الأزمة الاقتصادية.. كـ "قاتل متسلسل"!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد كركوتي: الشيء الأسوأ على الصعيد الاجتماعي - بعد البطالة - أن تتراجع إمكانية الفرد في الإيفاء بمسؤولياته المالية، ليس تجاه المؤسسات والمصارف وحتى "البقالين" المقرضين، بل تجاه أسرته، والأشخاص الذين يعتمدون عليه في معشيتهم. فالدولار الأميركي الواحد، عندما يصبح - فجأة - 80 سنتا، يعني أن المستفيدين منه خسروا 20 سنتا. وعندما يفقد الفرد وظيفته، يعني هذا أن هؤلاء المستفيدين فقدوا الدولار الواحد بأكمله، ليتحولوا بعد ذلك من خاسرين.. إلى ضائعين، أو مشردين، أو جائعين، أو كل هذه التوصيفات مجتمعة. وهؤلاء أيضا.. يتحولون من "محاربين" عند خط الفقر، إلى غارقين في محيط هائل من العوز، لا يملكون حتى قشة وهمية لتجنب الغرق. وطبعا .. لا نقول: للوصول إلى شاطئ النجاة. فالأزمة الاقتصادية دمرت الشواطئ، التي تمسي بلا قيمة، عندما لا تكون هناك سفن ومراكب وحتى قوارب النجاة لاستخدامها!. ونحن نعلم أن الموانئ لا تبنى من أجل السباحين، حتى لو كانوا أبطال العالم في السباحة، ويعبرون المحيطات.
في التوصيف القضائي للإجرام والمجرمين، يُنعت مرتكب جريمة قتل واحدة.. بالقاتل - بالإنجليزية Killer - ويُنعت مرتكب عدة جرائم قتل.. بالقاتل المتسلسل - بالإنجليزية Serial killer -، ولأن الأزمة "بريئة" من ضحية واحدة - سواء كانت فردا أم قطاعا- فهي كـ "القاتل المتسلسل"، الذي أوقع أكبر عدد ممكن من الضحايا، لكن مع فارق كبير جدا، وهو أن الأزمة لم تضبط بعد.. وإن ضبطت لاحقا، فإن "أبطالها" لن يمثلوا أمام القاضي، ولن تقم محكمة لمحاسبتهم، وبالتالي عقابهم. فـ "الأبطال الملهمون" الذي فشلوا في تحصين مؤسساتهم ومصارفهم، وحماية قيم المجتمع وأفراده، يتمتعون بأعلى درجات الحصانة من المحاسبة والعقاب، تبدو أمامها حصانة الدبلوماسيين والنواب، مجرد نكتة.
فهي - أي الأزمة - رفعت حجم البطالة وخفضت الاستثمار، وقللت المساعدات وزادت المعاناة، وكومت الديون وبخرت المدخرات، ونشرت الأوبئة وحجبت الدواء، وخلقت المحتالين ونالت من الشرفاء، وأغلقت المتاجر وأكثرت من اللصوص، وأفقرت أثرياء وأغنت السماسرة. أيقظت القومية المتطرفة وداست على التسامح. هي أزمة متكاملة من الانهيار المالي والصناعي والتجاري والمعيشي والأخلاقي. ولأنها مثل " القاتل المتسلسل" الذي يعترف بجرائمه تباعا، فـ"جرائمها" تظهر بصورة متسلسلة أيضا. "الضحية" الجديدة التي "اعترفت" بها، هي تحويلات العاملين في الخارج لبلادهم. هذه التحويلات التي تمثل الشريان الرئيسي لحياة الملايين من الأسر في الدول النامية، تمثل أيضا سلاحا يكفل الحفاظ على الكرامة الإنسانية لها، لاسيما وأن الأسر التي تستفيد من تحويلات أبنائها في الخارج، تعيش في دول، لم تصل إليها بعد، أدوات التأمينات الاجتماعية، وإن وصلت فليس هناك من يعرف تشغيلها. وفي بعض هذه الدول - إن وجد من يعرف تشغيل الأدوات - يحال إلى التقاعد حتى لو كان في العشرينات من عمره!!. فالحكومات - كما يقول الأديب والكاتب البريطاني جورج أورويل- تعرف "مصلحتك" أكثر منك، إنها تقوم بدور " الأخ الأكبر"!، أو كما يعرف بالإنجليزية على نطاق واسع : Big brother is watching you.
على كل حال، يتحدث البنك الدولي - المعني مباشرة بالقضايا المعيشية والتنموية في البلدان النامية - عن أن حجم تحويلات العاملين في الخارج سيتراجع في العام 2009 بمعدل 7,3 في المئة ( التقديرات غير المتحفظة تنحصر بـ 10 في المئة)، بمعنى أن هذه التحويلات ستنخفض إلى 304 مليار دولار أميركي، من 328 مليار دولار سجلتها في العام 2008. والواقع أن التحويلات بدأت بالتراجع في الربع الأخير من العام الماضي، لكن آثارها تظهر عادة في مرحلة لاحقة. المصيبة هنا لا ترتبط فقط في هذا التراجع، بل أيضا بتدني حجم الاستثمارات الأجنبية في الدول الفقيرة، وذلك بعد فرار المستثمرين منها. ما هو السبب الذي أدى إلى تراجع التحويلات، أو شريان الحياة للأسر في الدول الفقيرة؟. البطالة وتخفيض الأجور طبعا. وكيف نشأت هذه البطالة؟ عن طريق تسريح نسبة من العمالة الوافدة، في إطار عمليات التسريح التي تشمل كل الشرائح في الدول الحاضنة لهذه العمالة. يكفي الإشارة إلى أن دولا مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وأسبانيا وإيطاليا وأستراليا وماليزيا وروسيا وجنوب أفريقيا، خفضت الحصص السنوية من العمالة المهاجرة، بينما شددت بعض الدول القيود عليها، في حين قامت بعض المؤسسات فيها بتخفيض رواتب الموظفين.
ما هي الحجة؟.. الأزمة بالتأكيد. ولنا أن نعرف - على سبيل المثال - أن تحويلات العمالة تشكل في بلد كطاجيكستان 46 في المئة من الناتج الوطني الإجمالي، وفي جزر تونغا 37 في المئة، ومولدوفيا 34 في المئة. بينما تشكل التحويلات حجر أساس لدول تتمتع باقتصادات ناشئة مثل الهند والصين والمكسيك، كاحتياطات رأسمالية غير رسمية لتغطية النفقات. والواقع أن تقديرات تراجع حجم التحويلات، لا تخضع للمعايير المتكاملة، لأن نسبة من هذه التحويلات - لا أحد يستطيع تقديرها - لا ترسل عبر القنوات الرسمية أو المصرفية المعروفة. أي أن انخفاض التحويلات، يشمل أيضا تلك التي ترسل عبر أشخاص أو معارف أو أصدقاء، أو تنقل عبر أصحاب التحويلات أنفسهم. ولمزيد من الصدمات، هناك أكثر من 150 مليون من المهاجرين العمال حول العالم - حسب بنك التنمية لدول أميركا (آي دي بي) - غالبيتهم من آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا والمنطقة العربية، وإن كان بينهم أعداد قليلة من أوروبا الشرقية. أي أن الكوارث الناجمة عن تراجع التحويلات والتسريح، تقاس بالملايين!
هذه هي الصورة العالمية بشكل مختصر، لمحنة تحويلات العمالة، كـ "ضحية للقاتل المتسلسل". ولكن ما هو حجم محنة تحويلات العمالة العربية، وسط ركام الأزمة الاقتصادية؟. طبقا لتقرير أصدرته جامعة الدول العربية، فإن حجم تحويلات العاملين العرب - المسجلة - تصل سنويا إلى 25 مليار دولار أميركي، وتصل هذه التحويلات إلى 40 مليار دولار، إذا ما أضيفت إليها الأموال المنقولة بطرق غير رسمية. وتشكل هذه التحويلات - حسب وكالة التصنيف العالمية "ستاندرد أند بورز"- 5 في المئة من إجمالي الناتجين الوطنيين لكل من مصر وتونس، بينما تشكل حوالي 20 في المئة من إجمالي الناتج الوطني اللبناني. وتستقطب دول مثل مصر وتونس والأردن والمغرب، حوالي 27 مليار دولار أميركي سنويا، من إجمالي تحويلات العمالة العربية. وتأتي الغالبية العظمى من الأموال المحوَلة، من دول الخليج العربية، التي تستقطب أكبر نسبة من العمالة العربية المؤقتة. وحسب إحصاء لصندوق النقد العربي صدر في العام 2004، فإن دول الخليج تعتبر المصدر الرئيسي لتحويلات العاملين المرسلة إلى كل من الأردن ولبنان وسورية ومصر، إذ بلغت حصتها حوالي 25 في المئة من تحويلات العاملين إلى كل من مصر ولبنان، و 85 في المئة إلى الأردن.التوقعات تدور حول تراجع التحويلات العربية في العام 2009 مابين 5 و10 في المئة. والمصيبة أن هذا التراجع لن يؤثر على الأسر المستفيدة من التحويلات، بل سينعكس سلبا على التصنيف الائتماني للدول المتلقية للتحويلات، وسيؤدي أيضا إلى خلل في ميزان الحساب الجاري لهذه الدول. وإذا ما استمرت الأزمة الاقتصادية - وكل المؤشرات تدل على استمرارها لفترة ليست بالقصيرة - فسيؤدي ذلك إلى استفحال العجز في الحساب الجاري لتلك الدول ما بين 2 و19 في المئة من الناتج الوطني الإجمالي، وذلك حسب نصيب تلك التحويلات من الناتج أساسا.
بين تراجع التحويلات والبطالة الناتجة عن الأزمة، تقف الأسر المعتمدة على أبنائها في الخارج، لا تعرف ماذا تفعل. فالمسرحون سيعودون إليها - لا كمستثمرين ورجال أعمال - بل كعاطلين، وأولئك الذين انخفضت مداخليهم، سيحسبون بدقة تكاليف التحويلات، بعد أن يكونوا قد أشبعوا المبالغ التي سيحولونها حسابا. يقول الرئيس الأميركي الراحل هاري ترومان: "عندما يكون جارك بلا عمل تسمي الوضع .. كسادا. وإذا أصبحت أنت بلا عمل تطلق على نفس الوضع صفة.. الكآبة". ولكن ماذا نقول في وضعية تكون وأنت وجارك فيها بلا عمل، وبلا حد أدنى من الدخل المالي، وبلا أمل اليوم للغد؟.
إنها بالتأكيد مصيبة.