فضاء الرأي

تجربة قارئة مع الكتب التي أنقذتها من المرض والفراغ

الكاتب جنكيز إيتماتوف
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

منذ مراهقتي، أدمنتُ قراءة الكتب، والروايات منها تحديداً، وذلك لأنني أستطيع أن أستكشف فيها عوالم من الصعب عليّ أن أتعرف عليها في واقعي المحدود آنذاك.

وكثيراً ما كنتُ أستنجدُ بالروايات كي أشفى أو أتعافى من بعض الأمراض والعلل التي كانت تداهمني على حين غِرّة.

أتذكر مرةً أنني أُصبتُ بحمى شديدة جعلتني أُلازم الفراش لعدة أيام، وبقيتُ أرتعد تحت الأغطية دون أكل أو شرب سوى الماء، والعرق يتصببُ مني، إلى أن وقع بصري على رواية كانت موضوعة فوق أخواتها في ركن غرفتي.

فتحاملتُ على نفسي، وسرتُ بوهنٍ إليها، ورفعتها إليَّ وبدأتُ بقراءتها وأنا مستلقية على فراش المرض.

بقي عنوانها محفوراً في ذاكرتي إلى الآن: (الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر) للكاتب جنكيز إيتماتوف، وحال انتهائي منها زالتْ عني الحمى، وقمتُ متعافية، وكأنها زوّدتني بطاقة الشفاء.

غير أنني في بعض الأحيان أتلهف للحصول على رواية معينة، كون مؤلفها كاتباً مشهوراً، فقد يكون هذا الكاتب قد حصل على جائزة عالمية مهمة في حقل الآداب، أو أنها تحمل عنواناً يثير الدهشة لديّ، مثل: (كيف يتكوّن جنين الشبح في بطن الأوزة).

أعتقد أنه عنوان صادم، أليس كذلك؟!

ربما سأستخدمه يوماً ما في إحدى رواياتي &- من يدري؟ &- فعناوين من هذا النوع تثير شهيتي للانغماس أكثر في القراءة.

ولكنني أحياناً &- أقول أحياناً، والحمد لله &- أسقط في فخ الملل، هذا الشيء الثقيل الذي يحاول أن يتسلل إليَّ فيمنعني من مواصلة متعتي القرائية.

وقد يكمن سبب الملل لديّ في فراغ الرواية وخلوّها من الافتتاحية المدهشة التي تستطيع أن تشدّ قارئها وتُسمّره في كرسيه إلى النهاية، فيبقى طوال القراءة يبحث عن الرابط الخفي بينها وبين أحداث الرواية، فافتتاحية من مثل: "بعد سنوات طويلة، أمام فصيلة الإعدام، تذكّر الكولونيل أورليانو بوينديا ذلك اليوم البعيد حين أخذه أبوه ليعرّفه على الجليد"، أو: "فجأة، وكإن إعصاراً زرع جذوره في مركز البلدة، وصلت شركة الموز تلاحقها عاصفة الأوراق"، هي افتتاحيات مثل هذه جعلتني أعشق روايات غارسيا ماركيز، فهي مكتنزة، وتوقظ فضولي، ومن ثَمّ فهي لا تترك للملل منفذاً يتسلل منه إليّ.

ومن الأسباب التي تفتح للملل باباً وتدخله إليَّ، البداية البطيئة أو المفرطة في الوصف، أتذكر أنني أوشكتُ على الاختناق حينما بدأتُ بقراءة رواية (الإخوة كارامازوف) لتولستوي، فقد أسهب الكاتب في صياغة مقدمتها حين بدأ بسرد الخلفيات العائلية والتحليلات الفلسفية للشخصيات بلغة معقدة، مما جعلها تبدو ثقيلة فعلاً، خصوصاً على من يقرأها لأول مرة. (أكيد سيكرهني عشّاق الأدب الكلاسيكي).

ومن الأسباب الأخرى التي تجعل قراءة الرواية عندي مملة، تأجيل الحدث الأساسي، فيشعر القارئ بأن الفعل الدرامي غائب أو مسطّح منذ البداية، على سبيل المثال، في رواية (العائد إلى الوطن) لتوماس هاردي، تبدأ الأحداث الفعلية بعد حوالي مئة صفحة من الرواية، وهذا ليس بالأمر الهيّن الذي يمكن أن يتحمله القرّاء بسهولة.

فإذا ما تركنا الأسباب العديدة للملل من القراءة، وحاولنا البحث عن علاج له، فبالتأكيد أن لكل قارئ طريقته الخاصة في ذلك، أما أنا، فالعلاج الذي أعتمده يتكون من عدة خطوات، أولها تأجيل القراءة لا تركها، فما أن أشعر بأن هذه الرواية مملة، حتى أضعها على الطاولة وأنا أهمس لها: "سيكون لي لقاء معكِ غداً... نعم، غداً"، فليس من اللائق &- في رأيي &- أن تترك رواية باشرتَ بقراءتها دون أن تكملها لأكثر من يومين، فإذا ما حلَّ اليوم التالي وحان موعدي المقدس &- أعني المخصص للقراءة &- أعددتُ قدحاً من الشاي، وصرتُ أتحدث إلى نفسي محفّزةً إياها بلطف على إكمال ما شرعتُ به أمس، قائلة:

"وبما أنني لا أؤمن بوجود الصدفة، فبالتأكيد أن وصول هذه الرواية إليَّ لا يقع في دائرة الصدفة، بل إنها تريد أن تخبرني بشيء ما"، فإن لم أستطع إقناع نفسي بما أخبرتها به، أواصل التحدث إليها بلغة تحمل بين طياتها نوعاً من التحفيز القائم على الخيال، فأقول: "ربما تخفي هذه الرواية أسرارها على المتلقي وتحتاج إلى طول بالٍ كي يتم الإمساك بزمامها".

وبعد محادثة قد تستغرق عشر إلى خمس عشرة دقيقة، أجلس على الأريكة وأبدأ القراءة، فالروايات المملة تُرغم قُراءها على الجلوس على الأرائك، أو على الأرض، وإلا، فكيف يمكنك أن تعدّل من جلستك متى شئت، وكيف لك أن تسترخي بأية وضعية تشاء إذا لم تكن تجلس على أريكة؟

الجلوس على الكرسي لا يسمح لك بذلك. وكلّما انتهيتُ من عدة صفحات، أصرّ على مواصلة القراءة للوصول إلى السرّ الضائع الذي منّيتُ نفسي باكتشافه، فليس من المعقول أن تخلو رواية مكتوبة بمائة صفحة مثلاً من جملة مهمة، فإذا وصلتُ إلى منتصفها ولم أجد ضالتي المنشودة، نزعتُ عن عينيَّ عدسة المكتشف لأكمل القراءة بعين الناقد، حينها أسأل نفسي لماذا كُتبتْ هذه الرواية؟ ما الذي أراده كاتبها من وراء تأليفها؟ فلا يمكن أن أتخيله، وقد استيقظ في أحد الصباحات ليقول لنفسه: "اليوم أنا عازم على كتابة رواية أزعج بها القرّاء، لا تحمل في طياتها هدفاً"، ففي هذه الحالة يكون الإزعاج نفسه هو الغاية، أو الهدف من وراء كتابة تلك الرواية، أليس كذلك؟

فإذا بدا لي الأمر كذلك، لا أجد بُداً سوى أن أقوم بربط أحداث تلك الرواية بمخيلتي، فأحاول أن أكون واحدة من أبطالها، طبعاً سأختار أن أكون البطل الرئيسي الذي يُبنى على تطوّر شخصيته التصاعد الدرامي للحدث، وأبدأ بإسقاط مشاعري الخاصة على شخصيته، وحينها سأرتبط بالرواية ارتباطاً عاطفياً، وبذلك أضمن لنفسي عدم ترك القراءة كي أتعرف على نهاية شخصيتي المختارة وحتى لو كانت نهاية الرواية سطحية، تفتقر إلى العمق النفسي أو الفلسفي أو الرمزي، أو كانت نهاية تقليدية يتزوج أو يموت بها البطل، أو يزوّدنا بها الراوي بموعظة دينية أو أخلاقية فيقول مثلاً: "وهكذا تعلمنا أن الطمع لا يفيد"، أو تكون نهاية تقريرية مباشرة مثل: "لقد كانت تلك الأحداث دروساً في الصبر"، فإنني حينها أكون قد انتصرتُ على مللي وأكملتُ القراءة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف