بناة الدولة التونسية يرحلون في صمت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ما يحدث في تونس منذ ما يزيد على العشرة أعوام مُحزن ومؤلم ومُناف لأبسط المبادئ الوطنية والإنسانية...
فالحكام الجدد بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم السياسية والأيديولوجية يتفننون في اظهار التنكر للزعماء الوطنيين الكبار، رموز النضال ضد الاستعمار، وبناة الدولة التونسية الحديثة مُظهرين احتقارا للأحداث وللمناسبات الوطنية الهامة مثل عيد الاستقلال، وعيد الشهداء، ومُلغين عيد الثورة الوطنية التي اندلعت عام1952 مُفضية بعد ثلاث سنوات من الكفاح المسلح إلى الاستقلال.
وهم يظنون أن أفعالهم الشنيعة هذه سوف تمكنهم من الدخول إلى التاريخ من بابه الواسع ناسين أن التاريخ لا يرحم المزورين الذين يزينون صدورهم بأوسمة الأكاذيب والبطولات المزيفة...
وخلال السنوات الماضية، رحل عن الدنيا وزراء قدماء، وشخصيات وطنية تتمتع بمكانة كبيرة في التاريخ التونسي الحديث مثل محمد الصياح، والمنجي الكعلي، وعبد العزيز بن ضياء ومصطفى الفيلالي، والحبيب نويرة، والحبيب بورقيبة الأبن (نجل الزعيم بورقيبة)، وأحمد بن صالح، وآخرون إلاّ أن الحكام الجدد لم يكلفوا أنفسهم حضور جنازاتهم، أو حتى مجرد تأبينهم بكلمات قليلة...
ويوم الجمعة الموافق لـ21يوليو-تموز من السنة الحالية دفن في مقبرة المهدية، مسقط رأسه، السيد رشيد صفر الذي كان وزيرا أول في عهد الزعيم بورقيبة، والذي تقلد مناصب رفيعة أخرى. ولم يحضر موكب جنازته غير عدد قليل من أصدقائه ومن أفراد عائلته. أما على المستوى الرسمي، فلم يصدر أي تعليق على رحيله، في حين اكتفت وسائل الاعلام بالإعلان عن ذلك في بيانات مقتضبة...
ورشيد صفر المولود عام1933 هو ابن المناضل الوطني الكبير الطاهر صفر المولود في مدينة المهدية على الساحل التونسي عام1903. وكان في السابعة عشرة من عمره لما حصل على شهادة الباكلوريا متفوقا على زملائه الفرنسيين في جميع المواد، بما في ذلك مادة اللغة والآداب الفرنسية.
وفي عام1925، سافر إلى باريس لمواصلة تعليمه العالي ليحصل في ظرف سنوات قليلة على شهادات عليا في الحقوق، وفي الاقتصاد السياسي، وفي العلوم السياسية مُحققا تفوقا أثار غيرة الفرنسيين. وخلال فترة الدراسة الجامعية، لعب دورا مهمّا إلى جانب طلبة من الجزائر والمغرب في تأسيس ما أصبح يسمى بّرابطة طلبة شمال افريقيا"، ومقرها بولفار سان ميشيل بقلب باريس. وقد لعبت تلك الرابطة دورا أساسيا في فضح وإدانة جرائم الاستعمار الفرنسي في البلدان المغاربية الثلاث. وحال عودته إلى تونس عام1928 انخرط الطاهر صفرفي النضال الوطني. وفي عام1934، كان مع الحبيب بورقيبة، والبحري قيقة، ومحمود الماطري، وصالح بن يوسف وآخرين من مؤسسي الحزب الدستوري الجديد الذي سيقود النضال الوطني باقتدار وشجاعة وحنكة سياسية لم تكن معهودة من قبل.
وبحسب الباحث القدير أبو القاسم محمد كرو، تمكن الطاهر صفر من لقاء الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي في مدينة طبرقة شمال البلاد وذلك قبل وفاته عام1934 بفترة قصيرة. وأثناء اللقاء الذي استمر ثلاث ساعات، دار الحديث حول مسائل أدبية وفكرية أوحت لصاحب "أغاني الحياة" بكتابة قصيدته الفلسفية الشهيرة :"الثعبان المقدس".
وفي عام1936، قامت السلطات الفرنسية بإبعاد الطاهر صفر إلى الجنوب التونسي الذي كان آنذاك منطقة عسكرية. وفي مدينة جرجيس شرع في كتابة يوميات سوف تصدر في ما بعد في كتاب حمل عنوان: "يوميات الابعاد-جرجيس1936". وفي تلك اليوميات التي سيواصل كتابتها في معتقل "برج البوف" في عمق الصحراء التونسية، أظهر اتساع معارفه بالاقتصاد والسياسة، وبالفلسفة وبالآداب العربية والغربية منذ الاغريق وحتى القرن العشرين. وفي نفس ذلك العام، أي 1936 التحق الطاهر صفر بقادة الحزب الحر الدستوري المعتقلين في "برج البوف".
وكان الحبيب بورقيبة من بين هؤلاء. وفي مذكراته، أشار الدكتور محمود الماطري أن الطاهر صفر كان يخطط لتأليف العديد من الكتب السياسية والفكرية. وكان يقرأ بانتظام مؤلفات الكلاسيكيين الفرنسيين الكبار، وأيضا كتب الجاحظ، و"كتاب الأغاني" لأبي فرج الاصبهاني.
وبعد مظاهرات التاسع من شهر أفريل 1938 للمطالبة ببرلمان تونسي، أعتقل الطاهر صفر من جديد مع كل زعماء الحزب الحر الدستوري. وعند خروجه من السجن عام1939، تدهورت صحته وأصبح يعاني من اضطرابات نفسية حادة أدت إلى وفاته في صيف عام1942.
وهكذا رحل عن الدنيا وهو في عز الشباب مثل كل جيل إرادة الحياة" الذي لا يزال نجمه ساطعا في التاريخ التونسي الحديث يحيث لن يقدر الأفّاقون ومزورو التاريخ على الحطّ من شأنه أبدا...