اقتصاد

السياسة الاقتصادية تجاه الأزمة المالية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

د. سامي بن إبراهيم السويلم: أعلن الاحتياطي الفيدرالي أنه خفض الفائدة إلى ما بين الصفر والربع في المائة، وتبعه في ذلك بنك إنجلترا المركزي. والهدف هو تخفيض تكلفة الاقتراض على البنوك تشجيعاً لها على إقراض الأفراد والشركات لتعجيل الخروج من حالة الركود الاقتصادي. ومع ذلك فإن المراقبين يشككون في جدوى هذه السياسات، فقد طبقت من قبل في اليابان ولم تنجح في إخراجها من الركود أكثر من عشر سنوات. وذلك أن مشكلة البنوك هي فقدان الثقة ومن ثم الخوف على أصل القرض من الضياع، لهذا تمتنع من الإقراض رأساً، فتخفيض الفائدة لا يجدي نفعاً، لأن مقدار الفائدة لا يقارن بأصل القرض.

الجانب الأسوأ في هذه السياسات هو توجيه معظم الدعم والتمويل للمؤسسات نفسها التي كانت من أهم أسباب الأزمة ابتداء، وهي البنوك والمؤسسات المالية. في حين نجد أن ضحايا الكارثة، من الأفراد ومن الشركات المنتجة، يواجهون كثيرا من التلكؤ والتباطؤ في الحصول على نصيب ولو محدودا من الدعم.

إن مشكلة الأنظمة الغربية أنها لم تحترم آلية السوق بما يكفي، على الرغم من كل التصريحات الإعلامية التي توهم خلاف ذلك، فالتقلبات والدورات صعوداً وهبوطاً، جزء من آلية السوق الطبيعية، لذا فإن مصادمة هذه الآلية لن تعود إلا بالإخفاق. عندما كانت الأسواق في حالة صعود وازدهار، دأب مناصرو الأسواق على منع أي محاولة لإصدار قوانين أو تشريعات تقيد ممارسات المجازفين، لأن السوق ـ في رأيهم ـ أكثر حكمة من رجال التشريع والقانون، ولكن عندما بدت ملامح الكارثة في البروز، وتبين أن السوق لم تعد تشبع أحلام مناصريها، أصبح التدخل الحكومي مطلباً ضرورياً لإنقاذ الاقتصاد. أي أن احترام آلية السوق يتحقق فقط حال الصعود، لكنه يختفي ويتبخر حال الهبوط. وهذا الوضع هو الذي وصفه كثير من المحللين أنه "خصخصة للأرباح وتأميم للخسائر". أي أن الأرباح المتحققة حال الصعود تذهب للمجازفين من القطاع الخاص، أما الخسائر فيتحملها القطاع العام أو الجمهور. إن هذا النظام لا هو رأسمالي حقيقة ولا هو اشتراكي حقيقة، بل هو اشتراكي حال الخسارة ورأسمالي حال الربح، فيكون قد جمع أسوأ ما في النظامين وترك أفضل ما فيهما.

إن التقلبات الاقتصادية استجابة طبيعية للتغيرات في النشاط الاقتصادي، فعندما يرتفع مستوى الإنفاق يستجيب الإنتاج بما يرفع مستوى الدخل، ولكن عندما يتم التوسع في الإنفاق من خلال الاقتراض غير المنضبط، فإن ذلك يؤدي إلى تجاوز نمو الطلب لحدود النمو في الدخل، ومن ثم تراكم المديونية بأكثر مما يمكن الوفاء به. ونظراً لأن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، فلا بد من تصحيح الخلل، وهو ما يؤدي إلى الهبوط والانكماش.

كما أن الأرباح في حالة صعود الأسواق تميل إلى أن تتركز لدى نسبة محدودة من المستثمرين. وكلما استمرت الأسواق في الصعود ازداد تركيز الثروة، ولكن هذا الاتجاه يجفف الثروة من أيدي الجمهور، ما يتعذر معه استمرار الطلب الذي يوجه السوق، ومن ثم تتجه الأسواق للهبوط.

فالتقلبات الاقتصادية فرصة لتصحيح الاختلالات التي تتراكم أثناء مراحل الصعود، لكي تعود السوق بعد ذلك مجدداً نحو الازدهار. لذا فإن محاولة تأخير التصحيح أو منعه من الوقوع لا تؤدي إلا إلى استفحال المشكلة، لأنه يسمح بتراكم مزيد من الاختلالات، فيكون التصحيح حينئذ أكثر فداحة وأشد تكلفة على الاقتصاد.

لبالغ الأسف فإن سياسة البنوك المركزية في الغرب، خاصة الاحتياطي الفيدرالي، كانت تسير على هذا المنوال نحو عقدين من الزمان، فالكارثة التي نراها اليوم هي نتيجة سياسات تأخير التصحيح الذي كان يتطلبه الاقتصاد على مدى سنوات عديدة، فالأنظمة التي تزعم أنها تحترم الأسواق لم تكن في حقيقة الأمر تحترمها بما يكفي لتجعلها تصحح نفسها بنفسها، بل بقيت تحفز الأسواق بضخ كميات هائلة من النقد، حتى أصبح الاقتصاد أشبه ما يكون بعدّاء يصرّ مُدربه على أن يستمر في الجري دون توقف، لذلك بقي يجرعه من المنشطات والمنبهات حتى أصيب بالانهيار.

قد تكون الأسواق أكثر حكمة من رجال التشريع والقانون، لكنها ليست أكثر حكمة من الذي أبدعها وأوجد نظامها الذي تسير عليه، وهو الخالق العليم تبارك وتعالى، فالتشريع الإلهي هو القانون الذي يسمح بالاستفادة من أفضل ما تقدمه السوق وتجنب أسوأ ما فيها. والتشريع الإسلامي لا يقتصر على تحريم الربا والميسر وأكل المال بالباطل، بل هو قبل ذلك يوجب الزكاة والنفقات وإنظار المعسر، ويؤكد سائر وجوه البر والإحسان، فهو نظام يحقق التوازن بين القطاع الربحي الذي تمثله السوق، والقطاع غير الربحي الذي تمثله الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والتنموية. هذا التوازن يسمح باحتواء الآثار السلبية للسوق دون تشويه آلية عملها أو منعها من تصحيح الاختلالات التي تعتور النشاط الاقتصادي.

فالنشاط غير الربحي يرشد الإنفاق من خلال توجيهه نحو القطاعات الأكثر احتياجاً في المجتمع. هذا الترشيد من شأنه أن يحد من الإفراط في توسع الأسواق، ومن ثم يقلل فرص الهبوط والانكماش. كما أن النشاط غير الربحي يعمل على إعادة توزيع الثروة الذي يحد من تركزها لدى فئة قليلة، ومن ثم يسمح باستمرار النمو الاقتصادي.

الأزمة المالية التي نعيشها اليوم نشأت بسبب استفحال المديونية من خلال أدوات الربا المختلفة، وبسبب استفحال المجازفة من خلال أدوات الميسر المعقدة. هذا الاستفحال جعل السوق تتحول إلى فقاعة كان لا بد أن تنفجر في النهاية، فالكارثة جاءت لتصحيح الاختلالات الكبيرة التي تراكمت في مرحلة الصعود، وعليه فمحاولة منع هذا التصحيح لا تنتهي إلى الإخفاق فحسب، بل إنها تضر الاقتصاد أكثر مما تنفعه.

إن المخرج من هذه الأزمة ليس بضخ مزيد من المنشطات والمنبهات في جسد السوق الذي انهار من إفراطه في الجري وراء الأرباح، ولكن بالتوجه نحو القطاع المكمل له وهو القطاع غير الربحي. قديماً قال الفيزيائي المشهور آينشتاين: "لا يمكن حل مشكلة على نفس المستوى الذي نشأت فيه". وإذا كانت المشكلة نشأت في القطاع الربحي تصحيحاً للاختلالات التي تراكمت فيه عبر السنوات، فالعلاج يجب أن يكون على مستوى أعلى من مستوى السوق، ألا وهو القطاع غير الربحي، وذلك من خلال صور المواساة المختلفة التي تجسد أنبل ما في الطبيعة البشرية، فالتكافل والمواساة هما أفضل السبل لمواجهة الأزمات الاقتصادية، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية. فهم مني وأنا منهم"، متفق عليه.

وفي دراسة حديثة أجراها الاقتصادي روبرت شابيرو Robert Shapiro حول القيمة التي تضيفها مؤسسات الأوقاف الاجتماعيةcommunity foundations في الولايات المتحدة، وجد أن كل دولار تنفقه هذه المؤسسات يولد أكثر من ثمانية دولارات من العائد المباشر في المجال الاقتصادي والاجتماعي. تبعاً لذلك، فإن الضرائب التي تجنيها الحكومة الأمريكية من هذه العوائد تتجاوز حجم الإعفاءات الضريبية التي تمنحها لهذه المؤسسات ابتداء. والقطاع غير الربحي يتمتع بقدر عال من الكفاءة، لأنه قائم على الحوافز والمبادرات الذاتية مع مرونة كبيرة ولا مركزية تفتقر إليها أجهزة القطاع العام.

وإذا كان كذلك فالواجب هو توجيه الدعم لهذا القطاع، وليس للمؤسسات التي كانت هي السبب في الكارثة ابتداء.

إن تخفيض فائدة البنك المركزي إلى الصفر يعني أن القرض أصبح مجانياً، ومن ثم أداة غير ربحية للتمويل، فمن غير المقبول حينئذ توجيه هذا القرض المجاني إلى مؤسسات ربحية، لأن هذا سوء توظيف للموارد، ففي حالة الهبوط الاقتصادي تنخفض فرص الربحية بشكل كبير، لهذا تتباطأ قنوات التمويل الربحي أو تكاد تتوقف تماماً. وفي غياب فرص الربح فلا نتوقع الكثير من توجيه الدعم لهذا القطاع.

وحينئذ فالقروض المجانية والدعم الحكومي يجب أن يوجه لمؤسسات التمويل غير الربحي والمؤسسات التنموية والاجتماعية التي توجه هذه الأموال نحو القطاعات الأكثر حاجة وليس الأكثر ربحية. هذه المؤسسات بدورها تستطيع احتواء التداعيات السلبية للهبوط الاقتصادي، إلى أن تكتمل مرحلة التصحيح وتعود السوق للنهوض مرة أخرى.

إن التركيز المفرط للأنظمة الغربية على السوق، والسوق وحدها، ينافي طبيعة السوق نفسها ويؤخر الخروج من الكارثة.

إن الاقتصاد الإسلامي، من خلال التأكيد على التكامل بين القطاعين الربحي وغير الربحي، يقدم رؤية متوازنة يمكن أن تعجل بالخروج من الأزمة وتنجح في استيعاب آثارها السلبية بكفاءة، دون إخلال بآلية السوق أو مصادمة لطبيعة عملها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف