في نقد الاستراتيجية الاقتصادية: عندما تميل شمس البترول للغروب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالعزيز محمد الدخيل
الاقتصاد السعودي بكل مكوناته الإنتاجية والاستهلاكية يقف على قائم واحد، وتجري الدماء في عروقه من قلب واحد. هذا القائم وقلب الاقتصاد هو البترول. ورغم الأهمية القصوى لهذا السائل الأسود في حياتنا الاقتصادية والمالية حاضراً ومستقبلاً إلا أن مجتمعنا يبدو وكأنه غائب الذهن عما ستؤول إليه الحال لو توقف هذا القلب الذي يضخ الدماء في عروق حياتنا الاقتصادية أو أصابه عارض. ومما يزيد الأمر تعقيداً هو خلط المفاهيم وتضارب المعاني اللذان زادا في تعميق الجهل بمستقبل رصيد الوطن من مخزون خام البترول الذي يعتمد عليه الاقتصاد بشكل رئيسي وأساسي.
ولكي نشعر بأهمية الدور الذي يلعبه البترول في تشغيل الخطوط الرئيسية والنوعية في حياتنا الاقتصادية في المملكة العربية السعودية هذه بعض الحقائق الرقمية.
تعتمد ميزانية الدولة في تمويل الإنفاق على جميع الوزارات والهيئات والمصالح الحكومية على إيراداتها من مبيعات البترول بنسبة 82.5% 2007.
تشكل الصادرات من خام البترول: 89.2% من إجمالي الصادرات السعودية وصادراتنا هي المصدر الرئيس للعملة الأجنبية التي تمول وارداتنا التي توفر معظم احتياجاتنا من السلع والخدمات والمواد الأولية.
لا أعتقد أن مزيداً من الإحصاءات ضروري هنا لإثبات أهمية البترول في إدارة عجلة الحياة الاقتصادية لكن الأهم هو عدم إدراك العامة والخاصة لما سوف يؤول إليه الحال عندما ينضب رصيدنا من النفط أو يتعرض لما يؤثر بشكل عام على وضعه في سوق الطاقة الدولية.
إن هذه العلاقة العكسية بين أهمية الشيء وعدم الخوف من زواله تجافي المنطق الذي يفرض علاقة إيجابية بينهما، فحجم الخوف من زوال الشيء يزداد بأهمية الموضوع المعرّض للزوال وقد يكون غياب الرؤية المستقبلية للنتائج المخيفة والمترتبة على اضمحلال قدرة بترولنا على لعب دور الممول الرئيس لاقتصادنا، السبب في حالة الجهل هذه.
البترول عامل حاسم وقوي في حياتنا الاقتصادية، لكن ما نعلمه عن رصيده وعمره يظل مطوياً بين ثنايا عدم الإفصاح وعدم تثقيف العامة والخاصة من الجهات الرسمية التي تملك هذه المعلومات وعلى رأسها وزارة البترول والثروة المعدنية، ويشدني في هذا الموضوع الجزئية المتعلقة بالخلط بين معنى الإنتاج والاستهلاك في الأدبيات البترولية الرسمية.
الإنتاج والاستهلاك، عمليتان اقتصاديتان تعني الأولى منهما تضافر عوامل كرأس المال والعمل والمواد الأولية وغيرها في إنتاج سلعة ما، الإنتاج كما يدل على ذلك المعنى اللغوي للكلمة هو خلق شيء من أشياء أخرى وفي الإنتاج والخلق إضافة إيجابية إلى الأشياء من ذلك الصنف المنتج، والاستهلاك هو نقيض الإنتاج أي إلغاء وجود السلعة المستهلكة وفي ذلك إنقاص للرصيد من السلع موضوع الاستهلاك.
البترول مادة سوداء بكثافة مختلفة منها الخفيف والمتوسط والثقيل وموجودة على أبعاد مختلفة في باطن الأرض. تكونت هذه المادة من أشجار وحيوانات انصهرت في باطن الأرض بفعل الانفجارات والبراكين والتقلبات الجيولوجية منذ آلاف أو ملايين السنين.
رصيدنا من البترول في باطن الأرض لا يمكن زيادته برميلاً واحداً بعملية إنتاج مماثلة بل يزداد إذا تم اكتشاف مكامن جديدة ويبدو أنه لا يوجد منها بعد المسوحات الجيولوجية لعدة سنين إلا القليل، المخزون الطبيعي من خام البترول السعودي ينقص يومياً وبكل تأكيد بما يستخرج منه للاستهلاك الدولي والمحلي والذي يعادل (8.48) ملايين برميل يومياً حسب إحصاءات 2007.
تأسيساً على هذه الحقائق العلمية في الجيولوجيا البترولية، فإن استخراج خام البترول من مكامنه في باطن الأرض هو استهلاك لرصيد الأمة من خام البترول، وليس إنتاجاً له.
إن استخدام فعل "أنتج" أو مشتقاته مثل الناتج، أو المنتج والإنتاج كمرادف لفعل استهلك، يخفي على أقل تقدير المعنى الحقيقي والأثر النفسي لتناقص رصيدنا من الاحتياطي البترولي.
ولما كان هذا الرصيد البترولي، هو النهر الوحيد الذي يروي حقول اقتصادنا المختلفة، فإن معرفة الحقيقة المتعلقة بتناقص الرصيد الوطني من البترول أساس هام في بناء ثقافة بترولية لدى العامة والمسؤولين تنذر بالأخطار التي يمكن أن يتعرض لها مستقبل الوطن عند اضمحلال رصيده من البترول أو عند ظهور بديل أفضل أو أرخص منه.
عند غروب كل شمس من عام 2007، نقص الاحتياط البترولي السعودي بمعدل (8.48) ملايين برميل وحتى شهر مارس من العام 2008، نقص بمعدل (8.81) ملايين برميل. الوثائق الحكومية الاقتصادية والمالية، كالخطة الخمسية والميزانية العامة للدولة وتقرير مؤسسة النقد العربي السعودي، وتقارير وزارة البترول والثروة المعدنية وغيرها تعنون هذا التناقص اليومي للاحتياط النفطي بالإنتاج، فعلى سبيل المثال يذكر بيان وزارة المالية والاقتصاد الوطني للميزانية العامة للدولة 1428/ 1429، عن الناتج المحلي الإجمالي ما يلي:
(من المتوقع أن يبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي هذا العام 1427/ 1428 وفقاً لتقديرات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات 1.414.000.000.000 ألفا وأربعمئة وأربعة عشر مليار ريال بالأسعار الجارية محققاً بذلك نمواً نسبته 7.1% وأن يحقق القطاع البترولي نمواً تبلغ نسبته 0.8% بالأسعار الجارية)
لقد عنون البيان استهلاك الرصيد الوطني من خام البترول المتوقع خلال عام 1427/1428، والمتوقع أن يربو على 8.48 ملايين برميل يومياً بالإنتاج وإضافة إلى عمليات الإنتاج الأخرى في الاقتصاد الوطني ليصل إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي أعلنه البيان.
في تصريح لمعالي وزير البترول والثروة المعدنية، نشرته صحيفة الاقتصادية يوم السبت 12 جمادى الأولى 1429، الموافق 17مايو 2008، العدد 5332 ورد تحت هذا العنوان:
(النعيمي يؤكد: المملكة تستثمر 90 مليار دولار لتطوير الإنتاج وبناء المصافي)
وفي معرض التصريح ورد ما يلي:
(أوضح النعيمي أن الإنتاج السعودي سيبلغ 9.45 ملايين برميل من النفط الخام يومياً في يونيو 2008).
قد يرى البعض أن استخدام مصطلح الإنتاج بدلاً من الاستهلاك ليس إلا استخداماً لتعبير جرت العادة عليه، ومع احترامي لهذا الرأي، إلا أن تسمية عملية التناقص والاستهلاك بالإنتاج ساهمت وتساهم وإن من غير قصد في حجب الحقيقة الجيولوجية من أن احتياطنا من البترول له عمر يتناقص يومياً بالاستخراج والاستهلاك كما يخفي حقيقة أن ناضبة البترول مادة غير متجددة ولا يمكن على الإطلاق إنتاج برميل واحد يحل محل ما استخرج.
مستقبل البلاد الاقتصادي يمكن أن يكون مخيفاً لو وصلنا إلى نهاية العمر البترولي بالاستهلاك أو بعوامل السوق والتقنية المضادة، دون استعداد للانتقال من اقتصاد يعتمد كلياً على مبيعاته البترولية أو ما يسمى بالاقتصاد الريعي إلى اقتصاد يعتمد على موارد مختلفة متنوعة. فكرة التنوع في الموارد Diversification موجودة في خطط الدولة الاقتصادية منذ سنين طويلة مسطرة في الخطط الخمسية، لكن الاعتماد على النفط مايزال قائماً وبشكل كبير واستنزافه اليومي مايزال متسارعاً وتنويع المصادر مايزال ضعيفاً.
إنه لمن المهم جداً أن تكون صورة المستقبل المظلمة عند نفاد البترول أو انخفاض قيمته بشكل مستمر وحاد قبل بناء قاعدة أو قواعد اقتصادية تحل محله، حاضرة في العقل الشعوري واللاشعوري لصاحب القرار يغذيها شعور بنفس الإحساس لدى عامة الجمهور.
إن الوعي بحجم المشكلة ومعرفة حقيقتها وتفاصيلها وواقعها ومستقبلها، يقع في صميم بناء الخطط الاستراتيجية اللازمة للتعامل معها. كما أن وضع الخطط والبرامج لا يكفي لتنفيذ الاستراتيجية، فلابد من إرادة فاعلة تتبع القول بالفعل ولابد من وعي شعبي يدق ناقوس الخطر باستمرار.
ما أردته في هذا المقال هو بيان أهمية الوعي بمشكلة غياب رصيدنا من البترول الراعي الأول والممول الرئيسي لاقتصادنا الوطني، وهو أمر لا محالة حال آجلاً وليس عاجلاً، وأن هذا الوعي لا يجب درؤه أو عدم إشهاره بل يجب أن يكون المتبقي من عمر النفط السعودي رقمـاً مشهوراً ومنشوراً للمسؤول وللعامة. عمر النفط السعودي من السنين يساوي حجم الاحتياطي الثابت من النفط الخام، مقسوماً على متوسط الإنتاج السنوي. إنه رقم غير ثابت يتغير بالتغير في حجم الاحتياطي وفي معدل الاستخراج والاستهلاك:
عمر النفط السعودي = الاحتياطي الثابت/ الإنتاج السنوي
إن الوعي بخطورة الموقف وأهمية وضرورة إعداد البديل هو في نظري الناقوس الذي يجب ألا يتوقف عن الإعلان عن القادم. فهذا الوعي سيكون الدافع المحرض على:
الاستهلاك الأمثل للرصيد الوطني من النفط الخام بما يعود بأكبر منفعة للأمة في حاضرها ومستقبلها.
ادخار واستثمار جزء من الأموال المحصلة من بيع البترول لبناء أرصدة منتجة، مالية وغير مالية، لبناء موارد مستقبلية تتيح للاقتصاد إمكانية تخفيف الاعتماد الكلي على المورد البترولي.
* كاتب سعودي