قصة قصيرة
القشل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كوخ صغير يقع على الجانب الآخر من النهر، بجانبه تل مرتفع القمة، منتفش بشجيرات صغيرة خضراء داكنة، مطوقة بهضاب أصغر وكأنها أجراء قط كبير؛ كوخ يسبح في هواء شتاء بارد مرذذ في جو صامت، وفي انتظار بزوغ سيدة الكون والطاقة. وتحيط بالكوخ أشواك مكورة، وكأنها من كبار القنافذ العملاقة، وكتل خشبية وصخور مسننة نحتت خصيصاً لذلك المكان. ويتعاقب على حراسة الكوخ بصمت رهيب سرب من صقور العشيرة الملثمين والمدججين بالسلاح، والمحزمين بالخناجر وبحزام العتاد والذخير؛ حراس بوجوه يطبعها الحزن، ويتطاير الغضب من أعينهم... تخالهم يحرسون كنوزاً من الذهب واللؤلؤ والمرجان وأشياء ومقتنيات لاتقدر بثمن. أحياناً، يحرسونها من سارق الحياة، وهو السارق الأعظم، وتراهم يتصاحون بأصوات غربية أحياناً كأصوات الذئاب المتعطشة للفرائس في البراري، وكما يبدو متفق عليها كلمات سر.
ما أجمل حياة الريف ببساطتها وسلاسة حركتها وصلابة ترابطها الاجتماعي. حياة لا تخلو نكهة من الخرافات وتحدي الثوابت، ويعطرها صدق النوايا. إنها طيب تغلفه حلاوة أهلها وطبيعتها، ولوحة يتجسد فيها، بالرغم من كل الصعاب، ما يمتع النظر ويطرب المسامع ويريح المشاعر، ولكنه كذلك يثير الحزن والأسى لافتراسها من طرف آفة الجهل المتجمد أفكاراً في الرؤوس.
في هذا المحيط الطبيعي الجميل، والمرعب في نفس الوقت، والذي لم تدنسه ما استقدمته الحضارة الجديدة، وخصوصاً متعلقات التقدم التكنولوجي، في هذا المحيط بالذات تستقر عشيرة آل بو واجف التي، إلى جانب خصالها بالشجاعة والضيافة والكرم، عرفت أيضاً بين العشائر وبين سكان البلدة بجديتها وسرعة اتخاذ القرارات الغريبة، وميولها العاطفية المتطرفة التي طالما سببت ويلات النزاعات المدمرة وسيلان الدماء، كما عرفت بغريب الهوسات، والأشهر بين الهوسات الهتافات ضد مدير الوحدة الإدارية في البلدة (مدير الناحية) بعد تجاوز أبناء العشيرة على قوانين الدولة بشأن التملك، وكانت الهوسة تقول:
"يعيش الله والرسول ويسقط مدير الناحية"!
وكان أفرادها يحاربون كل دخيل، ويتمسكون بكل ما هو أصيل، ويبتعدون عن كل ما هو ذليل، ويحاولون بكل جهد وقوة إيجاد البديل مهما كان الأمر؛ حيث يعتقدون أن لديهم كل الحلول، كما يعتقدون أنَّ القوة هي الطريق الأسلم للنجاة، حتى أنه بها يمكن تحدي ملك الموت من أجل الحياة، والتغلب عليه بالضربة القاضية، وتحذيره من العودة بقرصة أذن، والرجوع إلى حيث أرسل خاوي الوفاض. وكانوا يخالفون المعتاد، ويتجاوزن على الحقيقة، ويعتبرون ذلك ممكناً.
عندما تصاب الجدة أو الجد من أسرهم بمرض عضال يجعله طريح الفراش، اعتادوا على تطويق المكان الذي يرقد فيه المريض، والدوران على أسواره وخناجرهم تعكس ضوء الشمس الدافىء، وشفاههم يابسة حزناً أو قلقاً أو إعياءً، عطاش وبطونهم خاوية لانشغالهم بالمريض وقلة اشتهائهم الزاد. مهمتهم الكبرى منع قابض الأرواح، هذا المرسل من السماء، من دخول المكان وتعنيفه. وتراهم يحذر بعضهم بعضاً من دخوله إلى سرير المريض. ومراراً، وفي نهاية المطاف، يصدف أن يحدث ما لا يحلو لهم، وتراهم يتساءلون من أين دخل هذا المرسل، ويستعملون كل ما في أيدهم من سلاح وعصي للضرب العشوائي على الأشواك والصخور المحيطة المانعة لدخول المخلوقات والمنتصبة لهذا الغرض. وتراهم يطلقون النار من أسلحتهم. وترى ابنهم الأكبر عبيد يقول:
- من أين دخل هذا الملعون؟
فيرد عليه الابن الأصغر صبار، وهو يومئ بيده:
- من تلك الفتحة في الحائط الخلفي... ملعون الشيب!
ويرد الابن الأوسط جاسم:
- كيف دخل ولم نره... وأين اتجه؟
هكذا كانت البساطة أو السذاجة عند أدنى حدودها.
ومن المفارقات التي حصلت في هذه العشيرة، عشيرة أل بو واجف، أن أحد أبنائها من الأوفر حظاً بالعلم والدراسة، والأكثر رزانة من الباقين، قد تدرج في المناصب العسكرية في الجيش، وأصبح من أصحاب القول والفعل في الدولة، كما أصبح من قادة الجيش اللامعين. وكان شاباً يافعاً ممشوق القامة، ملاكاً ذو وجه دائري، يتمايل في مشيته صلب المراس قليل الكلام، "يتزاور" مع أبناء عشيرته حيث كان يسكن في العاصمة، هو المتزوج من سيدة مثقفة طبيبة سليلة نسب معروف يرجع في أصله إلى إحدى الشخصيات التاريخية المعروفة في البلاد.
في إحدى زياراته إلى مرابع العشيرة هو وعائلته، إلى حيث الجمال والطبيعة الخلابة والكرم والجود، وبعد الترحيب المنقطع النظير به وبزوجته، وتناول وجبة الغداء، خلع بدلته العسكرية برتبها الذهبية وعلقها في صالة الطعام، وذهب لينام قليلاً. وفجأة وجد ابن عمه أحمد الفريسة ذات الرموز الذهبية، ولبس البدلة برتبها اللامعة وخرج ليتجول للتباهي والمفاخرة في شوارع وأزقة البلدة وهو يمشي المشية العسكرية المألوفة والمعتادة، ناطقاً بنبرة مطلية بالأوامر العسكرية الجادة العالقة في ذهن كثير من الشباب آنذاك من الذين قاموا بأداء خدمة الوطن الإلزامية، طالباً من الناس أداء التحية.
رجع أحمد إلى المنزل وبدا أهله في حيرة من أمرهم لا يعرفون ما العمل لتفسير ما قام به هذا المخلوق سوى السكوت، مثلما ساد السكوت برحيل جدتهم حين قبض رسول الموت على روحها.