ثقافات

جورج شليمون حائرٌ بجملة تساؤلات في تسابقه مع الزمن

قراءة تحليلية في السيرة الذاتية ـ الروائية "المتمرد"

جورج شليمون حائرٌ بجملة تساؤلات في تسابقه مع الزمن
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

معايـيـر الاهتمام الفكري يتم فرضها بدوافع الإحساس الذي يتخذ طابع الرقيب ليلهمنا بوادر التمعن بخفة وروية فيما نتكهن.

هكذا هو مسار مفهوم النقد بين الناقد والمؤلف وبالتالي القارئ أيضاً بتفاوت نظرة الأخير برؤى أعداد متفاوتة بما فيهم من لا يدرك ويستوعب ما يتمعنه، وبعكس ذلك، ليقف الناقد بيراعة كالحاكم بمطرقته لعملية التحليل والاسترشاد بما تفرضه مواقف الأحداث ودواعيها أي مسبباتها. ودعني اتمعن قليلاً منوهاً، بالرغم من قلة نقادنا ومحللينا لما يصدر عن فكر أبناء شعبنا الآشوري بلغات مختلفة من قصص وروايات ودواوين شعرية، وبالرغم من اعتكاف البعض عن المسيرة المحتمة عليهم لأسباب خاصة، وجدنا بأن العمل الذي يفرض نفسه أن يدخل مصحة النقد والتشريح والتحليل لرفع قيمة العمل أو إجراء ما يستوجب النهوض به مثلما يصف الحكيم ما ينبغي تلافيه، وليستوعب القارئ ما خفي عنه مما تم معالجته في مجتمع عانى ما عانى من الظروف القاسية.

ولهذا تم تعريف النقد كفن لتقويم الأعمال الأدبية والفنية وتحليلها وفق أساليب النقد العديدة المتفرعة منها والشائعة النقد الفلسفي واللغوي والمقارن وو ... والانطباعي الذي اعتمدته واتخذته سبيلاً بتجسيد الأثر الذي توغلت في مكوناته بفن ترجمة سيرة الحياة الخاصة بعرض حقيقي وبإسلوب روائي بما تم تجسيده في المضمون الذي يجرفني وأحداثه.

ولكي نلج في موضوعنا الجوهري من أحداث "سيرة ذاتية ـ روائية" التي تُـوّجت بعنوان يطغي عليه مفهوم التجاوز بعنوان "المتمرد" لتمرد المؤلف الآشوري جورج شليمون مثلما تمرد من سبقوه من أبناء جنسه الأوائل في أمور كثيرة منذ ما قبل الميلاد وتسلسلها فيما بعد الميلاد في كافة جوانب الحياة المعتمدة لاهوتياً في فترات متتالية وبالتالي سياسياً وفق منهجية الحق الشرعي لحياة الشعب الآشوري في عصوره الحديثة على أراضيه الأصيلة بما فيها قرى حكاري واورميا وما بين النهرين الى مسببات الهجرة في عوالم لم يحلم بها بمصاف أراضيه التي ترعرع على خيراتها.

لهذا نجد سيرته التي يحصرها بين أعوام محددة 1955 ـ 1989 في 203 صفحات من الحجم المتوسط، الصادرة عام 2023 كطبعة ثانية في السويد، لمؤلفها جورج شليمون القاطن في النرويج لأكثر من ثلاثة عقود. يبدأها بالحيرة من جملة تساؤلات بتسابقه مع عمر الزمن حين يقول ص10 (... هل ولد جيلي بصفعات على قفاه كي يكون متمرداً على الظلم في حياته كلها؟). متناولاً صياغاته على شكل فصول جزئية جمعها في ثلاثين فصلاً مرقماً إن صح التعبير. ومن الجدير ذكره بأنه لم يكن مكتفياً بعباراته التمردية التي سنأتي على البعض منها من خلال عرضنا الذي نحصره في العديد من مغامراته الهادفة دون أن تراوده أي مسحة من اليأس.
تأملات الكاتب جورج شليمون بقراءاته المتنوعة المرادفة لمشاهداته للفن السينمائي، زاد من قدراته لموضوعات عديدة في مناحي الحياة بدافع مبدأ التحدي، الذي جعله يتمرد في الكثير من المواقف بحد سلاح التثقيف الذاتي وبذهنية متفتحة يقظة، تَعْـبُر به للطرف الآخر من نهر الحياة بتفرعاته الظاهرة والمخفية. وكأنه مستبشراً بالعديد من الألسن الأنسية كتوليد حداثوي تشع بمعايشات حدسياته.
نَظْرَته للكينونة الذاتية جعلته متنقلاً في مسارات مـتـفاوتة من "الأنـا" إلى " نحن" ساعياً لبلورة ما يخامره من صراع داخلي بتمرد يُعلي من شأن الروح لعوالم جديدة.. والأدهى في هذا المنحى تألقه المباشر في عملية الحب الجنسي غالباً، وأحياناً بممارسات الحب العذري أو الأفلاطوني المنتقى ربما من مشاهدات العروض السينمائية الغريزية التي كانت تبهره وفق ما يستشهد بأسماء لامعة من المخرجين والممثلين ونصوص الفلاسفة من أمثال همنغواي وديكنز وروسو وفولتير وهيلين كلر والعديد غيرهم.... وكأنه مستأثراً بمقولة أحدهم حين يذكر (المفكرون في الحب الجنسي مفتاحاً لمعرفة التواصل). وبما أنه كان معجباً بالسينما الإيطالية ومخرجيها، لم تثنه عزيمته الاغتراف من أصحاب عصر التنوير على أثر الثورة الفرنسية من أمثال نيتشه وهيغل وكانت وغيرهم لتأثره بهؤلاء الفلاسفة بحيث اينعت أفكاره ليتأمل بشكل أوسع وأعمق مفاهيم الحياة الفلسفية، ناهيك عن الثقافة المعرفية بالأفلام الأجنبية ومخرجيها العالميين من أمثال ما يذكرهم سرجيو ليون وبرناردو برتولوشي وروبرتو بنيتي وغيرهم.

رغم هذه التوطئة المقضبة لمعالم السيرة وما ينحدر منها من تفرعات شائكة... وجدنا من الأفضل أن نبين بأنها تنحصر في مُنْطَلقـَـين رئيسيين هما: تنقلات الراوي في محطات عديدة ومتفاوتة الأحداث متمثلة تنقلاته من قصبة وبالأحرى مدينة لأخرى مبيناً أياها منذ ولادته في اللاذقية، ومن ثم تنقلاته بين مدينة حمص، مناطق الجزيرة (القامشلي ـ الحسكة والخابور)، طرطوس بيروت، حلب وغيرها. ومن المحطات تنقلاته المفاجئة أحياناً وفق ما تتطلبه حاجة العمل الاجتماعي تحت سقف المحيط العائلي أو الدراسي والوظيفي بحكم ما يستوجبه الإداء الرسمي. ولزخم هذه المحطات وعروضها المفصلة، نستشهد بالخدمة العسكرية وتكليفه بمسؤوليات خارج نطاق ارادته، وبالتالي تمرده على البعض منها بفكر ثاقب ودهاء ولفت للنظر. والاجتماعية العالقة بالإشكالات العائلية ولوازم السفر إضافة للعمل الكنائسي بمنهجية النشاط التطويري بين أوساط الشبيبة.

ولهذا نراه أحياناً ينقلنا بتجاربه من منظار ثقافته إلى مواقف عالم الحضارة العتيدة الشديدة المتشبثة وقائعها بذهنه كأصالة اثنية، التي منها تعود للقرن الثالث عشر لاحتفاظه بعائلة الجد في هكاري / قوجانس والنزوح المتواصل الى بيت نهرين والجزيرة، واستقرار الآشوريين على ضفاف الخابور. واستغراب البعض من هيئته حين يقول: (لا يعلمون بأنني أس آشوري شرقي أصيل من جذور الحضارة الآشورية). وكذلك مناداته بديمقراطية الرأي في المجتمع الآشوري كفكرة تطورية خروجاً عن قيود المألوف بتولي الفتاة رئاسة لجنة الكنيسة التي كان قد نادى بها وحقق وجودها وبالتالي انقلب السحر على الساحر من جراء ابهة السلطة الكنسية، وكأن التاريخ يعيد نفسه لالتزامات الهيمنة الكنسية في قراراتها. وبمقولة له في استجوابٍ لمدير مدرسته قوله: هل أنت شركسي؟ أو... مقاطعاً مديره قبل أن يكمل حديثه بقوله: (أنا آشوري أستاذ، من صلب آشور). والعديد من الشواهد الخاصة بالوجود الآشوري وأهميته في التاريخ البشري، وكفى أن نستذكر ملحمة كلكامش، طالما اللغة هي أصل الثقافات والانبعاث التطوري، حيث يذكر في ص 129 (في ملحمة كلكامش حين كان يتردد على مقهى تملكه امرأة تدعى سيدوري، كان يلقي شعره في ذاك المقهى مخاطباً صديقه أنكيدو).
بما ان الكاتب جورج شليمون أثبت تمكنه من أدواته التعبيرية وقولبتها في إطار فني بسرد منطلق، وأحياناً بحبكات سريعة مفاجئة ناقلاً أياك لفكرة جديدة تعامل معها في فصوله المرقمة بفقرات قصيرة كما في رقم 19، 22، 24، 26، والأهم في الفصل الأخير المرقم برقم 30. وبهذه النقلات والصياغات وقفنا على أسس محاولات التحدي في مواقفه، وبالرغم من كثرتها سنقتصر على بيان البعض منها والأهم كما تبين في ص 14 بصخبه الطفولي في المدرسة الإبتدائية، كبادرة أولى، وفي الرابعة عشر تشبع بأفكار هرقل وغيره المشوبة بمشاهد التاريخ الاغريقي والروماني، وكذلك بانتصار الخير على الشر أي التمرد على الاستبداد والطغيان متأثراً بأبرز ممثلات السينما الامريكية جينا لولو برجيتا، صوفيا لورين، اليزابيت تايلور وغيرهن ومن الممثلين أيضاً. وبذلك العمر تمرد على فرزه لتعلم الفرنسية، حاقداً على تلك اللغة التي لم يحبذها ولا يعليها على الإنكليزية المفضلة لديه، حيث يقول: (كرهت عالمي وأنا ألوم حظي). ومن تحدياته الأعنف في قراراته، مطاوعته على حضور حصة الديانة الإسلامية كمسيحي، ومشاركته في الامتحان الرسمي وحصوله أعلى علامة على رفاقه وتميزه بها. ولكي يقف ضد القرار الكنسي من المصاهرة بين الأشابين كان موقفه بمقولة: (ولدت متمرداً، سأمارس تمردي في هذا الحقل أيضاً، سأتزوجها، لن تكون لغيري أبداً). ومن جراء ذلك يؤكد بأن الشك نصف الاعتقاد، لكنه يزيد مضيفاً بأن الشخص يخلق فلسفته لتحاكي ذاته ليُنسق الأحداث وأكثر، ومستأنساً بقوله فيما بعد: (مع علمي ويقيني بأنني ولدت متمرداً، أشك بما جرى ويدري أمامي كارهاُ الظلم بجميع أشكاله). ومن المواقف أيضاً موقفه من المدرس الحاقد عليه بمسكه يده ليسبلها من ضربه، ومن ثم تحديه وتخطيه سور المدرسة بارتفاع مترين. وهذا ما يؤكده في الفصل التالي حين يستشهد قائلاً: (عندما ينبلج فكر المتمرد والمضاد ساخطاً ثائراً على المألوف والمعتاد عليه لا يُبالي بشيء سوى بهدم المحرم معبراً عن انفصال شخصيته المكبوتة). ومن دواهي اللطافة حين يتبختر المؤلف معتمداً على دروس الحياة أكثر مما هو عليه في تعاليم المدرسة.. هذا هو رأيه لينطلق مؤكداً بأن (بهذا يزغ تمردي على ما يحيط بي من ظلم وعدم المساواة والمحسوبية في مجتمع يطفو القوي على سطح الضعيف مثل سادي يتلذذ بعذاب الغير). ونراه في فصل 23 بعد عودته من بيروت يحمل شارات من الكره لأجواء المدرسة ومناهجها ليشكو من حاله وهو يردد بسخط (هل تمردت على ذاتي فجفاني الزمن بمعقلي، أم كنت ساذجاً بسيطاً لا أعلم كيف أرسم مستقبلي، فتهت بين ذاتي والانا الكامنة بأعماقي في الخفاء، حتى بدا لي الزمن يسلب مني كل ما أتوق إليه وأشتهي). وبتدرجه مع معالم الحياة والعوبته مع الغش في الاختبار المدرسي يؤكد بأنه عاش متمرداً في حياته لا يثنيها سوى الوازع الإنساني بداخله.
ومن الأهمية بما أشرنا اليه بقي ما تم تكليفه بمهمة اثقلت عليه رؤياه وهي عن اختياره عنوة بتدوين كلمة لمناسبة ذكرى تشرين التصحيحية بالنيابة عن صف الضباط، كونه الأقدم بين زملائه.. وبعد أن ألزِمَ على ذلك، كان تمرده بإسلوب عقلاني رغم مقولة "نفذ ثم اعترض" فأقنع ضابطه بذهن ثاقب بما ارتآه عن لعبة شطرنج مع ضابطه المسؤول في حال خسارته سيؤدي المهمة بالرغم من عدم قناعته، وعكس ذلك تخليه عن المهمة. وكانت النتيجة بأنه حقق ما خطط له.. أنهي هنا آخر ما دونه عن التمرد وهو يقول: (يكون التمرد على ما يقع حولك هو أساس تغير ما هو واقع أمامك تأخذ موقفاً تقفز لتحظي بما تريد، فالتمرد هي حالة تتضمن في حد ذاتها نقيض اللحظة المعاشة وضدها، ينبلج عندها الفكر المتمرد رافضاً ما هو مطروح أمامه لكن بحذر وحسب الموقف الأهم أن يكون المتمرد صاحباً وحذقاً كي يصل لمبتغاه). وهذا ما كان قد توصل اليه لينهي خدمته العسكرية ويعود لمرتع الجزيرة.
وهنا شئنا أم أبينا بأن تتويج السيرة برمز "المتمرد" سيكون مستنبطاً من مواقف رموز التمرد الآنفة الذكر، ولا محالة من ذلك، طالما اتخذ من التمرد هويته الذاتية في مواقف عديدة اوصلته الى النجدة أولاً والراحة النفسية ثانياً، ما عدا الحالة المشؤومة التي انهكته في التخطيط والمحاولات للحصول على الموافقة الأمنية بخصوص جواز السفر ومن ثم سمات المرور، حيث جاءته على طبق من ذهب ومن دون أي عناء مثقل حين خاطبته أم هاني صاحبة المقصف بقولها: ( يوم الأثنين تأتي الى البيت، ربما سيكون طلبك جاهزاً) وبالفعل تحققت امنيته بأجمل وأغلى هدية في ورقة صغيرة مفادها ( يسمح بإعطائه جواز سفر لكافة البلدان باستثناء إسرائيل والعراق. موقعة ومختومة من الأمن العسكري بالقامشلي).
بقي أن يعلم القارئ بأن أحداث السيرة لم تكن من نسج الخيال، وشخصياتها على ما يبدو هي من المحيط الذي يعيشه كاتبها والبيئة التي اعتاد عليها في تنقلاته، وعلى وفق خاص ومتميز تلك الحوارات والملاطفات التي يفجر فيها العديد من الإيماءات، قد يظنها البعض من المحرمات، ولكن الغريزة البشرية تدعها في عالم من الحرية بسقوط جوهر المسؤولية وفق ما تقره الأفلام الشبه اباحية بمفاهيم الحب الجنسي في العالم الأجنبي من خلال عروض صوفيا لورين وبرجيتا باردو الإغرائية وغيرهما، حيث يقف القارئ على هكذا مشاهد في معايشاته بالمصادفة مع مجموع من الجنس الآخر ابتداءً بالأنسة دليلا بنت الثامنة عشر التي سلبت عقله وهيجت عواطفه بنضج مفاتنها ورقة صوتها مشبهاً إياها بجمال عشتار آلهة الحب والجمال. وبحكم المعرفة والقرابة شاءت الظروف أن تزور جدته حيث يتواجد لديها، وسنحت الفرصة لهما أن يقتربا في الجلوس بناءً لطلبها، فكانت هي الأشجع على فك شباك الحياء بتمردها، وهو يصفها أنها أمسكت بكفه لتضعها على صدرها وهو يتظاهر بالخجل، وريدا رويداً لعبت غريزة الجنس فعلها لينسى كل شيء إثر أول لقاء حميمي.. وبمقاطع مقتضبة ومنتقاة واصفاً موقفهما، تطوق عنقي بذراعيها، شدتني نحو ثغرها لألثم شفايف قرمزية بقطرات من لعاب بطعم العسل..

قد يظن البعض بأن ما تطاولت عليه المدعوة دليلا وتجاوب المدعو على ما أقدما عليه وبالسرعة التي لم تدم على لقائهما سوى يوم أو يومين، بأنه من وحي الخيال التأملي وربما هواجس الأحلام. ولكن على ما يبدو بأن ذات المشهد تجاوز حدود المعقول بلقاء من التقاها في الفصل 17 ص80 وتعارفا كونهما على مقربة من حيث السكن، وتجاوز اللقاء باستشهاد الكاتب بمقولة فرويد "نحن من لحم ودم، ولكن يجب أن نملك أحياناً قلباً من حديد" فكان اللقاء الأول في الكافتيريا وفق قصاصة رمتها من شرفة الدار. واثناء اللقاء المنتظر يستجوبان بعضهما بما يرمي لقراءة أفكار أحدهما الآخر، والمحصورة في استكشاف ما يختبئ في قلبيهما من اعجاب وعشق ولوعة. والأجمل حين تسأله عن لغته الاثنية، ليجيبها: (انها لغة آشورية، نحن آشوريين ننتمي لحضارة ما بين النهرين، أعتب على مناهجنا الدراسية كونها بخست حق هذه الحضارة لم تدونها في الكتب المدرسية ليطلعوا ويعرفوا الطلبة على عظمتها). وبوعد منها على مساعدته باللغة الفرنسية التي لم يحبذها، كانت طريق الأمان للقائها ثانية، وبما انها اخبرت أمها عنه بدعوته، وبأوصاف من الإعجاب والاستغراب والتلذذ تراوده برؤية هيبتها، زادته حدة بقدوم أمها للترحاب به وهو يصفها بفكره النير (هيبتها، شكلها، هامتها كلها برمتها تجبرك على الوقوف والوقوف طويلاً احتراماً لجمالها). وبعد حديث مركز، ودعته لتدع ابنتها سناء تتخذ قرارها لتريه مكتبة والدتها العامرة، وبعد احتساء ما طاب لهم.. حان موعد درس اللغة الفرنسية الذي تحول في غرفتها. ورغم تَـيَـهان جورج برؤية مفاتن أمها اليونانية الأصل، قاطعته سناء وهي تخاطبه حسب ما يصفها (لا توجد بيننا هوة، أنت جذبتني قبل أن أكلمك، ربما نملك عواطف متشابهة. مسكت معلمتي بيدي، لم تقدني إلى ركن مكتبها لأتلقى العلم، بل جرتني كلقيط تائه نحو السرير، جلسنا على حافته، أحسست براحة يدها وهي بيدي، بدأت تتعرق من وهج ما بداخلها، لتغذي شيئاً عندي يريد أن ينفر معبراً عن اشتياقه لهذا اللقاء... الخ.).

ربما يتساءل القارئ مستغرباً، ما هذا الهراء المخفي خلف ستائر سحرية بمواقف لا يمكن تصديقها؟!! وبهذا الاستغراب يؤكد جورج وهو يذكر بالنص (يومي كان حلماً، لم أحبذ أن اصحو منه) والأدهى حين تفاجأ بوجود أوراق نقدية في كتابه من أربع ورقات، فئة خمسمائة ليرة. مستغرباً (ما هذا؟!)، وقد صدق من قال: (الصدفة خير من ألف ميعاد) الأوراق النقدية التي حيرت جورج، رمته في آتون من الحب الجنسي وبالأحرى غريزة العشق المفبرك من السيدة تيريزا أم سناء التي كانت قد رأفت بحال الآشوري الذي ظنته لقطة مباغتة وغير منتظرة، وبحكم سفر سناء مع والدها الكبير السن الى اللاذقية، كانت الفرصة مؤاتية لها حين وعدت جورج بملاقاته في ذات يوم السفر. وبمسحة الإعجاب من جورج، وترنح أفكار تيريزا لعبت اقداح زجاجة النبيذ الإيطالي والأحاديث الشيقة خيال تيريزا بحيث ارتقت الى مشهد التلذذ برؤية شاب وامرأة شبقة ليقطعا شوطاً من الرحيل على اريكة هادئة بدفئها من جراء عبارات شدت الكاتب لتنفيذ من يتعطش للإشباع الغريزي بعبارات كسمة دخول للعالم الآخر والتي دوى صداها عن قصد لتكشف قائلة: (تزوجت من انسان يكبرني سناً) و (خضعت لعملية استئصال الرحم) وغيرها من مفاتن الهيام تشدها العواطف الفائرة. وكفى أن نستشهد بما جاء على لسان الحائر عن جلال الرومي القائل: (العشق عندما يأتي يسرق الروح وتسقط الأعمار دون مناقشة).

غالباً ما تتوطد العلاقة الحميمة من هكذا مشهد واقعي وكانت النتيجة بأن تسافر الى اليونان لثلاثة أشهر وكذلك الطرف المعني الى لبنان، ومن نهاية المغامرة حظي البطل الحالم في بنطاله بأوراق نقدية مضاعفة لما أوصلته الى تلك المغامرة التي بقي يحلم بها وتسيطر على مجمل تفكيره طالما يؤكد قائلاً: (يمكن أن أخون حبي، لكن من الصعب جداً أن أخون عشقي).

بقي أن نخوض مغامرة بيروت بلعبة من الضياع القسري بين بيروت الغربية والشرقية بعلة دافع الاسم " جورج" و "سوري" وبالمصادفة يتعرف على البعض من رواد المطعم الشرقي، ومن بينهم الفتاة رولا وصديقتها نادية، وبممانعته الذهاب الى المنطقة الشرقية التي يتلعلع فيها أزيز الرصاص، يضطر لاقتناء بعض الكحوليات، وبتأثير نوعية عرق أبي سعدى وربما بيرة الأمستل في سهرتهم الثلاثية الممتعة، يضطره الكحول للخلود الى راحة النوم مخموراً، فتلحقه رولا فيما بعد وهي تندس في فراشه خلسة بعد أن أعياه السهر والكحول، وبحالته المخمورة يجس جسمها في مشوار قصير الى أن حزمها من خصرها وسرح في نومه. وهنا لا يسترسل أي شيء عن صحوتهم، ما عدا ذهابه للمطعم المعتاد في بيروت الغربية، وبالتالي ليقل سيارة نقل الركاب الى بيروت الشرقية، ليتم إيقافه في منطقة الدورة القريبة من سد البوشرية، فيتم انزاله وحيداً، ليلق بعض الضربات التي اوقعته ارضاً، ليكون كأسير، وكأنه كالمسمار مدقوقاً على الجدار، رافعاً يديه، لا ينبس ببنت شفة، وكل ذلك كونه سوري الجنسية. الى ان بقدرة قادر ينقذه أحد الملثمين مصادفة من ذات الجماعة، منبهاً إياه بأن سعرك سيكون بخرطوشة. وبما اننا لا زلنا في هذا الإطار من حيرة المضايقات، لا بد من الإشارة للبعض منها على سيل المثال، واهمها ما نوهنا عنها، وكذلك أثناء تيهانه وصاحبه أبو جاسم في عرض الصحراء، ليستنجدا على ضوء في طريقهما، بحيث أبان أحدهم من أهل الدار الطريق الذي يجب اقتفائه. وواقعة أخرى أثناء ارتدائه وصاحبه باللباس المدني عوضاً عن الزي العسكري، واحتسائهما الكحول خارج المعسكر، وبعودتهما يصادفهما أحد المسؤولين العسكريين ليتم زجهما في السجن لعدة أيام كعقوبة لمخالفتهما، إلى أن شاءت الصدف بمقدم أخ صديقه فرحان لزيارته وانقاذهما من المأزق بواسطة قائد اللواء. والادهى هو مقتل ذلك القائد بقدرة قادر وحيرتهما من عملية القتل، وبالتالي ارتياح جورج وفرحان لدى معرفتهما بأن عملية مقتله تمت بطريقة خاطئة وغير متعمدة من إبنة الصغير. وكفى أن نشير لحيرته من اخته الكبرى المطلقة وموقف المطرانية قبل ذلك. وأخرها الأكثر حيرة اثناء استدعائه من قبل مديرية الأمن السياسي والتحقيق معه بشأن السيدة اليسارية سحر البني، التي كانت معه في السيارة الى حلب، واستنكاره لوجودها معهم.. وبعد المشاورات اعترف بمعرفتها كجارة له. وبإصراره على نكرانه بعدم معرفته اين ذهبت في حلب.. ألقي صراحه قائلاً: (اخرج الآن من أمامي... سمير خذه لعندك).

والغريب هنا بأن الراوي جورج لم يكمل مجريات الأمور فيما بعد مع سمير. علماً بأنه ينتقل مباشرة إلى فقرة أخرى، ليلحقها بفقرة نهائية للسيرة الذاتية. ورغم توالي التنقلات الفرعية، تبقى مقابلة طبيبة الأسنان زميلته أيام الدراسة الثانوية، ودامت علاقتهما بزيارات متوالية، إلى أن تباغته بحصولها دعوة لحضور مؤتمر طبي في إيطاليا، وبتساؤل مستغرب إن حصلت له على فيزا هل سيسافر معها. طبعاً وافق على الفكرة. شرط أن يسافر من هناك الى النرويج. واللغز الذي اعترى الفكرة هنا كان موقف الأمن الذي حدد كل يوم أن يوقع على تواجده في منطقة الطبقة التي تسمى بالعامية "الطبگة". ووفق ظني تعلق هذا القرار كان له صلة خاصة بمسألة اليسارية سحر البني والشك بمواقف جورج من اهتماماته ومواقفه المحيرة.

بقي لي ان انوه بأن الراوي جورج متمكن من ادواته التعبيرية بأسلوبه الادبي الفني بسرد استرسالي جذّاب، واحياناً بحبكات سريعة وربما مفاجئة لينقلك الى فكرة جديدة وهذا ما حصل بشكل ظاهر ومؤكد في نهاية المطاف وأغلب الفصول المرقمة. أذن يمكنني أن ابين جملة ملاحظات وفق ما يلي من الإشارات الخاطفة والتي منها ما يلي:
ـ ابتعاده عن التراكم اللفظي والإسهاب الممل بإسلوب يتمتع بالإسهاب الممتع، وكأنك تتهئ متأملاً نهاية قصة الفيلم.
ـ مقدرة واضحة على الابداع بانتقاله من حدث لآخر وبوصف دقيق بعيداً عن السرد المباشر بتقريرية الاسترسال المُمِل.
ـ يتمتع، بل ويمتاز بمقدرة كافية في سرد ما ينوي ايضاحه من أحداث بترك النتائج للقارئ في احتمالات توقعاته.

ـ كان الأجدر به أن يتخلى عن بعض المسميات الغريبة على القارئ العربي، وأن يمنحها المعاني الخاصة بها مثل: شواط : خيط ربط الحذاء، تزحل أي تبعد عن، يدرغل صوت خاص، زغللت أي النظر بحيرة، فسخسخ بمعنى زحزح، جيتان نوع من السجائر، أسبلتُ بمعنى أرخيتُ، مسلحباً أي ممدداً يدي وربما بارتباك، حبيبات الرملان وأظنها بمعنى الرمال، البوط اظن البوت العسكري كالحذاء، فيش، بغبه، بالرغم من عامية البعض منها كلهجات محلية.
ـ كان الآولى بالقاص جورج مراجعة الطبعة الثانية وتشذيبها من بعض الهفوات الإملائية المطبعية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر. بأبها ص 25، مدراس ص85، الملئى ص153، ومن جانب أخرى ص 156، أمريكا الاتينية ص 178. علماً بأنها لم تؤثر شيئاً على المعنى العام وما تهدف اليه العبارات وكأنها كمّن ينسى غلق أحد ازرار قميصه لسرعته في الجري بغية اللحاق بأصحابه.
ـ اتـضـح لـي بأن البعـض من الأحـداث غـاب عـنها وكـأنه تـرك لها عـبارة
احتمالية للقارئ ليخاطبه محفزاً أياه بعبارة املأ الفراغ. وهذا ما حصل على سبيل المثال لا الحصر حين لم يفصح عن مصير طبيبة الأسنان ونهايتها، بالرغم من اعجابهما كل واحد بالآخر وتضحيتها بمسألة سفرهما معاً وتسهيل أمور فيزة السفر، علماً بأنه وعدها بالسفر من إيطاليا الى النرويج. ومن المستغرب عن جرأة الراوي المتمرد بأنه لم يفصح اسم الطبيبة زميلة الدراسة، وهل أصبحت في عالم اللاممكن؟! لا أطن ذلك.. ولكن ما مصيرها؟!
ـ أرى بـأنه عـاش مـتـمـثلاً بـتجـسـيد لـقطـات من رحلة كـلكـامش في تنقلاته
المتفاوتة في صراعات موفقة للحصول على نبتة الخلاص من حية الذل والقهر بوفائه للمبادئ التي استمدها من الحياة بتجاربه وآمن بها. وأكبر دليل حين يختتم السيرة بمقولة نهائية مفادها: (سأبقى أعزف قيثارتي، تسمع رنتها، حتى لو غبتُ عن سطح الأرض، فأنا في السماء، معي عشبة كلكامش، خالداً في العلالي). وبهذه العبارة يصل إلى نهاية ترميم العقدة المستخلصة بانعتاق الراوي من ربق القيود التي زاملته في مواقفه الحياتية، وتم الإشارة لها لأهمتها في دور العُقَد الرئيسية والفرعية التي تنتاب أي نوع من القصص والروايات والمسرحيات.
ـ وفي الختام نادراً ما نجد في عالمنا الآشوري هذا النوع من السرد، وهي كتجربة جديدة بأشكالها الفنية ومضامينها الواقعية من عملية التجارب المتكررة. وذلك بتغلب المضمون الهادف على نسيجها الفني بأفكارها الشيقة. وأكبر دليل مواقف الراوي من بعض الأمور المستعصية، ومنها على سبيل المثال معضلة الأخت الكبرى وزوجها واصراه على حلها وتجاوزها بحكمة وروية لحين سفرها الى المانيا برفقة اختها المخطوبة.

ولا يسعني في نهاية العرض التحليلي إلا أن أشكر الأخ جورج شليمون على همته وجرأته بما عمده في إيصال فكرته كتابة كنهج توثيقي لأرشيف رفوف التاريخ رغم ما دونه باللغة العربية المستمدة من دراسته وثقافته في المحيط العربي بالإضافة لازدواجيته بالمجتمع الآشوري. آملاً أن يسعفنا بجزء متمم لمعايشاته من خلال تجاربه في عالم المهجر طالما أعتق عن معصمه القيد المحكم مستنشقاً نسائم الحرية بمبادئ من الديمقراطية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
قراءة تحليلية في السيرة الذاتية الروائية (المتمرد)
جورج شليمون -

كل الشكر والتقدير للقائمين على إدارة إيلاف لمساهمتهم بالحقل الإعلامي وخاصة في المجال.الثقافي ...وكل الشكر للأستاذ ميخائيل ممو الذي درس بدقه ما جاء بكتابي المتمرد لينوه لبعض ما جاء في السرد الرواية الذاتية من اخطاء مطبعية وأخرى كتبتها بلغة عامية يتداولها سكان بلاد الشام...كان رأيه صائبا بكل ما اشار إليه..اشكره جزيل الشكر على كل ملاحظاته...