"فوات الأوان" لمحمد أبو زيد: في مواجهة الوقت الذي أفلت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ديوان "فوات الأوان" للشاعر المصري محمد أبو زيد (دار ديوان، القاهرة، 2025) ليس مجرد تسجيل لرحلة الوقت الضائع أو محاولة لاسترجاع لحظة مضت بلا رجعة، بل هو فعل وجودي ينبثق من أعماق الشاعر، يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليصبح الشعر فيه مساحة تحررية يقف فيها الشاعر على عتبة الذات، يشرع في غوص عميق داخل النفس، حيث يعيد اكتشاف الجمال واللحظة الحية عبر ملاحظة دقيقة وحساسية متجددة.
في هذا العمل، تبدو القصائد وكأنها تكتب من حافة زمنية لا تتصل مباشرة بالماضي أو الحاضر، بل تظل عالقة في منطقة بينية، حيث كل شيء يُدرك بعد فواته. العنوان إذًا مفتاح دلالي لفهم النصوص: إنها قصائد تُكتب من موقع التأخر، من مسافة تتيح التأمل والتهكم في آن. الشعر هنا لا ينتهي كما تنتهي الحياة، بل يظل مفتوحًا على أفق لا متناهٍ، يعبر عن زمن فوات الأوان الذي لا يعني فقط ضياع الوقت، بل هو حاضر متلبّس في الروح، محفّز على كتابة تشبه بذور الأعشاب التي، رغم قسوة الأرض، تستمر في الإنبات، أو الأشجار التي تنبت نفسها من رحم العتمة، تناضل لتظل حية رغم مرور الزمن وقسوته.
أبو زيد يقدّم قصائد نثر تنتمي إلى عالم هشّ، مفتت، تتكلم بلسان تأخّر عن اللحظة، وتكتب من قلب الشعور بأن كل شيء حدث مسبقًا، وكل شيء يُدرك الآن، لكن بعد فوات الأوان. الديوان مشبع بالسخرية السوداء والتجريب الحر، يُعيد عبره الشاعر صياغة العلاقة بينه وبين العالم، لا عبر المواجهة المباشرة، بل من خلال الانسحاب الحاد، التهكم البصري، واستعادة الرموز كأطلال باهتة. في هذه القصائد، تلعب الكلمات دورًا حُرًا، تلهو وتستعيد إحساس العمق والبساطة معًا، فتتحول الكتابة إلى لغة إحساس خام، تتجاوز حدود المنطق إلى عوالم صافية من الإيقاع والهمس، تعبيرًا عن استيقاظ داخلي عميق يجعل من فعل الكتابة تجلّياً للحياة وحضورًا، ونثرًا للفرح وسط ثقل اللحظات الضائعة.
تتكرر في الديوان إشارات إلى رموز ثقافية وتاريخية، من ماركس إلى سندريلا، ومن الطبقة العاملة إلى مشاهد الحكاية الشعبية، لكن اللافت أن الشاعر لا يستدعي هذه الرموز ليعيد إنتاجها أو يسخر منها بوصفها أيديولوجيا، بل ليتأمل في فراغها الحديث. ليس في الأمر إهانة أو استخفاف، بل حزن دفين على أفكار كبرى لم يعد لها صدى فعّال. هنا، يتجلى زمن فوات الأوان كثنائية بين الألم والحرية، الغياب والحضور، الفقدان واستعادة الإحساس. هو حقل تأمل تتحول فيه الكلمات إلى بذور حياة تنبت في صحراء الذاكرة، حيث يكتب الشاعر ليبقى، كالنبات الذي يُقاوم الجفاف، يزرع بذوره رغم كل الظروف القاسية.
في هذا السياق، يظهر ماركس في بعض المقاطع بوصفه شخصية منهكة، تجلس في مقهى كأي عابر خائب، تبتسم أو تضحك من العالم لا عليه، كما لو أن الشاعر يتساءل بصمت: ماذا تبقى من كل هذا؟ كيف أصبح الفكر الثوري مشهدًا عابرًا في لافتة؟ هكذا تتقاطع رؤية أبو زيد مع ما أشار إليه إريك فروم في كتابه مفهوم الإنسان عند ماركس، حيث فرّق بين ماركس كمفكر إنساني راديكالي، وبين الماركسية كنظام جامد. في الديوان، تُستعاد هذه الرموز لا لتمجيدها أو تقويضها، بل لتأمل هشاشتها الراهنة، واستحالة حضورها الفعلي في عالم أصبح مشغولًا بالسطح أكثر من الجوهر.
في "فوات الأوان"، لا يعلن الشاعر موقفًا سياسيًا أو بيانًا، بل يراقب أطلال اللغة النضالية ويحوّلها إلى مادة شعرية حزينة وساخرة. هذه ليست قصيدة احتجاج تقليدية، بل عمل شعري يعاين ما بعد الاحتجاج، عبر همسات الحكمة المُرّة وسط صمت كثيف لما فُقد. اللغة نفسها تظهر ككائن يتراجع، تنكمش وتتقشف، تُرتب شظاياها بهدوء، كأنها تعرف أنها لم تعد وسيلة للاتصال، بل لحفظ الأثر.
يختار أبو زيد قصيدة النثر بوعي كامل، لكنه لا يركن إلى تماسكها التقليدي، بل يشتغل على إيقاع متقطع، يتكوّن من جمل قصيرة، فواصل حادة، فراغات بيضاء، وتكرارات صوتية، كأن النص يلهث أو يتعثر عمدًا. هذا الإيقاع المتشظي ليس مجرد كسر شكلي، بل عنصر أساسي في البنية الجمالية، يعكس تفتت التجربة الإنسانية نفسها. ففي قوله:
"بوووم... القصيدة تتفجر في رأسي، لا أحد يسمع"
يخلق التناوب بين صوت الانفجار والفراغ السمعي إحساسًا بالانقطاع، وكأن الشعر لا يُسمع إلا بعد أن يصبح صدى. كما تميل استعاراته إلى بناء صور ملموسة تنزاح فجأة نحو السريالية، مثل قوله:
"أنا خيال المآتة، رأسي بيت الغربان، عيناي حقل قمح محروق"
تخلق هذه الصورة مركبًا دلاليًا من العزلة والاحتراق الرمزي، من دون أن تغلق المعنى أو تحدده، بل تتركه معلقًا في منطقة التشظي. وتتكرر تقنية "الصورة الناقصة" أو "المشهد المقطوع" كما في قوله:
"القصيدة ممددة على الرصيف، الناس يمرون فوقها كسيارات"
لقطة بصرية مكثفة، لكنها تتوقف قبل أن تُحسم، ما يجعلها مفتوحة على احتمالات تأويلية متعددة. السريالية في الديوان ليست قطيعة مع الواقع، بل انحراف عنه لإضاءته من زاوية جديدة، حيث الأشياء اليومية — المقهى، الرصيف، لافتة الشارع، فنجان القهوة — تتحول إلى إشارات على انسحاب العالم من نفسه، كأننا أمام كتابات تُدوّن بعد نهاية كل شيء، بصوت لا يريد أن يُسمع، بل أن يتردد.
من أبرز ملامح هذا العمل أن النصوص لا تسعى إلى إثبات المعنى، بل إلى الكشف عن غيابه، حتى يصبح الفراغ جزءًا من التجربة. الفراغات البيض، النهايات المقطوعة، الحوارات المتوقفة فجأة، كلها تؤطر غياب المعنى وتحوّله إلى مادة للقراءة. في مقطع الجنين الذي يرفض الولادة، نقرأ:
"لا بطاقة، لا اسم، لا مستقبل"
ثلاثية جافة تقطع المسافة بين الفكرة وتجسيدها، وتوازي ببرودها جفاف المصير الموصوف.
إذا كان ديوان جحيم (2019) قد قدّم رؤية بانورامية للعالم من الخارج بعدسة مخرج سينمائي — توزّع فيه النصوص في لقطات مليئة بالحركة والقطع، وامتزجت الحرب بالمدينة، والأسطورة بالفيديو كليب — فإن فوات الأوان يمثل تحولًا حادًا إلى الداخل، حيث تنكمش العدسة وتقترب من مشهد داخلي هشّ، صور فوتوغرافية مشروخة، أو رسوم سريعة التُقطت بعد الحادث مباشرة، والغبار ما زال عالقًا في الهواء.
على المستوى الأعمق، يبدو أن الشاعر لا يكتب فقط عن الزمن، بل من داخله، بوصفه كيانًا غامضًا ومراوغًا، يقضم الأعمار بصمت، ويؤجل كل ما هو شخصي وإبداعي وإنساني. فـ"فوات الأوان" ليس مجرد عنوان استعاري، بل تصور وجودي كامل، يتجلى في تقسيم الديوان بين "قبل" و"بعد"، ووسطهما قصيدة وحيدة باسم "الأوان"، كأن لحظة الإمساك بالزمن مجرد ومضة عابرة بين فكيّ الفقد.
في ضوء بنيته المتشظية ونبرته الساخرة الممزوجة بالحزن، يتموضع ديوان "فوات الأوان" ضمن تيار شعري معاصر يعيد تعريف القصيدة بوصفها أثرًا لا حدثًا، شظية لا بيانًا. ينتمي هذا التيار إلى أجيال شعرية بدأت تظهر منذ أوائل الألفية الثالثة، والتي مزجت بين السردي والشذري، بين اليومي والتقني، وبين الجرح والهامش، لكنه يدفع بهذا المنحى إلى منطقة أكثر سريالية، وأكثر وعيًا بجماليات الانكسار. تقاطعات هذه التجربة مع أصوات شعرية عالمية تنتمي إلى ما بعد الحداثة تضعها في حوار مع شعراء اشتغلوا على قصيدة "الانقطاع" — تلك التي تُكتب من الفجوة لا من المركز، وتحتفي باللآيقين بدلًا من اليقين.
وإذا كان الزمن في هذا الديوان قد فات، فإن ما لم يفت هو إصرار الشعر على اقتناص لحظاته الهاربة، وإعادة صياغتها لا كمرثية، بل كبذرة لولادة أخرى. ولعل هذه المفارقة هي التي تجعل "فوات الأوان"، رغم اسمه، أشبه بإعلان عن بداية جديدة تولد من صلب الانقطاع ذاته، وتستأنف المعنى.