ثقافات

نصفي الآخر جمجمتي المهشّمة

صورة تُجسّد فكرة المخيلات التي يعيشها البشر
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أخبرتها أنّ جمجمتي مفككة، أقسمتُ لها أنني في أحد الأيام عند خروجي من مدرسة دار التوحيد المتوسطة وحال وقوفي على الرصيف أمام باب المدرسة شعرتُ ببرودة في رأسي، ثم أصبحت جمجمتي كقطعة ثلج، وانطفأ العالم من حولي.

لاحقاً أخبروني أن شاحنة دهستني، لأنني تركت الرصيف مغمض العينين وتقدمت قليلاً، خطوة واحدة، لتصبح جمجمتي مهشمة كقطع زجاج ملوّن. نصفي الآخر، وكان ما يزال واقفاً على الرصيف متشبثاً بشنطتي المدرسية كان يبكي، حتى وهم يجمعون ما بقي من حطامي ويكنسون غباري الآدمي من على الإسفلتْ، حتى وهم ينقلون ما بقي من رفاتي إلى مستشفى الملك فيصل، ثم يعلنون وفاتي لاحقاً.

كانت جنازتي بسيطة، حضرتها الفتاة التي كنتُ أشاهدها في أحلامي، بأجنحة ذات حوافٍ بنفسجية، حاملةً في يدها منجلاً فضياً. عندما اصطف الجموع للصلاة عليّ للمرة الثانية على حافة القبر اقتربتْ منّي وهمستْ في أذني:
-ستجد حقول بنفسج في العالم الآخر، وستحتاج هذا المنجل لحصادها.
قبّلتني، ثم قالتْ قبل أن تطير مرّة أخرى:
-اطمئن، سأتزوج نصفك الآخر الذي يمتلك جمجمة مدهوسة من زمن آخر، وسننجب أفكاراً، ما فائدة الأطفال في عالم مظلم؟!.
..
نعم، أنا نصفي الآخر. أتذكرني قبل تلك الحادثة، أتذكر جمجمتي التي كانت عادية وتحب مادة الرياضيات، أتذكر وجه جدتي وهو يتهلل عندما أقبل إليها في منزلها الواقع بقريتنا جنوب الطائف. لكنها، ولسنوات عديدة لاحقة، كانت تنفر من نصفي الآخر.

حاولت، معها ومع كثيرين غيرها، أن أشرح ما حدث. على الأقل أن أحاول فهم ما حدث، لكنني كنت أصل إلى ذات الخاتمة: أن تتحول جمجمتي إلى قطعة ثلج، ويغيبُ العالم:
أقسم لك يا جدتي، أنني لم أتعمد القفز أمام الشاحنة، كل ما في الأمر أن فتاة بطعم البرتقال كانت تناديني، مدت يدها وسحبتني إلى الأمام؛ خطوة واحدة، وحين التفتُّ إلى نصفي الآخر كان يشجعني بحركة من حاجبيه لم أفهم أنها تعني سوى: تقدّم.

أخبرتها أن جمجمتي، التي تراها الآن، لا تخصّني، ربما تقدم أبي بطلب إلى متحف ما لتعويض جمجمتي المهشّمة، وأن بلديةً ما نظرت إلى طلبه كإجراء روتيني يتم من خلاله استثمار الطاقات الوطنية التاريخية في رفاهية الجيل الحالي. مشروع وطني مكنني من حمل جمجمة من العصر الأموي، ووقَع أبي على استلامها، ثم سلمها إلى نصفي الآخر.

اليوم، أنا على غير عادة بقية الكائنات، عندما أتحدث معها فإنني أظن أنها تفهم ما أفكر فيه، حتى لو لم أقله، وأن عليها أن تجد لي المبررات في الحديث عن عشرة موضوعات في الوقت ذاته.

أخبرتها أن جمجمتي مستعارة من عصر آخر، وأحاول منذ زمن أن أقول لها حقيقة أن من تراه أمامها ليس سوى نصفي الآخر الذي شجعني بحركة غامضة من حاجبيه كي أتبع فتاة بطعم البرتقال.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف