل الإنسان العربي في نهايات الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة على تقليص فضائه استجابة للحظة راهنة أساسها التفكك، وقطعا مع الآخر وعوالمه، مع عوالم يحمل حيالها هاجس الخوف ورغبة الخلاص. تلك الرؤية الطاغورية التي تغلق نوافذ الرياح كى لا تقتلعها من خيار الفردية".
وشددت على أن "القصيدة الآنية خلقت إيقاعية بديلة مندغمة مع إيقاع الداخل، وذبذبات العواطف وزلازل البواطن المتشظية بفعل عوامل حضارية وتاريخية لم تكن في صالح الذات، بقدر ما زادت من تأزيم علاقة الشاعر مع الواقع المتشرذم والمتشظي".
وأشارت إلى أن شاعر اللحظة الراهنة يواجه الكتابة الشعرية بعراء إيديولوجي وبلا انتماء إلا للحظة ولذاته المنفردة وللشعر.

وفرقت الدراسة بين مرحلتين في الشعرية العربية الجديدة خاصة فيما أنتجته من قصيدة النثر، فإذا كانت هذه القصيدة قد اتخذت منذ تسعينيات القرن الماضي مسارا يقوم على تهميش مركزية الذات الشعرية لصالح شعرية المعيش واليومي، فإن القصيدة الآنية التي تم إنتاجها في الربع الأول من الألفية الثالثة أحدثت ضربا من التوفيق بين مركزية الذات ومركزية المعيش على أساس أن المسافة بينهما مسافة التحام كاشف للبعدين الدراميين معا: إيحاش العالم، والفجيعة الإنسانية.

وبعد، فقد حاولت الدراسة الإجابة عن سؤال مهم، هو: كيف أضمرت أنساق (التعاضد والتفكك) ذاتها في عجين الشعر العربي متحكمة في بنائه وفي تحديد أبرز سماته التي تعد في حد ذاتها تَمثُّلا إبداعيّا لوجه النسق الثقافي الخبيئ.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف