رأي
اختطفه الموت في حلب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تعد ملحمة جلجامش أكثر من مجرد وثيقة أدبية عظمى؛ إنها نصب تذكاري فكري وحضاري يؤرخ للمرحلة الأولى من تبلور الوعي الإنساني بالدين والفلسفة. لقد أثبت اكتشافها، لا سيما قصة الطوفان، أنَّ العديد من القصص المؤسسة للوجدان البشري لها جذور مشتركة عميقة تمتد إلى مهد الحضارات في بلاد الرافدين. وهي تظل دليلاً ساطعاً على التبادل والتأثير المتبادل بين ثقافات الشرق القديم، وتأكيداً على أن الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت والخلود هي أسئلة إنسانية أزلية سعت الشعوب إلى الإجابة عنها منذ فجر التاريخ.
ففي منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً في عام 1849، تكشفت أسرار حقبة سحيقة من التاريخ حين كان عالم الآثار البريطاني الجسور السير أوستن لايارد ينقب في ركام مدينة نينوى الأثرية، مستخرجاً من مكتبة الملك الآشوري آشوربانيبال كنزاً لا يُقدّر بثمن: مجموعة من الألواح الطينية التي نُقشت عليها أقدم قصة ملحمية عرفها التاريخ، بالخط المسماري العتيق. ظلّت هذه الألواح صامتة ومغمورة، تحمل سرّها بين طياتها، إلى أن جاء الباحث الفذّ جورج سميث في سبعينيات القرن التاسع عشر، وهو المشتغل في المتحف البريطاني، ليخوض غمار فكّ رموزها المعقّدة.
مع تفكيكه لشيفرة الحرف القديم، أدرك سميث أنه يقف أمام عمل أدبي ملحمي يُعد بحقّ نقطة انطلاق الأدب العالمي. وكان الإعلان عن هذا الاكتشاف العظيم حدثاً مدوياً، لا سيما في لقاء لندن التاريخي عام 1872 الذي ضمّ سادة العلم والسياسة ورجال الدين، حين كشف سميث عن فحوى اللوح الحادي عشر من الملحمة. لم يكن مجرد كشف، بل شكل صدمة فكرية ودينية هائلة، حين أعلن عن قصة الطوفان، التي دوّنت قبل آلاف السنين، وتحمل تشابهاً مذهلاً، وأحياناً يكاد يكون حرفياً، مع قصة النبي نوح كما وردت في سفر التكوين، لتتجاوز أهمية الملحمة حدود الأدب وتدخل إلى عمق الوجدان العقائدي العالمي.
هذه الملحمة، التي دُوّنت قبل ما يزيد عن أربعة آلاف عام، تحكي مغامرات الملك جلجامش، حاكم مدينة أوروك السومرية، ورحلته الخالدة مع رفيقه أنكيدو، وهما يقتحمان المجهول بحثاً عن إكسير الخلود. إنها تتناول أعمق القضايا الوجودية التي أرقت الإنسان منذ فجر وعيه: ماهية الصداقة الحقة، وحتمية الموت، ومعنى الحياة في مواجهة المصير وقدرة الآلهة. وقد أظهرت الدراسات المقارنة تداخلاً لافتاً بين نصوصها ونصوص العهد القديم، ليس فقط في قصة الطوفان، حيث يروي الحكيم أوتنابشتم أمر الآلهة ببناء السفينة للنجاة من الغرق العظيم، وهو ما يتطابق في سياقه مع قصة نوح، بل امتد التشابه ليشمل قصص الخلق، كخلق أنكيدو من الطين، المشابهة لخلق آدم، وفكرة الأفعى التي تسرق نبتة الخلود، وهي عناصر مشتركة تضيء على جسور التواصل الفكري بين الحضارات.
تشير التحليلات الحديثة إلى أن الكَتَبة الذين أشرفوا على تدوين أسفار التوراة، وخصوصاً خلال فترة السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، قد نهلوا من معين الأدب الرافديني الزاخر، حيث كانت هذه الأساطير والقصص، التي تدور حول مصير الإنسان ووجوده، سائدة ومتداولة في بابل، معقل إقامة اليهود آنذاك. ورغم ظهور المسيحية لاحقاً، إلا أن العهد القديم يشكل ركناً أساسياً من إيمانها، فانتقلت هذه التأثيرات الفكرية والأدبية إلى صميم الفكر المسيحي عبر المتون التوراتية. إن ثيمات الخلود، والمصارعة المريرة مع الموت، والبحث عن المعنى السامي للوجود، والاعتراف بالفناء البشري، كانت محاور مركزية في ملحمة جلجامش، وقد وجدت صدىً كبيراً في وجدان الشعوب، لا سيما في ترسيخ فكرة محدودية قدرة الإنسان وحاجته إلى الخلاص.
لقد شكّلت ملحمة جلجامش أقدم نموذج للبطولة الإنسانية التي تحتفي بالإنسان وتضعه في مركز الأحداث، مفكراً في مآله الأبدي، وهو ما أثّر عميقاً في مسيرة تطور الفكر الديني والفلسفي اللاحق في المنطقة، متجاوزاً حدود القصة إلى نسج المعاني الفلسفية المتعلقة بالشرط الإنساني العام. ولقد كان لهذا الاكتشاف أثره البالغ على جورج سميث الذي سافر مجدداً إلى نينوى، مدفوعاً بحماسة الدعم المالي لصحيفة الديلي تلغراف، ليتمكن من العثور على أجزاء إضافية من الألواح، وينجح في ترجمة نص الملحمة للإنكليزية في عام 1872، قبل أن يختطفه الموت في حلب عام 1876 عن عمر يناهز السادسة والثلاثين.