اقتصاد

الميزانية الجديدة في مواجهة الأزمة المالية العالمية.. كيف؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

صالح العمير: يشهد العالم حاليا أزمة مالية واقتصادية حادة يتوقع كثيرون من ذوي الشأن والمعرفة أن يطول مداها وأن تطول تأثيراتها معظم مناطق العالم. ومن المعلوم أن هذه الأزمة انطلقت شرارتها الأولى قبل أكثر من عام في الولايات المتحدة. وبعد أمد قصير امتد لهيبها إلى مناطق أخرى في أوروبا وآسيا. وتعود جذور هذه المشكلة إلى انجراف عدد كبير من المؤسسات المالية العالمية إلى تقديم قروض سخية لتمويل المنشآت العقارية وقطاع الإسكان على نحو غير مسبوق سواء من حيث حجم الأموال وعدد القروض أو التساهل في شروط الإقراض وما تلا ذلك من إصدار أوراق مالية مدعومة برهون على تلك العقارات ومن ثم تداولها في الأسواق المالية على نطاق واسع مع ضعف متناه في إجراءات الرقابة والمتابعة. ونتيجة لظهور بعض المستجدات وانخفاض أقيام العقارات فقدت الأوراق المالية المدعومة بقروض عقارية قدرا كبير من قيمتها على نحو أضعف المراكز المالية للبنوك المقرضة ودفعها إلى طلب العون المالي أو إشهار إفلاسها. ويمكن تلخيص الوضع على النحو التالي:-

1 - انجراف مجموعة واسعة من المؤسسات المالية الدولية الكبيرة في تقديم قروض سخية لتمويل العقارات مقابل رهون واهية ومن ثم إصدار أوراق مالية مدعومة بتلك الرهون يتم تداولها في الأسواق المالية واتسمت هذه العمليات بقدر كبير من التساهل والتفريط من جانب البنوك والمبالغة في تداول هذه المشتقات مع ضعف متناه في إجراءات الرقابة المركزية.

2 - ظهور بوادر هبوط في أقيام العقارات نتيجة تخلف عدد كبير من المقترضين عن السداد بسبب تعرضهم لأوضاع مالية صعبة ولجوء البنوك المقرضة إلى الاستيلاء على عقاراتهم مما أطلق إشارة البدء في هبوط أسعار العقارات وأفقد الأوراق المالية المدعومة برهون عقارية قدرا كبيرا من قيمتها على نحو أخل بالمراكز المالية للبنوك المقرضة وأوقعها في أزمة ائتمانية حادة استدعت المبادرة إلى زيادة رساميلها أو مواجهة الإفلاس المحقق وقد نجحت بعضها في توفير الدعم المالي في حين أخفقت بنوك أخرى معلنة بذلك إشهار إفلاسها.

3 - خلق النقص الحاد في الائتمانات المالية وضعا حرجا لعديد من المؤسسات الخاصة الصغيرة والمتوسطة وأعداد غفيرة من البيوت التجارية وأصحاب المهن من حيث صعوبة توفير رأس المال العامل الضروري لاستمرار أعمالهم وأنشطتهم التجارية والاقتصادية والخدمية.

4 - امتدت تأثيرات الأزمة لتشمل صناعات عملاقة مثل صناعة السيارات وما يرتبط بها من منتجات أخرى مثل إطارات السيارات والبطاريات ومراكز تجميع هياكل السيارات وخدمات التوزيع والتسويق وتزايد أعداد العاطلين عن العمل.

5 - بحكم الانتشار الكبير والواسع للمؤسسات المالية الدولية والشركات الصناعية الكبيرة وتعدد مراكزها وترابط المصالح العالمية فقد اتسع النطاق الجغرافي لهذه الأزمة، حيث سادت أوضاع مشابهة في مناطق عديدة في العالم.

6 - عمت أسواق الأوراق المالية العالمية موجة عاتية من التشاؤم وفقد الثقة أسفرت عن هبوط مريع لمؤشراتها خلال أسابيع قصيرة.

هذه العوامل مجتمعة (ضعف المراكز المالية للبنوك، الخوف من استمرار تناقص قيمة موجوداتها، صعوبة الحصول على أموال إضافية، إفلاس عديد من المؤسسات والشركات العملاقة، ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل) خلقت مناخا مخيفا تمثل في فقد الثقة بالنظام المالي وفي جدوى برامج الإنقاذ التي سارعت الدول الكبيرة إلى تقديمها. ومن المؤكد أن الاقتصاد العالمي لن يتجاوز هذه الأزمة بالسرعة الكافية طالما لا تتوافر للشركات الصناعية والمستثمرين على وجه العموم ائتمانات مالية كافية وبشروط ميسرة إلى جانب أن المؤسسات المالية القادرة على تقديم التمويل تخشى المخاطرة مرة أخرى بتمويلات لا تسندها ضمانات موثقة ومدعومة ومؤكدة.

أمام هذه الأوضاع المتفاقمة - وفي ظل فقدان الثقة بسلامة برامج الإنقاذ الحكومية يتوقع كثيرون أن يطول أمد فترة الركود وأن تشتد حدتها، ومع اقتراب معدلات النمو الاقتصادي في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان درجة الجمود أو ما دونها فإن اقتصادات الدول النامية ستشهد ركودا أكثر حدة وهو أمر متوقع إذ إن خصائص ومكنونات الاقتصادات الناشئة أكثر هشاشة وضعفا مما يصعب عليها امتصاص هذه الصدمات العنيفة.

في هذا الشأن فإن الدول المنتجة للمواد الأولية وخاصة دول البترول (التي يحلو للبعض أن يصنفها في موقع آمن خارج نطاق المؤثرات الدولية الحالية) مرشحة لركود قد يطول أمده وإن قلت حدته لاعتبارات سيتم إيرادها لاحقا. إذ إن من المؤكد أن ينشأ عن الركود العالمي انخفاض حاد في الطلب على المنتجات البترولية والبتروكيماوية التي تعداهم المنتجات التي تستوردها الدول الصناعية الكبرى من الدول المنتجة للبترول. وتبعا لذلك ستنخفض حصيلة مبيعات هذه المنتجات نتيجة انخفاض الكميات المصدرة منها وانخفاض أسعارها معا. ويلاحظ في هذا الصدد أن أسعار النفط الخام هبطت إلى ما دون 40 دولارا للبرميل الواحد قبيل نهاية عام 2008م متراجعة عن أعلى معدل قفزت إليه الأسعار (140) دولارا للبرميل.

في الجزء الأول من هذه المقالة حاولنا بإيجاز إلقاء الضوء على الأوضاع المالية الدولية التي قادت العالم إلى ركود اقتصادي - وفي الجزء اللاحق سيتم التعرف على الأثر المتوقع أن يلحق بالاقتصاد السعودي نتيجة لهذه الأوضاع وما يمكن أن تقدمه الميزانية العامة الجديدة من حلول في مواجهة الأوضاع المالية الحالية. وفي هذا الشأن وفيما يختص بالنظام المصرفي في المملكة فإن كل الشواهد تؤكد أنه حافظ على متانة مركزه المالي خارج نطاق التأثيرات السلبية للرهون العقارية التي أصابت عديدا من المؤسسات المالية الدولية وشملت بعض المؤسسات المالية الإقليمية في الدول المجاورة. ومع أن النظام المصرفي في المملكة يرتبط بعلاقات وثيقة مع عدد واسع من المؤسسات المالية الدولية تمتد عبر عقود حافلة بصفقات مالية مشتركة مع تلك المؤسسات وأن عددا من المصارف المحلية لا يزال يحتفظ بشراكة استراتيجية مع مصارف دولية تعرضت على نحو أو آخر لهذه الأزمات الخانقة فقد نجحت البنوك السعودية في تجنب الوقوع في شرك هذه المعضلة. ومن دون جدل فإن سلامة النظام المصرفي السعودي ومتانة مركزه المالي ونجاحه في إقصاء نفسه بعيدا عن هذه الأوضاع يدون في سجل إنجاز قيادات المصارف السعودية والمسؤولين في مؤسسة النقد العربي السعودي - الجهاز المركزي المختص بمراقبة نشاط القطاع البنكي في المملكة.

إضافة إلى ذلك فإن الأداء المتميز للقطاع البنكي خلال السنوات القليلة الماضية لا يقتصر فقط على نجاحه في تجنب الوقوع في براثن أزمة الرهن العقاري وإنما أيضا بما حققته البنوك المحلية من فوائض مالية كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة تفاعلها مع مجمل مكونات الاقتصاد الوطني مكنتها من تعزيز مراكزها المالية ومن الاستمرار في توفير الائتمانات المالية لبقية القطاعات في تفاعل متواصل ومتبادل معها حيث تستمد زادها اليومي منها لتهبه لها مرة أخرى في ديناميكية مترابطة ومتصلة. ومع ذلك فإن متانة المراكز المالية للمصارف المحلية واحتفاظها بمواقعها خارج نطاق أزمة العقار الدولية لا يعني بالمطلق أنها بمنأى عن التأثيرات السلبية للركود الاقتصادي العالمي - بل إنها كغيرها من قطاعات الاقتصاد السعودي عرضة لما ينشأ من ضعف أو ما يصيب الاقتصاد العالمي من وهن. ولن يكون أمرا مفاجئا أن ينتهج القطاع البنكي موقفا مختلفا في الفترة المقبلة وهى فترة عصيبة تتسم بأزمات متلازمة ناشئة عن الركود الاقتصادي العالمي وفقدان الثقة. وأن تعتمد البنوك المحلية استراتيجية أكثر حذرا وشدة - مما ستكون له تأثيرات سلبية في مجمل نشاط معظم القطاعات الاقتصادية الأخرى وعلى الأخص المؤسسات المتوسطة والصغيرة وأصحاب المهن والنشاطات الفردية التي تحتاج إلى التسهيلات البنكية ولا تتوافر لديها ضمانات كافية.

وفيما يختص بالاقتصاد الوطني في مجمل قطاعاته وكما ألمحنا سابقا فإن الاقتصاد السعودي سيعاني في عامه الجديد ضعفا في موارده الأساسية المتمثلة في قيمة صادراته من البترول الخام وحصيلة مبيعات مصانع البتروكيماويات، حيث إنها الأكثر تأثرا بالركود الاقتصادي العالمي فإن انخفاض الطلب العالمي على البترول سيفرض على شركة أرامكو تقليص معدلات إنتاجها (مراعاة لسياسة توازن الأسعار) كما أن معاناة شركات البتروكيماويات لن تقتصر فقط على انخفاض أسعار منتجاتها وعلى حصيلة مبيعاتها بل إنها ستواجه صعوبة في تمويل مشاريعها وبرامجها التوسعية خاصة الحصة التمويلية التي كان متوقعا توفيرها من قبل المؤسسات المالية الأجنبية.

هذا الواقع المرير سيفرض على هاتين الصناعتين العملاقتين إدخال تعديلات واسعة على برامجها الإنتاجية وخططها المستقبلية - أي أن كلا من شركة أرامكو وشركات البتروكيماويات السعودية ستكون مضطرة إلى تقليص حجم وكميات الخدمات والمواد والتعاقدات التي تحصل عليها من قطاعات أخرى في الاقتصاد المحلى. وبعبارة أدق فإن العام الجديد سيشهد إلغاء وتأجيل وتقليص وإطالة أمد تنفيذ عدد من عقود الخدمات والأعمال والتوريدات المبرمة حاليا أو التي كان مقررا الشروع في تنفيذها قبل الأزمة من قبل أرامكو وشركات البتروكيماويات. ومن المؤكد أن أكثر القطاعات المحلية تأثرا بهذه الأوضاع هي قطاعات الإنشاءات والمقاولات وما يرتبط بها من مواد ومعدات ورافعات مثل الأسمنت والحديد والهياكل الفولاذية ومواد البناء الأخرى وغيرها وقطاعات النقل والتوزيع وإنتاج المواد الوسيطة في عمليات إنتاج البترول والبتروكيماويات.

ومما يجدر التأكيد عليه أن هذه الاستنتاجات واقعية ومنطقية وأنه ينبغي التعامل معها بجدية. حيث تتوافر حاليا دلائل كثيرة على إن الأزمة العالمية الحالية عميقة الجذور وأن أمدها قد يطول لأن الحلول التي اتخذتها الدول الصناعية الكبرى لتنشيط اقتصادياتها لن تكون كافيه لتجاوز الأزمة بالسرعة المطلوبة. كما أصبح معلوما الآن أن الميزانية الجديدة تتوقع أن تشهد عجزاً مقداره 65 ألف مليون ريال - وهذا العجز ( في ضوء الأوضاع الدولية السائدة وانخفاض صادرات البترول وأسعاره) يعد معقولا إضافة إلى أنه (في ظل الوفورات المتحققة خلال السنوات القليلة الماضية وبالأخص مقدار الوفر المتحقق في السنة الأخيرة) لا يعد عبئا على الاقتصاد المحلى من حيث مصدر توفيره في حالة حدوثه، وهو أمر يبعث على الاطمئنان - ولكن الأمر الأكثر إلحاحا هو مقدرة القطاع الأهلي بجميع مكوناته على تجنب الانزلاق تحت تأثيرات الركود العالمي. وهذا الجانب يمثل الدور المحوري المأمول أن تسهم به مخصصات الميزانية الجديدة. فالحكومة مدعوة في أوقات الشدة أن تتخذ قرارات غير عادية. ولا جدال في أن الأوضاع المالية الدولية والمحلية تندرج في هذا الإطار.

في ضوء هذا المفهوم فإن ما تحمله الميزانية الجديدة من مخصصات مالية للمشاريع الإنشائية والإنمائية وبرامج قروض صناديق التنمية تمثل العنصر الأكثر أهمية في هذه المرحلة - وتكمن أهمية هذا الجانب من نفقات الميزانية في هذه السنة بالذات في أن هذه المخصصات تعد بمثابة برنامج وقائي للمحافظة على ما تحقق خلال السنوات الماضية وتجنب الوقوع ضمن دائرة تداعيات الأزمة المالية العالمية - أو على أقل تقدير التخفيف من تأثيراتها الضارة والتعويض عن النقص المتوقع في نفقات واستثمارات القطاع النفطي والبتروكيماوي وضعف مقدرة البنوك المحلية والدولية في توفير الائتمانات المالية اللازمة لاستمرار نشاط القطاع الأهلي. ومن أجل تصور أهمية هذا الجانب يحسن التعرف على أهم ملامح الميزانية الجديدة والنتائج التي تحققت من خلال برامج الإصلاح المالي في السنوات الأخيرة:

1 - من المتوقع أن يحقق الناتج المحلى الإجمالي لعام 2008 (1.753) ألف مليون ريال بالأسعار الجارية - أي بمعدل نمو (22 في المائة) عن العام السابق 2007م.

2 - حقق القطاع النفطي بالأسعار الجارية نموا بمعدل (34.9 في المائة) عن العام السابق.

3 - بلغ معدل نمو القطاع الخاص 8 في المائة بالأسعار الجارية.

4 - حقق الميزان التجاري فائضا مقداره 820.2 ألف مليون ريال بمعدل نمو 45.8 في المائة عن العام السابق.

5 - حقق ميزان المدفوعات فائضا مقداره 564 ألف مليون ريال مرتفعا عن العام السابق بمعدل 54 في المائة.

6 - انخفض الدين العام إلى 237 ألف مليون ريال - أي ما يعادل 13.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمعدل 18.7 في المائة في العام السابق.

7 - يقدر الفائض في ميزانية عام 2007 بمبلغ 590 ألف مليون ريال.

8 - تبلغ القيمة الإجمالية للمشاريع المعتمدة في الميزانية الجديدة 255 ألف مليون ريال.

9 - تعزيز موارد صندوق التنمية العقارية بمبلغ 25 ألف مليون ريال على مدى خمس سنوات بمعدل خمسة آلاف مليون ريال سنويا.

10 - إيداع مبلغ عشرة آلاف مليون ريال لحساب بنك التسليف والادخار لتعزيز إمكانياته التمويلية في تقديم القروض الاجتماعية والأسرية وتمويل المنشآت الصغيرة والناشئة.

11 - من المقدر أن يبلغ مقدار ما يدفع نقدا خلال السنة الجديدة من صناديق التنمية عن عقود الإقراض المبرمة سلفا بنحو 40 ألف مليون ريال.

ومع أن السنة المالية السابقة سنة تاريخية من حيث وفرة الموارد المالية الناشئة عن ارتفاع أسعار النفط الخام والكميات المصدرة منه - إلا أن النتائج التي تحققت إضافة إلى الأداء المتميز للقطاع البنكي ومحافظته على مركزه المالي خارج نطاق تأثيرات أزمة الرهون العقارية تحسب في سجل قيادات الاقتصاد الوطني

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف