ستيفاني عويني في روايتها: 4 آب
أربع نساء يصوّرن انفجار مرفأ بيروت ويوثقن الحدث المأساوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أن يتحولَ حدثٌ مأساويٌّ إلى عملٍ فنيٍّ روائيٍّ، فهذا لا يشكل بعدًا فنيًّا لعمل تسجيلي وتوثيقي فحسب، ولكنه يذهب أبعد - وفق المقتضيات الفنية للإبداع الروائي- إلى ملامسة العمق الإنساني ورؤيته الجلية أو الكامنة إزاء هذا الحدث، لأن الرواية لا تنقل أو تصور أو تخبر عن الحدث، لكنها تعيد تأويله وتشكيله من جديد، من عدة زوايا، فنية وإنسانية وسردية، وجمالية، فما يهم الرواية &- في التحليل الأخير &- ليس تصوير الحدث ونقله والتعبير عنه، ولكن إعادة خلقه وإبداعه من جديد.
التاريخ يشير إلى زمن مأساوي حدث بالعاصمة اللبنانية بيروت، وهو حدث تفجير المرفأ، وما سببه من كارثة إنسانية تدميرية، ذهبت بأرواح (230) إنسان، غير المفقودين، فضلا على أكثر من (7000) من الجرحى، وتدمير عدد كبير من المباني في عاصمة بمساحة صغيرة، لكن لها أثرها الثقافي والحضاري الكبير، عاصمة عنوانها: الفن والشعر والإبداع.
استهلت ستيفاني عويني الرواية بحدث تفجير المرفأ في صفحتي 11-12 بشكل مكثف جدا، وبضمير الأنا، من دون إشارة ما لمن هو المتكلم : "لسنا في لقطة فيلم هوليوودي، إنما هو واقع جحيمي التقطته كاميرات المراقبة من زوايا مرتفعة في مطعم في منطقة (مار مخايل) اهتزت الطاولة، وراحت الثريا فوقنا تترنح يمنة ويسرة، للوهلة الأولى ظننتُ أننا نرقص الدبكة بسبب هزة أرضية، ليتبين لي أننا نرقص مع القدر (رقصة الموت) الإفريقية، دوي انفجار مرعب حطّم الواجهة الزجاجية لتتساقط قطع الحجارة الصغيرة من السقف" / ص 11
هذه هي الفقرة الأولى في الرواية التي تقلنا مباشرة إلى حدث الانفجار، لكن هذه الفقرة والفقرات التالية، سنجدها مكررة فيما بعد في صفحتي 109-110 على لسان إحدى شخصيات الرواية الأساسية وهي شخصية (سارة) الثائرة العاشقة معا .
إن الرواية تنهض على رؤية فنية تصور هذه المأساة، من خلال أربع شخصيات نسائية هن: سارة، ويمنى، وريتا، وكاتيا، يعشن ببيروت، يتحدثن عن واقعهن، وسيرهن البسيطة، وما يواجهنه من قضايا اجتماعية، ويتم سرد الرواية عبر توقيت زمني محدد هو توقيت يوم الكارثة (4 آب)، وتترك الروائية لكل شخصية تتحدث عن بعض المشاهد اليومية بدءا من صباح اليوم حتى موعد حدوث الانفجار المأساوي في مخزن نترات الأمنيوم .
فكيف أنتجت ستيفان عويني روايتها؟
4 آب و4 نساء
يشكل الرقم (4) هاجسًا فنيًّا فضلا على كونه يومئ إلى كارثة تفجير المرفأ، لعل التاريخ أوحى للكاتبة بهذا الرقم الذي يشير في جوهره إلى خطة مدبرة بالفعل لتفجير المرفأ باختيار تاريخ (4/8/2020) حيث تدل الأرقام إذا جمعناها على قصدية اختيار التاريخ ( 2+2=4 / و 4+4=8) لكن الكاتبة لم تصرح بذلك في الرواية، وهو تأويل من عندنا.
تتشكل الرواية استنادا على وجود أربع شخصيات نسائية لكل واحدة منهن ملمح خاص، أو سمات معينة، أو قضايا تفكر بها، عبر إشكاليات متتالية تواجههن أو يواجهنها، وقد وردن بالتتالي في صفحات الرواية وفصولها وهن: بحسب ترتيب الرواية (سارة) الثائرة على الواقع السياسي، وعلى الفساد، وعاشقة صديقها من ديانة أخرى، و(يمنى) المثلية التي تعيش حياة الكتمان في علاقة مستترة مع صديقتها، و(ريتا) التي لا تنجب والتي تؤثر عليها نظرة المجتمع السلبية ، و(كاتيا) المديرة القوية المتزوجة، ولكنها تعاني من خيانة زوجها لها.
هكذا فإن الشخصيات النسائية الأربع يعبرن بإشكاليات متعددة، غير إشكاليات الهمّ العام، والواقع الفاسد كما تصوره الرواية، التي تلامس تفاصيل الحياة اليومية اللبنانية في مرحلة صعبة جدا يمر بها لبنان.
وقد وردت الشخصيات بالتتابع كالتالي، عبر هذه الإضاءات المباشرة:
- (4 آب الساعة التاسعة صباحًا ): اسمي سارة وأنا امرأة ثائرة / ص 14
- (4 آب الساعة الحادية عشرة ظهرًا): اسمي يُمنى، وأنا مثلية / ص 19
- (4 آب الساعة الثامنة والربع صباحًا): اسمي ريتا، وأنا محرومة من الأمومة / ص 24
- (4 آب الساعة السابعة صباحًا): اسمي كاتيا، وأنا امرأة يهابها الرجال / ص 29
هكذا تبدأ التعريفات الأربعة بشخصيات الرواية، وهو أمر مصمم ومحدد من قبل الكاتبة، التي لم تجعل القارئ يخمن ويفكر ويتخيل حضور الشخصيات بشكل طبيعي، ويتعرف على هوياتها ومقاصدها وأساليبها ورؤيتها للحياة، ولكن الكاتبة أرادت أن تختصر هذه المسافة لتضع القارئ أمام شخصياتها مباشرة دون مواربة رمزية، وعلى الرغم من أن هذا الصنيع الروائي قد يؤثر سلبا على تلقي العمل الروائي، على اعتبار أن فعالية الدهشة والمباغتة السردية ستكون غائبة، لكن هذا ربما يقرب المسافات السردية، بين القارئ والرواية، خاصة أن ستيفاني عويني في رواياتها تميل إلى الاختزال والتكثيف الفني أكثر من التفاصيل والاستطراد. كما في رواياتها التي أصدرتها من قبل وهي:( ليلة جامحة، حب في زمن الكورونا، أحببت عازف كمان).
وبعد هذه البنية الأولية التي توضح فيها الكاتبة هوية كل شخصية، في صفحات قصيرة متتالية تنتهي عند صفحة (33) تبدأ مرة ثانية في المعاودة للكتابة عن هذه الشخصيات الأربع وبيان المواقف والأحداث التي مررن بها عن طريق التذكر تارة، أو عن طريق التخيل تارة أخرى، فتكتب على التتالي عبر فصول مؤرخة زمنيا في اليوم نفسه (4 آب) مع تغيير مواقيت الساعة حتى الوصول إلى لحظة الانفجار في نهايات الرواية التي تتحدد بالساعة السادسة مساء، حيث كتبت الفصول عن:
سارة (6 مرات) ويمنى(6 مرات) وريتا (5 مرات) وكاتيا (6 مرات) حيث قتلت ريتا ولم تحضر في الفصول الأخيرة حيث إن الفصول الثلاثة الأخيرة تحمل عنوان: "بعد ثلاثمائة وخمس وستين يوما على الكارثة".
نلحظ هنا أن ثمة تخطيطا وتصميما للرواية، منذ البدء حتى النهاية.
وتتناول في الرواية قضايا داخلية كثيرة كالعنف والتنمر والتحرش، والمأزق السياسي والاغتراب عن الوطن، بالإضافة إلى نقد الواقع العربي، حزمة من النقد توجهها الرواية للمجتمع العربي وتناقضاته عبر وصف شخصية (الجارة)
"جارة مريضة حالها حال مجتمعاتنا العربية قد اجتاحتها الأوبئة الفكرية حتى تعودت الضنى... إلخ / ص 42
كما لا يخلو الأمر من نقد المجتمع الداخلي بتوصيفات كثيرة منها، عبر سرد الشخصيات لمواقفها: "مجتمعنا مفصوم الشخصية" / 53، وإشارات إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة، ونقد الصراع على السلطة، أو بالإشارات الرومانتيكية والإيروتيكية في الرواية تبعا للشخصية الموصوفة أو التي تتحدث عن تفاصيلها اليومية، خاصة مع شخصية (يمنى). وتتألق بعض المشاهد بصيغة شاعرية كما في وصف الحب/ ص 43، و 48، أو في تعبير ريتا: "أحيا بجسمي مع زوجي فيما قلبي فارق الحياة" / ص 45
في البنية الروائية:
تتخذ الكاتبة من المشاهد الكولاجية المتقطعة بنية جوهرية لإقامة روايتها التي تقدم سرداتها وفصولها عبر المشهدية المتتالية كأنها لوحة أرابيسك سردي، أو قطع من الكولاج النصي الذي يتواتر فصلا بعد آخر، فإذا كانت تقدم لنا دراما أربع شخصيات نسائية فإنها تقدم مشهدًا متتاليًا لكل شخصية، تتحدث مثلا سارة، ثم مشهد أو فصل لكاتيا، ثم يمنى، ثم ريتا، وهكذا من دون ترتيب بالضرورة، ولكن حسب ما يعنّ لها من إثارة أحداث، ويلعب التزامن دورًا كبيرًا في تتالي الفصول وتتابع السرد، لكن الرابط الزمني الكبير للرواية كلها أنها تحدث في يوم واحد، هو يوم تفجير المرفأ ببيروت وهو (4 آب) الذي تعنون به الرواية.
وقد اختارت الروائية أربع شخصيات نسائية مضاهاة للرقم (4) للتعبير عن صورة بيروت الأنثى من خلال هذه الشخصيات بشكل رمزي. إن الرواية بهذا تثير هذا البعد لمن يقرأ توجهات الشخصيات وسماتها ويربطها بالحالة البيرويتة.
وتحتل المشاهد الاجتماعية جانبا مهما من الرواية، مع فقدان سارة لحبها بسبب أبعاد دينية، ودخول يمنى متاهة المثلية، وعدم إنجاب ريتا التي تعاني من فقدان الأمومة، وكاتيا التي تعاني من خيانة زوجها، وتندم على الزواج منه: "أنا أخطأت حين تزوجت وحشًا مفترسًا، كان هذا أكبر أخطائي" / ص72
ومن مظاهر نقد المجتمع في الرواية:
"مجتمعي ليس سوى (ساتورن) يلتهم أبناءه أحياء" / ص 78
لو كان الرسام " فرانشيسكو غويا" موجودا اليوم معنا لكان رسم لوحة رهيبة سوداء، مستخدما ألوان الخوف القاتمة، والملامح الجنونية لكائنات تجلس على عروش الطائفية المصنوعة من عظام الشعب" / ص 78
وكذلك نجد نقدا للمجتمع الشرقي على لسان يمنى المثلية:
"مجتمعاتنا الشرقية حولت البيوت إلى أقفاص، سجنت فيها أجساما بلا أرواح، عقولا بلا هويات. مجتمعاتنا الشرقية سلبت المرأة العرش الذي كانت تتربع عليه في العصور القديمة لتجلسها على أرض أقفاصها القذرة" / ص 81
أما الفصل الرئيسي في الرواية فهو الفصل الذي يبدأ من ص (107) وهو الفصل الذي يتحدث عن انفجار المرفأ، على لسان (سارة) ويبدأ انفجار المرفأ من صفحة 109، فيما إن الصديقات الأربع مجتمعات في مطعم
"دوي انفجار مرعب حطم الواجهة الزجاجية لتتساقط قطع الحجارة الصغيرة من السقف" / ص 109 وما بعدها مع وصف للحات التدميرية للانفجار، وعرض الانفجار على ألسنة الشخصيات الأربع، ووصف آثار التفجير في لقطات مأساوية متتابعة، فسارة تبحث عن صديقاتها بين الموتى، ويمنى في المستشفى فاقدة للذاكرة / ص 117، ثم موت ريتا ص 119-120 وكاتيا: (أصيبت بالعمى، أصبحت عمياء)، وتتجلى المأساة في عدة مشاهد مثل:
" قلبي يرتجف من الخوف، أنفاسي تلهث كأنني ركضت في سباق الماراثون، السواد يغمض عينيّ، أسمع صراخًا يليه العدم" / ص 120
"عقلي القرد لم يتوقف عن الثرثرة إلا حين دوى صوت انفجار يليه صمت العدم" / ص 124
هيروشيما بيروت:
تتحدث سارة، بعد ثلاثمئة وخمسة وستين يوما على الكارثة: / ص 126 :
"مر عام على هيروشيما بيروت الذي غير وجه المدينة، دون أن تكشف حقيقة ما حصل في ذلك اليوم، أو أن يُحاسب المسؤولون عنه"
ثم تواصل:
"كأنه ديستوبيا: إنها الكلمة الوحيدة التي أستطيع أن أصف بها لبنان، بقعة صغيرة على خارطة العالم، يعيش فيها الإنسان مكبل الإرادة، مفتقدا إنسانيته، بسبب القمع الذي تمارسه السلطة الفاسدة ضده منتهكة القيم الأساسية" / ص 126
لا تزال عقارب ساعتي متوقفة عند الساعة 6:07 دقائق، لا يزال الأطباء يخرجون شظايا زجاج من جسدي، آخرها قطعة بحجم سنتيمتر بقيت عشرة أشهر عالقة فوق ركبتي" / ص 126
"شظايا الانفجار تعيش في داخلي، جمعها اللا وعي ليكوّن منها كتلة الألم" / ص 127
وتتعرض الرواية إلى أخطاء السلطة 127 وما بعدها، والتعبير عن مجرة الألم،
وتختتم الرواية بهذه النهاية:
"أو ليست سيدة العدالة معصوبة العينين؟
أو ليس الحب أعمى؟
ألا ينقاد الناس برغباتهم العمياء أكثر مما ينقادون بالعقل على حد قول سبينوزا؟
ليت العالم يصبح أعمى" / ص 139
إنها رواية مأساة، ورواية ألم، ونقد اجتماعي، ورصد للتفجير الاجتماعي، قبل أن تكون رواية معبرة عن الحدث الهيروشيمي البيروتي الكبير.