مادوف بـ "العربي"؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
محمد كركوتي: لم أستطع تجاهل القاسم المشترك، بين "المستثمر" الأميركي برنارد مادوف المستشار في بورصة "وول ستريت" الأميركية، والرئيس السابق لمجلس إدارة البورصة الالكترونية "ناسداك"، ورئيس عشرات الشركات "الاستثمارية".. وبين سمسارة توظيف الأموال الذين انتشروا كالسرطان العدواني ( هناك سرطان غير عدواني) في عدد من الدول العربية ( لاسيما مصر) في ثمانينات القرن الماضي. فالطرفان سرقا واحتالا وبددا أموالا ليست لهم، ووضعا مستقبل الضحايا في المجهول، ونشرا آلاما معيشية يصعب خفض أنينها، وأثبتا مرة أخرى أن الأخلاق الغائبة عن أروقة السوق، تضرب بوحشية أركان المجتمع، وكشفا في الوقت نفسه أن الطمع ليس حكرا على الأثرياء، بل يأخذ فقراء تحت جناحيه. وإذا كانت هناك فوارق بين الطرفين. فالفارق الأول: أن "مادوف الأميركي" ضيع وسرق أموالا لمؤسسات هي في الواقع أموال لأفراد، بينما "المادوفيون العرب" - إن جاز التعبير - ضيعوا ونهبوا أموال أفراد يبحثون عن مئة دولار إضافي لمواجهة متطلبات الحياة. والفارق الثاني: أن الأموال التي تبخرت بين أيدي الأميركي، كانت أكبر بكثير من تلك التي نهبها العربي، نظرا لاختلاف حجم ووزن "المستثمرين"، بل ونوعيتهم. والفارق الثالث: أن الأميركي كان يعمل متسلحا برخص رسمية احتال بها على أكبر مكاتب ولجان المراقبة المالية، أما العربي فقد عمل بدون رخص، محتالا على كل القوانين الحكومية. والفارق الرابع: أن الأميركي جمع أموال المؤسسات وأفراد كبار من خلال شركات، أما العربي فقد جلب أموال الأفراد عن طريق سمسارة متسكعين في المقاهي وفي أزرقة الأحياء الشعبية، بل وفي شوارع الأحياء الغنية أيضا. أما الفارق الأخير: فإن المتضررين من الأميركي، اختبروا صدمة لم يفيقوا منها حتى الآن - ولن يخرجوا منها بسرعة- بينما قابلها في حالة العربي، نواح أرملة هنا، وانهيار رب أسرة هناك، وحسرة طالب يسعى إلى تحصيل علمي، وبكاء طفل لا يحتاج إلا لعلاج، أو حتى إلى عملية جراحية بسيطة للتخفيف من آلامه.
وإذا كنت أرغب في أن أكون مجانبا للإنصاف، لا يمكنني بأي حال من الأحوال، أن أُحيِِِِِد الطمع الذي أصاب الأفراد البسطاء في الجانب العربي - رغم أن طمعهم ينحصر في الحصول على أساسيات معيشية مفقودة - ولا يمكن أن أتجاهل الأخلاق المفقودة عند كل من "المادوفين الأميركي والعربي". فقد أثبت "المادوف العربي"، أنه يمكن اصطناع الأخلاق - بما في ذلك الدينية منها- لكنه برهن بوضوح أنه أدنى من أن يعمل بها. وكذلك الأمر عند "المادوف الأميركي". فلا الأخلاق الدينية عرفها، ولا هو فهم الأخلاق المدنية. والنتيجة أن السلطات الأميركية لم تحصل إلا على 300 مليون دولار أميركي، هي مجموع أصول "المادوف الأميركي"، الذي نهب أكثر من 50 مليار دولار، وغرر بأكثر من ستين شركة ومؤسسة ومصرف حول العالم، بينما بلغت أصول "المادوف العربي" - في الحالة المصرية - 10 بالمئة فقط من مجموع أموال عشرات الآلاف من الأسر، التي وصلت إلى أكثر من مليار و137 مليون جنيه مصري. ولكي تزيد الكارثة إعصارا آخر، فإن محنة هذه الأسر لم تحل إلا بعد مرور 15 عاما على انكشاف أمر السمسارة. ولاشك أن محنة المتضررين من "مادوف الأميركي"، لن تكون أقصر.
لقد أخذت الحالة المصرية كمثل للكوارث التي تسبب بها سماسرة القهر في العالم العربي. فالمشهد هو.. هو في سوريا والأردن ولبنان والجزائر وغيرها من الدول العربية. والمصيبة أن مجتمعات أخرى في العالم العربي - بما في ذلك دول الخليج- لم تتعلم من هذه الكوارث. فقد انضمت هي الأخرى في السنوات القليلة الماضية، إلى الجوقة - ولو بشكل مختلف- وقام أفراد - وحتى جماعات- بتخزين اللحم في جحر الذئب!. واندفعوا إلى السمسارة الذين تحولوا في هذه الحالة إلى شركات (بل ومؤسسات)، تحت سيطرة وهم الربح السريع والآمن، ورفضوا أن يقبلوا بحقيقة أن الاستثمار - مهما كان آمنا - هناك جوانب سلبية له، وأن السوق - أي سوق- التي يلعب فيها الرابحون، يلعب فيها أيضا الخاسرون، وأن الحصول على رأس المال - متى شاءوا- يشبه استعادة الغزال من فم الأسد. ومهما اختلفت صيغ توظيف الأموال هذه، عن صيغ التوظيف في ثمانيات القرن الماضي. فالنتيجة واحدة . وعلى الرغم من تحرك بعض الحكومات -لاسيما في دول الخليج - من أجل توعية الباحثين عن الربح المريح، إلا أن "المستثمر الواهم" تجاهل كل عناصر التوعية، ولم يرى أمامه سوى عرض بالحصول على عشرة بالمئة شهريا -على الأقل - على المبالغ التي يقدمها لشركات السمسرة، واستعادة رأس ماله وقتما شاء. فالمحافظ "الاستثمارية" صارت أكثر من محلات البقالة، والعروض الوهمية الخبيثة، سادت الساحة بصورة أكبر من مواسم التنزيلات التي تطلقها المحلات التجارية على مدار العام. وأيضا.. ورغم تحول حملات التوعية الحكومية إلى تحذيرات واضحة من التعامل مع الأشخاص أو شركات توظيف الأموال غير المرخصة من الجهات المختصة، واصل الواهمون تسليم أموالهم طواعية إلى هذه الجهات.
إنها اللعبة التي ينصهر فيها الطمع مع اضمحلال الأخلاق - بل لنقل مع غيابها-، وهي الطريقة الوحيدة التي تحصل فيها الضحية على أقصر ابتسامة.