اقتصاد

هل تحاكي «أرامكو» تجربة سكة حديد تكساس؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


سليمان الجاسر الحربش: من له أدنى صلة بتاريخ صناعة النفط الأميركية يلحظ ظاهرة تتسم بالطرافة، وهي الدور الذي أنيط بهيئة سكة حديد تكساس في الإشراف على صناعة النفط في الولاية. وهذه الهيئة ظهرت في أواخر القرن الـ 19 لمتابعة عمليات سكة حديد الولاية والإشراف عليها، ومراقبة الأسعار والنظر في التظلمات التي تنشأ جراء استخدام هذا النمط من المواصلات، وهي أعمال روتينية تقع في صلب اختصاص الهيئة داخل الولاية.

وخلال عامي 1917 و1919 أنيط بالهيئة مهمات تبدو غريبة عن الغرض الأصلي الذي أنشئت من أجله هذه المهمات تمثلت في مراقبة صناعة النفط والغاز من حيث الإنتاج، والحفر، والمحافظة على الثروة وما إلى ذلك. بل إن المهمات الأساسية التي من أجلها أنشئت الهيئة، وهي أعمال سكة الحديد نُقلت من سلطتها في عام 2005 إلى وزارة النقل في الولاية. وخلاصة القول إن من ينظر إلى الهيئة في وقتنا الحاضر يجدها تضاهي وزارات النفط في الدول ذات الثروة الهيدروكربونية.

تلك الظاهرة لفتت نظري لفترة من الزمن دون أن أجد لها تفسيراً منطقياً إلى أن التقيت في منتصف الثمانينيات في اجتماع رسمي بأحد المسؤولين في الهيئة، الذي بين لي أن السبب في تحمل الهيئة هذه المسؤوليات هو ما أبدته من كفاءة في أداء مهمتها الأصلية.
هذا التوضيح أعاد إلى ذاكرتي نظرية قطب التنمية Growth Pole Theory، التي طرحها الاقتصادي الإنجليزي وليام بيتي في القرن الـ 17، ثم تولى الاقتصادي الفرنسي فرانسوا بيرو في القرن الـ 20 ومن جاء بعده مهمة تعميدها. وهي تدور حول وجود ما يعرف بقطب التنمية داخل الاقتصاد الوطني، وهو قطاع بلغ من التقدم درجة تمكنه من جر أو قطر التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدولة كلها.

وتستمد هذه النظرية وجاهتها من فرضية بديهية هي أن النمو لا يحدث في مجمل قطاعات الاقتصاد الوطني بنفس الوتيرة أو الوقت، فلابد إذن من الاعتماد على هذا القطب إن وجد. وعندما دفعت بي طبيعة عملي في وزارة البترول والثروة المعدنية إلى الاقتراب من شركة أرامكو (قبل التملك) لاحظت أن الشركة بما لديها من موارد بشرية ومالية تتصدى لمهمات تخرج عن نطاق اختصاصها الأصلي. وأبرز مثل على ذلك هو بناء المدارس الحكومية على أحدث نسق يضاهي ما هو معروف في دول العالم المتقدمة، ثم تأكدت هذه الفضيلة للشركة عندما أوكلت إليها الحكومة إدارة مرفق الكهرباء في المنطقة الشرقية وأدت دورها على أحسن وجه.

''أرامكو'' هي في الحقيقة قطب التنمية في المملكة، ولهذا السبب أُنيط بها تشييد هذا الصرح الأكاديمي الرائع الذي سيدشنه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - في اليوم الرابع من شوال، وهو من بنات أفكاره وإحدى مبادراته. ولهذا السبب أحال ـ أيده الله ـ إليها تنفيذ الاستاد الرياضي الكبير في جدة، وقبلهما أُنيط بالشركة بناء المدارس الحكومية، وكهرباء الشرقية، وإدارة مشروع الغاز غير المرافق، وبعض المعونات الفنية التي يستفيد منها القطاع الخاص. وهذه القرارات تعكس المكانة التي تراكمت للشركة عبر الأجيال، ودورها في قطر التنمية على المستوى الوطني، فهي بهذا تحاكي تجربة سكة حديد تكساس.

لكن ما يتوقعه المواطن من ''أرامكو'' كقطب للتنمية يتعدى ما تضطلع به سكة حديد تكساس من خدمات، ويأتي في مقدمة هذه الخدمات تنمية الموارد البشرية سواء كانت في عمق الصناعة النفطية وما تحتاج إليه من خدمات مساندة أو ما يحتاج إليه الاقتصاد الوطني. وكم أتمني أن تتبنى الشركة هذا الهدف بحيث يتضمن برنامج تنمية الموارد البشرية في الشركة تلقيح الاقتصاد الوطني بالكفاءات المؤهلة، وبشكل يكمل ما تقوم به مؤسسات الدولة ويدخل ضمن هذا المنحى تزويد المنظمات الدولية التي تسهم بها المملكة بشكل كبير بالكفاءات المدربة لإدارتها والتأثير في مسارها، خصوصاً بعد أن أثبت موظفو الشركة العاملون في المنظمات المتخصصة كفاءة عالية، كما أن من يشاركون في مؤتمرات تهم المملكة مثل مفاوضات التغيير المناخي أثبتوا قدرة واضحة في الدفاع عن مصالح المملكة، ولا يساورني أدنى شك أن هذه الأفكار تحظى باهتمام وتشجيع القائمين على الشركة.

إن تنويع مصادر الدخل الوطني لن يتأتى في بلد تشح فيه الموارد غير النفطية مثل المملكة إلا بالاستثمار البشري المكثف، ولن يتمكن أحد من تحقيقه إلا مع الإمكانيات التي تتوافر لشركة أرامكو السعودية، يليها في هذا المضمار ''سابك'' وصندوق التنمية الصناعية، وهي أمثلة أرجو أن تزداد. هذه المؤسسات هي أقطاب التنمية في المملكة، وعليها مسؤولية تتعدى مجالها المحدود في أنظمتها، فبها ومن خلالها يستطيع الاقتصاد الوطني أن يعبر نحو آفاق جديدة عمادها الإنسان الواعي لمشكلات عصره ومستقبله، وهي السمات البارزة لكوادر الشركة.

وإذا كانت ''أرامكو'' السعودية - وهي مصدر فخر للجميع - تتمتع بنظام مالي عالي المرونة استفادت منه في تنفيذ ما أُنيط بها من مسؤوليات استراتيجية، أهمها بناء الطاقة الإنتاجية لضمان استقرار السوق النفطية في العالم في الأمدين القصير والمتوسط، وهو برنامج سيتحقق في نهاية هذا العام، فإن بناء وصيانة الطاقات البشرية المؤهلة لخدمة الاقتصاد الوطني هو أمر لا يقل أهمية عن أي مطلب استراتيجي آخر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
أرامكو قاطرة التنمية
د. محمد السبيعي -

شكرا للأستاذ الفاضل سليمان الحربش على إضاءته الساطعة لهذا الموضوع علنا نستفيد قليلا سأكتفي بسرد تجربة مررت بها هذا الصيف متمنيا أن أكون قد ساهمت بإعطاء مثال حي لإضاءة الأستاذ الحربش أعمل في قطاع البنوك في مدينة الرياض ويتطلب عملي سفرا كثيرا وخاصة لأوروبا وتصادف توقفي هذا الصيف في مدينة فيينا لزيارة خاصة. وكما هو معروف تزخر فيينا بالعديد من الهيئات والمنظمات الدولية مثل الطاقة الذرية والأمم المتحدة وأوبك و أوفيد وغيرها. كنت على معرفة بتبوء الأستاذ سليمان الحربش لمنصب هام وحيوي في أوفيد ولكن لا أدري لماذا انتابني شعور مسبق و خاطئ من أن تمثيل السعوديين بالإجمال يكاد محصورا في السفارة السعودية وبعض التمثيل الخجول في الأمم المتحدة حتى تعرفت على أحد الأخوة الجزائريين والذي قام بقلب كل أفكاري المسبقة عندما صنّف كثير من التمثيل السعودي في السنوات الخمس الأخيرة بعال المستوى و مشرّف كثيرا لبلدهم وغالبيتهم إن لم يكن جميعهم يفوقون نظرائهم العرب من حيث الخبرة والتجربة والاحترافية في العمل والتفاعل مع المجتمعات الغربية ويتبوءون مناصب قيادية خاصة في منظمتي أوفيد وأوبك…تراقصت فرحا لكلام الصديق الجديد وطلبت منه تفاصيل أكثر على قول المثل ” إن الغواني يغرهن الثناء” ذكر لي أن بعض القطاعات في السعودية أصبحت في الآونة الأخيرة تحرص على تزويد المنظمات الدولية التي تسهم بها المملكة بشكل كبير بالكفاءات المدربة لإدارتها والتأثير في مسارها وذكر أن غالبية الممثلين السعوديين في أوبك تلقوا تدريباتهم وخبراتهم المتراكمة أثناء عملهم في شركة أرامكو السعودية وبالفعل، على ذمة الصديق الجزائري، أثبت موظفو الشركة العاملون الآن في منظمة أوبك كفاءة عالية جدا حتى أصبحت، أرامكو، أحد أهم الروافد والتي تستعين بها الحكومة السعودية لدعم سياستها الانفتاحية على الخارج. وشكرا مرة أخرى للأستاذ سليمان الحربش وأتمنى أن ألتقي بك وبكافة الأخوة السعوديين في المنظمات الدولية