ثقافات

قراءة في رواية “بيروت مدينة العالم”

عوالم ربيع جابر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

قبل سنوات حاز ربيع جابر جائزة البوكر نظير روايته “دروز بلغراد”، لكنني أسلط الضوء هنا على روايات أخرى.

بالنسبة لي، فإن رواية “بيروت مدينة العالم” هي أهم أعمال جابر مطلقاً، و”دروز بلغراد” هي في الأصل سطر في “مدينة العالم”، وقبلها كانت لها إشارة في عمل أسبق، هناك من سيتحدث عن “طيور الهوليداي إن” كمقابل جدي لملحمة الحرب والسلام، لكنني أنحاز إلى “مدينة العالم”.

بدأت القصة العام 1820 حين وصل عبد الجواد البارودي إلى أسوار بيروت هارباً من دمشق، طعن عبد الجواد شقيقه وركض حتى وصل بيروت، اتضح أن الشقيق لم يمت، سجد عبد الجواد شكراً لله، وأقسم ألا يغادر المدينة التي كتبت له حياة جديدة.

من الجامع العمري بدأت مسيرة كفاح عبد الجواد، بدأ تاجراً صغيراً وكبر تدريجياً. تزامن صعود عبد الجواد مع ازدهار المدينة ونموها. بنى عبد الجواد بذراع واحدة بيتاً مربعاً صغيراً في زاوية سوق القطن، تمدد البيت وأصبح فيما بعد “حارة البارودي”، فقد تزوج عبد الجواد أربع نساء وامتلك جارية ليرزق رتلاً من الصبيان والصبايا، كل بناته فاتنات، وصل صيت جمالهن إلى الحجاز وإلى الإسكندرية.

عانى عبد الجواد من بكره شاهين. خلق شاهين ليتمرد، قاتل في حوران وفي بحرصاف وتنقل بين اللاذقية والأستانة، فقد ذاكرته وظن نفسه تركياً فانقطع عن بيروت إلى الأبد. شقيقاه عبد الرحيم وعمر تصارعا مع الأتراك والإنكليز.

هذه ليست مجرد رواية، إنها ملحمة تحوّل بيروت من مدينة في العالم إلى عالم في مدينة، والمؤسف أن المشروع الإيراني اليوم يعزل بيروت إلى “مدينة تحت الأرض”. وكما رصد جابر قصة انصهار العالم في بيروت، قدّم لنا في روايته الفذة “أميركا” القبلة التي طبعها اللبنانيون على خد العالم.

قصة مرتا أندراوس التي هاجرت إلى أميركا بحثاً عن زوجها خليل حداد، شابة ساذجة وفاتنة تحولت خلال عقد واحد إلى واحدة من أهم سيدات الأعمال في أرض الأحلام.

نحن نتحدث عن المهاجرين الأوائل الذين باعوا “الكشة”، خليل بدأ في أميركا كشاشاً وتزوج من ثرية لويزيانية لكنه مات دفاعاً عن أميركا خلال الحرب العالمية الأولى، ابن مرتا من حبيبها وزوجها الأخير علي جابر قاتل في صفوف الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، هل هذه قصة كفاح المهاجرين واللاجئين أم قصة أميركا التي تستقطب أبناء الأرض وتصهرهم بتكافؤ الفرص والاستيعاب والانتماء؟ إنها كل ذلك.

ما هذه الـ “مرتا”؟ عملت في معمل خياطة ثم كشاشة ثم بائعة حرائر، اكتشفت خيانة زوجها فابتدأت حياة جديدة. ما هذا الـ “علي جابر”؟ دخل أميركا بطريقة غير شرعية، وعمل في معمل جلود في لونغ أيلاند ولم يجد نفسه، ذهب إلى الأرجنتين وعمل في حوض سفن، لم يجد نفسه أيضاً، جرب حظه في البرازيل وفشل، وكما دخل أميركا سباحة عبر نيويورك عاد إليها سباحة عبر نهر المكسيك، حين أحب مرتا وتزوجها وجد نفسه وحقق ذاته. سقطت مرتا غير مرة، ونهضت من الرماد، أراد ربيع جابر أن يوجه تحية إلى المرأة تماماً كبني جلدته وأميركا. ما زلت مندهشاً إلى اللحظة كيف ترشحت رواية “أميركا” إلى البوكر ولم تنلها.

إن لم تخنّي الذاكرة، قدم ربيع جابر، ثلاث روايات عن الحرب الأهلية “الاعترافات”، “بيريتوس: مدينة تحت الأرض”، و”طيور الهوليداي إن”، من قُبل متبادلة بين بيروت والعالم نتحدث الآن عن القبر الذي تخشاه بيروت ويخشاه لبنان عموما.

“الاعترافات” رواية سوداء كغلافها، مارون هو البطل، وظيفة والده هي اختطاف الناس وقتلهم، كيف حصل ذلك؟ باختصار قام “الآخرون” بخطف مارون صاحب السنوات الخمس وقتله، تحول والده إلى وحش سفاح، استوقف عائلة من “الآخرين” عبر حاجز، قتلهم جميعاً بلا رحمة، لكن ابنهم ذا السنوات الخمس لم يمت، أخذه الوالد القاتل &- المكلوم وسماه مارون، إذاً فمارون الراوي ليس مارون الأصل، بل مارون الثاني / مارون الآخر.

في الرواية الثانية “بيريتوس” تحت سينما “بالاس” الخربة شاهد أساس على الحرب الأهلية اللبنانية، سقط الراوي في حفرة عميقة، ليكتشف مدينة موازية لبيروت التي فوق الأرض، بيروت فوق الأرض مدينة الحياة وتحتها هي مدينة الموت المضاعف والمستتر: موت الإنسان وموت الأحلام، التجسيد الصرف لحقيقة التناقض بين الموت وبين الحياة، ما أقسى أن يكون للموت مدينة، مدينة تشبه الحفرة التي حفرت لبيروت وللبنان منذ 2005 وما تلاها من تفاقمات ليس آخرها انفجار المرفأ، لكن بيروت لم تمت بعد، ولبنان لم يستسلم، هذا هو المأمول والمرجو في الواقع.

أما رواية “طيور الهوليداي إن”، النظير اللبناني لملحمة “الحرب والسلام”، فهذه الرواية بطلتها الحرب كما قال فيصل دراج، ووصفها بالرواية غير دقيق، هي روايات داخل رواية، تبدأ بقراءة الكتاب، فتنتقل إلى ذروة الحرب الأهلية، القتل والقتل المضاد، التهجير والتهجير المضاد، الحرب والحرب المضادة، لكن الراوي هنا، كعادته، يرصد المشهد من القاع، حيث الصورة أكثر توحشاً وصدقاً ووجعاً ودموية ورعباً وسخرية.

هناك من أدرك عصر نجيب محفوظ وعوالمه، ونحن اليوم نعيش في عوالم ربيع جابر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف