قصة قصيرة
تجنيد قهري
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تك، تك، تتعقب أذناها صوت عقرب الساعة بانتباه شديد، فكل ثانية هنا تحدث فرقاً.
العاشرة ليلاً، يرن الهاتف، فتتقد عيناها برغبة جامحة...
للهاتف رنة طويلة تحدث صدى في أذنيها...
تتجه نحوه، ثم تقف أمامه (حتى الرنة الثالثة) تضع السماعة على أذنها: تتلقى أمراً، ثم تعيد السماعة.
تتجه نحو المرآة، ثم تتعرى... تحدق في جسدها... تضع يدها على صدرها: يخفق بانتظام عقرب ساعة؛ ثم يتجه نبضه نحو اضطراب لم يقلقها.
تتحرك قدماها ببطء نحو معطف شديد السواد... تغمر جسدها بالسواد، تعود إلى المرآة... تمد يدها نحو وجهها، ثم تحاول أن تتحسسه، لكن رنين الهاتف يقفز إلى أذنيها، فتغادر مسرعة نحو الباب... ثم نحو زقاق صغير...
تقتحم أقدامها العجلى المقهى وهي تتجه نحو طاولة بعينها...
تجلس في الطاولة المقابلة له...
إنه هو: وجهه كثيب، أضافره مدماة بسبب قضمها، يختبئ خلف نظارة سوداء، وعصاه الذهبية إلى جواره تتوازى مع ساقيه. إنه هو؛ لذلك نظرت إليه مباشرة، وحين انتبه وضعت يدها على عنقها ثم مررتها إلى الأسفل وحررت بعض الأزرة ليشع بياض صدرها... نظر إليها طويلاً... لكنها قاطعت تأمله حين نهضت... وأثناء مغادرتها انتزعت نظارته السوداء ثم غمرت عينيها بالظلام.
اندفعت قدماها لتقتحمان زقاقاً ضيقاً كئيباً، وحين التفتت رأته يتعقبها... بدت خطواته أسرع... شعرت بأن لهاثه يجذبها نحوه.
ما الذي يحدث؟!
أصبحت قدماها عاجزتين عن حملها...
بدأت تتخبط في مسارها، ثم أخذ جسدها يترنح وهو يرتطم بالجدران المتقابلة التي شكلت زقاقاً ضيقاً طويلاً...
أصبح على خطوات من إدراكها... لم تعد تستطع مجاراة تسارع أنفاسه... ودون إدراك منها، أخذت عيناها تحصد الكلمات والرسومات على الحائط عن يمينها ويسارها، وهي تقاوم فكرة أنها أصبحت عاجزة؛ فاستسلمت عيناها للكلمات: عذاب، ألم، معاناة، تنكيل، قهر... ثم صرخت فجأة:
- لا، لا...
لكن يده وأدت بقية مقاومتها في حنجرتها...
بدا لها أنه تحول إلى شيطان وهو ينظر إليها...
ثم اندفعت يدا الشيطان نحو معطفها فأشرق صدرها فجأة...
وضع أذنه على الجانب الأيسر منه... استمع إلى نبضها، ثم ارتفع رأسه نحو أذنها وهمس:
- التكرار طمأنينة!
ظل يردد ذلك، وهي تشاهد الكلمات على الحائط المقابل تتحول إلى رسومات لرجال ونساء يتبعون بعضهم في سلاسل غليظة... تحركت الرسومات فرأتهم يسيرون مقيدين ورؤوسهم نحو الأرض... صرخت حين رأت نفسها بينهم... بينما استمر هو في الهمس:
- التكرار طمانينة!
التكرار ط ...
أخذت تقاومه، ثم استجمعت قواها فدفعته... رأته يسقط...
ركضت عبر الزقاق الذي أخذ يتسع كلما تابعت ركضها... ركضت دون توقف حتى رأت أن هناك نهاية لهذا الزقاق... هناك نور...
بل نهار يعقب ليل الزقاق المختنق بالمكبلين والأسرى...
تجاوزت الليل إلى النهار... وأمامها وجدت شجرة... أصبحت خطواتها متثاقلة... نظرت خلفها فكان كل شيء قد اختفى: الزقاق، الظلام، وصاحب المعطف الأسود...
تابعت خطاها المثقلة نحو الشجرة وهي تتحسس امتلاء بطنها... تكور البطن أسفل الشجرة... وبعد لحظات ارتفعت صرخة طفل وليد... حملته بين يديها، ثم رفعته إلى الأعلى...
رأته يبتسم... ثم ينمو كلما رمشت... شاهدته يتسلق الشجرة... غاب بين أغصان الشجرة... وبعد دقائق صرخت وهي تشاهده يهبط على صدرها مرتدياً معطفاً أسود اللون...
سحبها من قدميها نحو الزقاق الذي عاد إلى التشكل... صرخت في ظهره وهو يجرها خلفه:
- لماذا تفعل هذا بي؟
أفلت قدميها ثم استدار نحوها... انثنى عليها وقد بدا مشفقاً...
همس في أذنها:
- "أنا صنيعتك؛ فما الذي تريدينه أنت؟!".
نظرت إلى معطفها... فنهضت مذعورة ويداها تتخبطان بحثاً عن أزاريره... خلعت معطفها فاستيقظ البياض والنور...