النفط لنا أم للغرب والشرق؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
د. حمزة بن محمد السالم
التضخم كالسيل قد يكون خيرا ورحمة, وقد يكون شرا ومحنة. وكل خير لابد أن يشوبه أذى وضرر. فإن كان الغنى والثروة هما أسباب التضخم فهو خير لا بد من أن يلابسه فقعات سعرية, وأذى يقع خاصة على الطبقة الكادحة. ومصداق ذلك استمتاع الدول الشيوعية ، كالصين, وروسيا, وأوروبا الشرقية، قبل انهيار نظامها الاشتراكي بحقبة اقتصادية لم يُعهد فيها فترات فقعات ولا تضخم . فهل كان ذلك متعة أم نقمة؟ وهل كان كبت الأسعار من الارتفاع في بلادهم حقيقية أم صورة ما لبثت أن تلاشت مخلفة وراءها اقتصاديات منهكة متهالكة؟
تمر الأمم خلال مراحل أعمارها بفترات صعود وهبوط. ونحن في عصر ليس كالعصور السابقة. فلم يشهد التاريخ من قبل عصرا تتغير فيه المعطيات والأحوال بسرعة زمنية قصيرة كعصرنا الحالي تجعل من المُنظر الحكيم حيران, وذلك أنه لا يستطيع قياس الأزمات الماضية بالأزمات الحالية لاختلاف الأحوال والمعطيات وزيادة تعقيداتها وتداخلاتها.
ومن ذلك اختلاف مسببات طفرة السبعينيات والثمانينيات ومعطياتها عن الطفرة الحالية في أمور جوهرية. فيستلزم على المُشرع المُنظر أن يتعامل مع هذه الطفرة بمسبباتها ومعطياتها الحديثة لا بمسببات ومعطيات الطفرة السابقة. وبناءً على ذلك الاختلاف للمقدمات فلا بد أن نتوقع اختلافا جوهريا لنهايات الطفرة الحالية عن النهايات التي أُسدل عليها الستار في الطفرة الأولى.
فارتفاع أسعار النفط في الطفرة الأولى كان من ناحية العرض. فاستخدام النفط كسلاح في عام 1973م وعدم وجود مخزونات استراتيجية للنفط في دول الغرب آنذاك وأزمة الرهائن الأمريكية في إيران عام 1980م مع استمرار الحرب الباردة أشعل فتيل ارتفاع أسعار النفط, وأعطى النفط قيمته الحقيقية لحين من الزمن ما لبث أن تولى بزوال الأسباب المسببة له. وأما ارتفاع أسعاره اليوم فهو من باب الطلب.
فدخول المارد الصيني والعملاق الهندي إلى مضمار سباق النمو والتطور العالمي أشعل فتيل ارتفاع أسعار النفط، ولن ينطفئ هذا الفتيل إلا بخروج هذين المنافسين العنيدين من الحلبة العالمية لسباق النمو والتطور. فهل يُتصور هذا السيناريو تحت الظروف الطبيعية؟ وكما أن ارتفاع أسعار النفط تختلف أسبابه في الطفرة الأولى عن الطفرة الحالية، فكذلك التضخم في بلادنا الذي اقترن بالطفرة الأولى يختلف جوهريا عن التضخم الحالي. فطفرة السبعينيات نقلت الدولة والشعب من الفقر إلى الغنى نقلة واسعة مفاجئة لم تكن في الحسبان. فتطلعت همم الدولة والشعب إلى مستوى معيشي راق اصطدم بقلة المعرفة والعلم في تلك الفترة مقترنا بانعدام البنية التحتية, ما خلق زجاجة عنقها في بلادنا. فالطلب على السلع والخدمات قد ارتفع ارتفاعا جنونيا داخل البلاد والعرض متوافر ولكنه خارج البلاد. فما أن بُنيت الموانئ والبنية التحتية وقطع عنق الزجاجة حتى توافرت البضائع ورخصت أسعار السلع. فالأسعار كالبحر إذا ارتفعت موجة عادت وانخفضت لتتساوى مع مستوى البحر طالما أن طريق التجارة مفتوح. وبعد أن استوعب الناس هذه الثروة انفجرت فقاعة الأراضي وتراجعت أسعارها إلى مستوى طبيعي ليس إلى ما قبل الطفرة ولكن إلى ما يتناسب مع الوضع المالي الجديد للمملكة كأعظم مصدر لأهم سلعة عرفها التاريخ.
وأما التضخم الحالي فجزء بسيط منه محلي, وذلك بسبب توقعات الناس بالغنى المستقبلي, وهذا قد انعكس على أسعار الأراضي, وفقاعة الأسهم التي أكلت مدخرات الناس السابقة وامتصت أموالهم المستقبلية عن طريق الديون. ففي الطفرة الحالية لم تزداد أموال الناس, بل تناقصت بفعل تناقص القوة الشرائية لها وضياع أموالهم المستقبلية في تسديد الديون، فلا أثر حقيقي للغنى على المستوى الشعبي على التضخم الحالي على عكس الطفرة الأولى.
وأما الجزء الأكبر والمؤثر من التضخم الحالي فهو بسبب ارتفاع الطلب العالمي على جميع السلع والخدمات فهو إذن تضخم عالمي. فليس هناك موجة مرتفعة, بل بحر الأسعار قد ارتفع شرقه وغربه. فقد دخلت الصين والهند ودول شرق آسيا وأوروبا الشرقية ودول الخليج في سباق محموم على الحصول على أكبر قدر من السلع والخدمات العالمية، فالذي يكون له قدم السبق الآن سيكون له سبق الريادة والقيادة غدا.
وفي حمأة هذا السباق يأتي من ينادي بتخفيض الإنفاق الحكومي وتضييق التمويلات الاستثمارية بدعوى كبح جماح التضخم. فهل من الحكمة في شيء لكي نخرج من هذه المنافسة العالمية؟ ولمصلحة من؟ أمن أجل أن نفسح الطريق للدول الأخرى. وماذا عن ريع النفط؟ هل يتكفل به البترودولار والبترويورو! ألا يكفي أكثر من تريليون (1000مليار) ريال، من غير الاحتياطي النقدي الأجنبي، قدمت للغرب والشرق بنهاية 2007. هل نقدم ثروات أرضنا ومستقبل أبنائنا قروضا حسنة للغرب على شكل سندات أمريكية وأوروبية تدفع فائدة أقل من نسبة التضخم؟ أم هل نبتذل ماء وجوهنا, ونحن نستجديهم قبول أموالنا كمساهمة في بناء شركاتهم عن طريق ما يسمى بالصناديق السيادية، التي لم تكن ولن تكون سيادية يوما ما، بل السيادة هي أملاكنا التي بنيت على أرضنا ووطننا؟
إن بلادنا لهي الآن أشد حاجة إلى الإنفاق الحكومي من ذي قبل. فالدول من حولنا تنموا نموا سريعا سيجذب العقول والاستثمارات والأعمال إليها, وسيخلق في المجتمع السعودي إحباطا واتكالية تكون عائقا مستقبليا للحاق بتلك الدول، ما سيفقد المملكة مركزها القيادي في المنطقة. ولنكف عن خداع أنفسنا بالتشدق أن العمق السكاني والجغرافي للمملكة كاف للحفاظ على البقاء كسادة المنطقة. فما نفعت هذه الأحلام إندونيسيا ذات المساحات الشاسعة والنفط والـ 100 مليون شخص أمام حفنة من الماليزيين والسنغافوريين لا أرض ولا مصادر طبيعية لديهم.
إن الاستثمار في العقول السعودية وفي المرافق العامة كالمدارس والمطارات والمستشفيات والمواصلات وغيرها كفيل بامتصاص الفوائض المالية وإدرار عوائد اقتصادية أعلى بكثير من تدويرها في البترودولار أو استثمارها في صناديق سيادية.
وأما بالنسبة للتمويلات البنكية، فبلادنا لهي الآن في أشد الحاجة إلى تسهيل التمويلات الاستثمارية لا الاستهلاكية وتخفيض تكلفتها بعد عقود من المعاناة. إن الدعوة إلى تقييد التمويلات الاستثمارية, وذلك برفع تكلفتها بدعوى كبح جماح التضخم لهو تطبيق لنظريات اقتصادية بعد أن سُلخت من الفرضيات التي بنيت عليها. فطالما أن التضخم خارجي والتمويل يقدم لمشروع استثماري لا استهلاكي والفوائض المالية عالية فالدعوة إلى تضييقها هو نظرة سطحية ساذجة تدعو إلى كبح النمو الاقتصادي, وكبت المجتمع الاقتصادي من الإبداع والابتكار. إن التضييق والحد من التمويلات الاستثمارية لن يرخص الحديد والأسمنت بل سيدفع به إلى الدول المجاورة التي أخذت العزم على شرائه بأغلى الأثمان لتحقق السبق الاقتصادي ونزع زمام القيادة من بلادنا, وليصبح نموها وتفوقها تضاعفيا, ويصبح تأخرنا وتخلفنا تراجعيا. يجب أن نوفر التمويل لابن الوطن ليتمكن من المنافسة على السلع والخدمات الدولية والإتيان بها إلى وطننا بدلا من ذهابها للآخرين. (وأما السلع المحلية فيمكن قصرها بأسعار تنافسية على ابن الوطن بوسائل عدة لا تتعارض مع المعاهدات الخليجية والدولية كالتخصيص Ration على سبيل المثال).
إن الدعوة إلى الحد من الإنفاق الحكومي وتقييد التمويلات الاستثمارية بحجة التضخم لهي نظرة سطحية ساذجة. ففوائض النفط إن لم تجد لها مسلكا لبناء الوطن ستجد طريقها لبناء بلاد الغرب والشرق الذين سيتمكنون بأموالنا من شراء ما يحتاجون إليه من السلع والخدمات بأغلى الأسعار مذكين بذلك نار التضخم العالمي محققين قدم السبق والريادة في التطور والنمو الاقتصادي, بينما نقبع نحن هنا نُنَظر في نظريات اقتصادية قد سُلخت عن العالم الخارجي, وحصرت في قاعة دراسية جامعية.
فلنسابق الأمم في البناء والتطوير ولننافسهم على المعالي فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل. والمعالي لا تأتي رخيصة فلا بد دون الشهد من إبر النحل.