ثقافات

عنوان مغرب منفتح .. مع وفاء للذاكرة

"كناوة" والصويرة ..شغف فني في "المدينة السعيدة"

فرقة كناوية تلقي عرضا في ازظقة الصويرة
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

إيلاف من الصويرة:للصويرة رائحة البحر، وإيقاع "كناوة"،وصخب طيور النورس، وشغب الرياح ومفاجآت الطقس. الوصول إلى "مدينة الرياح"،وهو اللقب الأجمل الذي تشتهر به هذه المدينة الأطلسية،يجعلك تقتنع بأنك نزلت أرضاً مختلفة، سيكون عليك أن تتعود على إيقاعها، هي المدينة، التي تستعرض سيرتها، اليوم، من خلال موسيقى "كناوة" ذات الإيقاعات القوية، المُحملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، والمشحونة بالإرث الحضاري الأفريقي والأمازيغي والعربي، فيما تناجي الأرواح الخفية وتغازلها، متوسلة بالإيقاعات والألوان، وإحراق البخور، وكل الوسائط الخفية الأخرى، كما تتوسل آلات خاصة، مثل "الكَنبري" أو "السنتير (آلة وترية من ثلاثة حبال)"، و"الكنكة(الطبل)"، ثم "القراقش (صنوج حديدية)، كما أنها، كما يكتب الشاعر المغربي محمد الصالحي "مزيج من حنين وشوق وألم وغربة وانفصام"، حيث "يصيحُ الكناوي مهتزًا نحو الأعلى، كما لهيب نارٍ، في ضوء ضَربات الطبل وإيقاع السنتير، وهي آلة محض أفريقية، وآلات يدوية حديدية ذات إيقاع حادّ، يبدأ بطيئا ليتسارع كلما اقتربت الذات الكناوية من لحظة الجذبة".

طبول كناوة

قصة "كناوة"

تتباين الآراء بخصوص أصل تسمية "كناوة"، فهناك من يجعلها تحريفا لـ"غينيا"، وهناك من يربطها بمعان ترتبط بمفردة "قن" كتعريف ومرادف لكلمة "عبد"، فيما يرى الباحث المغربي محمد الكوخي، في مؤلفه "سؤال الهوية في شمال أفريقيا"، أن الكلمةتحريف عربي لكلمة "إكناون" (مفردها أكناو)، والتي تعني بالأمازيغية من لا يستطيع الكلام (الأبكم) أو من لا يمكن فهم كلامه.

ويرى الكوخي أن التفاعل الثقافي، الذي حصل بين المكون الأفريقي، ذي الجذور القادمة من منطقة جنوب الصحراء، مع المكونات الثقافية الأخرى المتعددة في شمال أفريقيا، أدى إلى "بروز نمط خاص من الثقافة الشعبية ذات الموسيقى المميزة والمعتقدات العجائبية، التي يختلط فيها الواقع بالخيال، وتاريخ العبودية والواقع القاسي لفئة من المهمشين اجتماعيا، بالتاريخ العريق للزوايا الصوفية في شمال أفريقيا".

يشدد الكوخي على أن الصحراء لم تكن، في يوم من الأيام، حاجزًا أمام الاتصال الثقافي بين شمال أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء، حيث ظل الاتصال التجاري والسياسي يلعب دورًا حاسمًا في تقوية علاقات التفاعل الثقافي بين شمال وجنوب الصحراء، ممثلاً لذلك بالطريقة التي انتشر بها الدين الإسلامي في جزء مهم من جنوب الصحراء، انطلاقًا من قواعده بشمال أفريقيا، مبينًا أنه، منذ العصر المرابطي (1056 - 1147) كانت تجري محاولات سياسية وعسكرية لضم مناطق جنوب الصحراء لشمال أفريقيا، من أجل السيطرة على طرق التجارة الصحراوية ومصادر المواد الأولية المتاجر بها، قبل أن ينصرف اهتمام المرابطين، خلال حكم يوسف بن تاشفين (1006 - 1106)، شمالا، إلى الأندلس.

أزقة الصويرة القديمة

يذكر الكوخي أن تدخل المرابطين في بلاد الأندلس جعل الاهتمام ينصب، بشكل رئيسي، على المناطق الشمالية، وهو التوجه الذي تواصل خلال حكم الموحدين (1121 - 1269) والمرينيين (1242 - 1465). لكن، مباشرة بعد سقوط الأندلس (1492)، سيعود الاهتمام بمنطقة جنوب الصحراء مجددا، بشكل جعلها تأخذ حيزا من اهتمام السلطة السياسية بشمال أفريقيا، في وقت كانت قد بدأت تتجلى فيه مطامع الدولة العثمانية في منطقة السودان، خاصة بعد وصولهم إلى تلمسان ومحاولتهم السيطرة على الخط الجنوبي للتجارة الصحراوية. وفي الوقت نفسه، ولنفس الأسباب، كانت المنطقة محط أنظار الدولة السعدية في المغرب (1554 - 1659)، التي كانت خرجت قوية ومنتصرة عقب معركة "وادي المخازن"، التي وقعت في 1578، وفشل الأطماع الأوروبية والعثمانية في السيطرة على المغرب، ليقرر السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي، الذي حكم خلال الفترة ما بين 1578 و1603، أن يسبق الجميع ويغزو "بلاد السودان"، فجهز حملة عسكرية سنة 1590 انتهت بالسيطرة على مناطق الصحراء الجنوبية وإبعاد الأطماع العثمانية في المنطقة، والحد من التدخل الأوروبي في أفريقيا الغربية.

وفي سياق هذا التناول التاريخي لعلاقة المغرب بعمقه الأفريقي، لا ينسى الكوخي أن يستعرض فترة حكم المولى إسماعيل العلوي، الذي حكم خلال الفترة ما بين 1672 و1727، خاصة ما تعلق منها ببناء "جيش البخاري"، المكون من جنود من أصول جنوب صحراوية.

يتوقف الكوخي عند هذه الفترة التاريخية، فيعتبرها "مهمة جدا في تغلغل العنصر البشري والثقافي الأسود في النسيج السياسي والاجتماعي والثقافي للمغرب"، حيث سيظهر إلى الوجود أحد أهم المكونات الثقافية التي تبرز التأثير الأفريقي لجنوب الصحراء على منطقة شمال أفريقيا، وبالضبط في مجال الموسيقى الثقافية الشعبية، وذلك بالتوازي مع التأثير الأندلسي الشمالي، حيث ظهر في تلك الفترة نوع موسيقي جديد عرف باسم "الموسيقى الكناوية"، ومعه طريقة صوفية جديدة عرفت باسم "الزاوية الكناوية"، والتي تندرج ضمن الطرق الصوفية العديدة في المنطقة ذات التاريخ العريق، وتتركز أساسا في مدن الصويرة ومراكش ومكناس والرباط وجزء من مناطق الجنوب في سوس والأطلس.

جمهور مهرجان الصويرة

يشدد الكوخي على أن ما يميز "الزاوية الكناوية" هو الموسيقى "الكناوية" ذات الإيقاعات الأفريقية المميزة، التي تستخدم فيها عدة آلات موسيقية، هي (الكنبري) أو (الهجهوج) و(الطبل) و(المزمار) و(الصنوج) الحديدية، فيما يلبس العازفون لباسًا خاصًا يميزهم، يتكون، عادة، من ألوان فاقعة، مثل الأحمر والأزرق، ويضعون على رؤوسهم طرابيش تتميز بلونها وزخرفتها بالصدف. وعادة ما يترافق العزف الصاخب مع أهازيج وأغان مبهمة المعاني تظهر عليها بوضوح اللكنة الأفريقية عند نطق الكلمات، مع طابع حزين يمكن لمسه خلف صخب الأصوات والألوان، والذي يحيل إلى تاريخ العبودية في المنطقة والواقع القاسي التي كانت تتصف به حياة العبيد السود.

ورغم الطقوس الغريبة التي ترافقها والأجواء العجائبية التي تميزها، فإن أتباع الطائفة "الكناوية"، كما يبرز الكوخي، لا يعتبرون أنفسهم خارجين عن تعاليم الدين الإسلامي، لذلك، تجدهم يبدأون طقوسهم ويختمونها بالصلاة على النبي وذكر الله. ويشير الكوخي، في هذا الصدد، إلى "محاولات أصحابها إصباغ بعض الشرعية الإسلامية عليها بالادعاء بأن أفرادها ينحدرون من سلالة الصحابي بلال بن رباح الذي كان زنجيا أسود ومن أوائل المؤمنين برسالة النبي صلي الله عليه وسلم".

مدينة سعيدة

لا شك أن للصويرة ماضيها الزاخر، هي المدينة التي من بين أسمائها وألقابها "موغادور". لكل تسمية ولقب سياق خاص ومضمون مختلف. هي "ذات الأسوار"، كما كتب عنها الصالحي، الذي يرى أن "اسمها الأصل السويرة. سطت الصاد على السين فكان ما كان. يتقعر اللسان عند نطق الصاد فينطبق على الحنك الأعلى. فخامة تليق باسم فخم: الصويرة". يذكر الصالحي، أيضا، أن بعضهم يرى أن السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (1710 - 1790)، يوم أمر بإنشائها، سماها الصويرة، لأنه "أرادها على أحسن تصوير". أما بالنسبة للاسم الآخر (موغادور)، فيذكر الصالحي أن "البحارة البرتغال، وضعوا، في القرن السادس عشر، وتحديدا في 1506، حجر الأساس لبلدة على الساحل الأطلسي، في موقع وسط بين سواحل المغرب الشمالية، حيث جبل طارق، وسواحل المغرب الجنوبية، حيث سواحل أفريقيا الغربية الموصلة إلى رأس الرجاء الصالح. سميت البلدة "موكدورا"، ومر الاسم بمراحل قبل أن يستقر على "موكادور"".

الصويرة، اليوم، هي "عنوانٌ للمغرب المنفتح الذي يتقدم من دون عُقد.. المغرب المتجذر في هويته وقيمه، مع وفاء كبير للذاكرة"،كما يقول عنها أندري أزولاي، مستشار الملك محمد السادس، والرئيس المؤسس لـ"جمعية الصويرة موغادور". إنها الصويرة، حيث "تتجاور الأجناس وتتشابك اللغات وتتداخل الألحان في تضامٍّ فريد. عرب وأمازيغ وأجانب من كُلِّ جنس، يهود ومسلمون ونصارى، بيضٌ وسود"، كما كتب عنها الصالحي. الصويرة، المدينة الأطلسية والإفريقية، في آن. مدينة وأنت تجول فيها "لا بد أن تتفطن إلى كونك تجول في طقس أفريقي، فمآذن الصويرة إلى مآذن مساجد أفريقيا جنوب الصحراء أقرب. قل الأمر ذاته عن أسواقها الصغيرة المبعثرة التي تؤثثها مواد توقظ في النفس حنينًا جارفًا إلى وقع أخْفَافِ الإبل وهي آتية من تمبكتو مثقلة بالذهب وريش النعام والعاج والعبيد والصمغ العربي".

إنها الصويرة، المدينة التي قال عنها الكاتب المغربي الراحل، محمد زفزاف، إنها "كالمرأة، والمرأة هي القفل والمفتاح معا"، وكتب عنها الصالحي، تحت عنوان: "الصويرة... تلوح كباقي الوشم"، أنك تجد "المدينة السعيدة"، كما وصفها الكاتب المغربي اليهودي الراحل إدمون عمران المالح، "نائمة على سرير من حنين وتاريخ".

انبعاث مدينة

في الصويرة، لا يسعى مهرجان "كناوة وموسيقى العالم"، الذي انطلق سنة 1998، للحفاظ على تقاليد أسطورية أو إعادة إحيائها، فقط، بل إنه، كما قال الباحث المغربي محمد الطوزي، "مهرجان حديث في مدينة كانت بذاتها سباقة إلى إدخال أشكال الحداثة ضمن المملكة الشريفة. وهي حداثة عمرانية لأن المدينة لا تشبه بأي حال من الأحوال مدن العالم الإسلامي، حيث أن رمزها الوراثي اعتمد التناظر والحجر المقدد ومنازل بشرفات وساحات عمومية. هذه الأخيرة، هي، اليوم، منصات المهرجان. وهي كذلك حداثة اقتصادية، لأن المغرب أقام فيها محور مبادلاته مع الغرب (المحاسبة، الصرف، الجمارك). وهي أخيراً حداثة سوسيولوجية، لأن الصويرة منذ نشأتها كانت جيباً فريداً بفضل حداثة تعميرها، في ظل مجتمع مغربي قبلي. عند تأسيسها، عمل الملك العلوي سيدي محمد بن عبد الله على تعمير موكادوربساكنة مختلطة ضمت اليهود بأعداد وافرة وسكانها من جنوب المغرب".

ينتهي الطوزي إلى أن الصويرة "تمكنت من تحقيق انبعاث، بحثاً عن الكونية دون التنكر للجذور، بفضل ناشطين استطاعوا إعادة خلقها من خلال الرهان على الثقافة"، منتهياً إلى أن المهرجان "لم يعد فقط نشيداً للحرية والحميمية والكونية والأخوة ... ولا مجرد ذاكرة فاعلة وفضاء للخلق والإبداع الثقافي فحسب، بل أصبح تحدياً للفهم السائد: حضور ما يزيد على 300 ألف شخص من مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية في احتفال طيلة ثلاثة أيام، بنسبة قياس درجة الأمن (عون أمني/عدد رواد المهرجان) الأكثر انخفاضاً في العالم، وطاقة إيجابية تجعل جدران الصويرة ترد صدى الأنغام وتسحر الموسيقيين وعشاق الموسيقى".

مهرجان رائد

في نهاية تسعينيات القرن الماضي، اعتبر مهرجان "كناوةوموسيقى العالم"، مهرجانا رائدا ، له شعبية كبيرة ومجاني، اذ حظِيَ، منذ دوراته الأولى، بانتباه وإعجاب الجميع، فاتحا الطريق لنشأة وظهور مهرجانات ومواعيد ثقافية عدة في مختلف مناطق المملكة.

بالنسبة للمنظمين، فبالإضافة إلى كونه أثَّر ويؤثِّر بشكل كبير ودائم في المشهد الثقافي والفني المغربي، فإن مهرجان "كناوة" يعطي، بعد 25 سنة من الشغف والالتزام، الدليل على أن "التنمية يمكن أن تتحقق أيضا عبر ومن خلال الثقافة".

ويبدو أن رهان منظمي مهرجان "كناوة" على أن تشكل التظاهرة جسرا يربط الصويرة بمحيطها القاري والدولي، بشكل يعبر عن المغرب المنفتح على الآخر، لا يوازيه إلا حرصهم على أن تتألق المدينة بمهرجانها، لذلك لم يكن للدينامية التي تشهدها الصويرة إلا أن تبعث شعورا براحة البال بينهم، وخاصة أن الرواج التجاري لا تخطئه عين، كما أن كثيرا من سكان المدينة صاروا يجدون في المهرجان فرصة عمل وتحقيق مورد رزق إضافي، في حين يؤكد التوسع العمراني المتواصل والمشاريع الاقتصادية التي يجري إطلاقها والبنى التحتية التي يمكن الوقوف عليها، مقارنة بواقع المدينة في الدورات السابقة، أن المدينة تتحرك وتتطور نحو الأفضل.

وكانت خلاصات دراسة أنجزت لتقييم الأثر الاجتماعي والاقتصادي للمهرجان على المدينة، خلال الفترة ما بين 1998 و2013، نشرت نتائجها في 2014، قد بينت أن 89 في المائة من المستجوبين يرون أن المهرجان مهم للمدينة، وأبرزت أن كل درهم استثمر في المهرجان عاد بالنفع على المدينة بقيمة 17 درهما. وينطبق الشيء نفسه على المطاعم والمحلات التجارية والمؤسسات التي تقدم الأنشطة السياحية؛ ناهيك عن الطرق الجديدة التي تم إنشاؤها والخدمات الجوية التي تم توسيعها.

الجمهور .. ملح المهرجان

يبقى جمهور مهرجان "كناوة" هو الملح الذي يمنحه تميزه ونكهته. ويتفرد هذا الحدث الفني العالمي بجمعه بين جمهور متعدد الطبقات واللغات والأعراق والديانات والاختيارات السياسية، حيث يتماهى مع أجوائه الوزراء والسفراء ورجال المال والأعمال والعاطلون عن العمل والطلبة والأطفال والآباء والأمهات، في حين تبقى غالبية هذا الجمهور من الشباب الحالم، الذي يتميز بلباسه وتسريحة شعره الخاصة.

الجمهور هو خير سند ودافع لاستمرار فعاليات مهرجان "كناوة". ويمكن القول إن الأمر يتعلق بجمهور يتميز عن جمهور باقي التظاهرات الفنية عبر العالم، في أنه جمهور خاص، عاشق لهذا الفن الغني بمخزونه الحضاري ورمزيته الثقافية، متنوع اللغات والجغرافيات والأعمار، حيث الكل يتوحد في عشق هذه "الريح الفنية" التي تهب كل سنة على "مدينة الرياح"، لكنها ريح تتطلب من عشاقها ومريديها أن يقبلوا عليها متخففين من رسميات اللباس، وربما بتسريحات شعر فيها شيء من "صخب" و"شغب" سبعينيات القرن الماضي وكثير من "دوخة" الألفية الثالثة.

حنين وتعايش

ارتبطت الصويرة بثقافة "كناوة" في أذهان الناس، بعد أن جعلت منها المدينة حجة قوية لجذب المزيد من الزوار كل سنة، بشكل صارت معه الصويرة واحدة من الوجهات السياحية المغربية الأكثر شعبية في العالم.

كل شيء في الصويرة يحمل معاني الحنين إلى تاريخ مضى، انسل من بين الأصابع إلى درجة النسيان، قبل أن تتعهده المهرجانات الفنية واللقاءات الثقافية بالعناية، فتستعيده، مثالا ونموذجا في التعايش والحوار، ودافعا لـ"إنعاش الذاكرة واسترجاع نفحات حضارية مشرقة من فترات التعايش والتمازج الثقافي، بدل الصور الكارثية التي أصبحت تتصدر وسائل الإعلام"، كما يقول أزولاي.

شغف والتزام

بمناسبة دورة 2024، استعادت منتجة المهرجان ومديرته، نائلة التازي، ما قالت إنه "25 سنة من الشغف والالتزام"، فكتبت عن بدايات المغامرة ورهاناتها، ثم مآلاتها: "عندما رأى مهرجان "كناوة وموسيقى العالم" النور بالصويرة شهر يونيو من سنة 1998، لم يكن أحد يتوقع كل هذا النجاح الفني والإنساني الباهر الذي عرفه مع توالي الدورات. كان بمثابة هبة قوية رجت أركان مدينة "موغادور" العتيقة، التي كانت تعيش ولسنوات، احتضارا وانحباسا حقيقيا على جميع الأصعدة. لم تكن، حينذاك، حفنة صغيرة من الأصدقاء، مدفوعة برغبة قوية وجامحة لصون تراث مهدد بالاندثار، تدرك أنها بصدد التأسيس لمشروع سيغير ملامح ومستقبل مدينة بكاملها، بل سيخلق ثورة في المشهد الثقافي المغربي ويعرِّف بالموسيقى الكناوية على نطاق واسع في العالم بأسره. كان النجاح الشعبي للمهرجان آنيا وفوريا، إذ حج عشرات الآلاف إلى مدينة الصويرة الهادئة وغير المعتادة على هذا المد الجماهيري. لم يتوقع تجار وأصحاب المطاعم توافد كل هؤلاء المولعين بالموسيقى، فحصل نقص كبير في بعض المواد الغدائية والتموينية وانعدمت أخرى. صور وذكريات ما زالت موشومة إلى الآن في ذاكرة العديد من رواد وأبناء المدينة. منذ ذلك الحين قطعنا أشواطا ومراحل كثيرة".

في سياق هذا الالتفات إلى الوراء لاستحضار ما تم تحقيقه من إنجازات ونجاحات، لا تنسى التازي أن تستعيد الفترات العصيبة التي مر منها المهرجان. لكن المسيرة تواصلت مع يقين تام بأن هذا الحدث تجاوز ما هو ترفيهي محض، ليصبح له وقع جميل وتأثير كبير على محيطه، بعد أن مكن من إحياء وبعث مكون تراثي متجذر، وأعطى الدليل على أن "الثقافة ليست مجرد ترف"، بل هي "قوة حقيقية ورافعة أساسية للتنمية"، يمكن أن تكون رافعة لتنمية شاملة ومستدامة، بل ساهم، وبشكل ملحوظ، في النهوض بوجهة الصويرة، التي أصبحت اليوم نموذجا على الصعيدين الوطني والدولي و"منارة للثقافة والانفتاح والتعايش والتضامن".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف