أزمة اقتصادية تولّد عصبيات عنصرية
في لبنان.. عراك وتضارب على كيس حليب!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من بيروت: لم يعد مستغربا في لبنان، وفي ظل الانهيار الشامل الذي تعيشه البلاد، أن تتحول مراكز بيع المواد الغذائية إلى مواقع خطرة على المواطنين، تشهد عمليات تدافع وتهافت، إشكالات وتضارب، احتكار وتلاعب واحتيال وحتى مداهمات أمنية.
وفي بلد بات فيه الأمن الغذائي للبنانيين مهددا يوميا بانقطاع السلع واستمرار ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، يتحول تأمين الحاجات الأساسية بالسعر الأنسب والكمية الكافية، إلى ما يشبه الصراع على البقاء، ويسجل معها في يوم واحد ثلاث "معارك" مختلفة في متاجر كبرى عدة، وثقتها مقاطع مصورة ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد، بحسب تقرير نشره موقع "الحرة".
عراك على كيس حليب
يختصر المقطع المصور الذي وثق الإشكال في "سوبرماركت سبينيس" في منطقة الحازمية، واقعاً يومياً بات معتادا في مختلف مراكز بيع المواد الغذائية. يبدأ الفيديو بتوثيق إشكال بعيد عند المخرج، وإذ بالإشكال الثاني والأكبر يقع بالقرب منه عند صندوق المحاسبة ويسجله في المقطع نفسه. هكذا هي الحال اليومية بحسب ما يؤكد العاملون في السوبر ماركات.
بدأ الإشكال مع مطالبة سيدة بحصتها من الحليب المدعوم من الحكومة اللبنانية، ليبادر أحد الموظفين ويأخذ كيساً من سلة زبون آخر اشترى فائضا عن حصته من الحليب والزيت، فما كان إلا أن اندلعت مشادة كلامية وتلاسن تطور إلى عراك بالأيدي بين الزبون وعدد كبير من الموظفين، تعرض خلالها مدير الفرع للضرب بحسب بيان إدارة "سبينيس" الذي أسف لما حصل، مؤكدا "استمراره في تأمين الأمن الغذائي للمواطنين بالتساوي".
وتخصص الحكومة اللبنانية دعما ماليا لسلة غذائية من المواد الأساسية كالزيت وحليب الأطفال والسكر والطحين والأجبان والألبان وغيرها من السلع، لتمكين المواطنين من الحصول عليها بسعر منخفض نسبياً عن أسعار السوق التي ارتفعت بشكل كبير مع الانهيار الكارثي لليرة اللبنانية، حيث بات الحد الأدنى للأجور يبلغ 68$ بحسب سعر صرف السوق السوداء.
إلا إن هذه السياسة أدت إلى حصول العديد من المشاكل في عدالة توزيع المواد وانعكست فوضى في الأسواق والسوبر ماركات وسهولة في الاحتكار والتهريب. وكان بيان "سبينيس" قد طالب المعنيين بـ"اقتراح حل شامل لأزمة البضائع المدعومة تجنّبا لأحداث مماثلة مرتبطة بالاحتكار والتخزين".
السلة المدعومة فاشلة
يؤكد نقيب مستوردي السلع الغذائية، هاني البحصلي، أن مشهد التهافت هذا بحد ذاته يدل على حجم فشل خطة السلة المدعومة التي قد تكون الغاية منها نبيلة، لكنها "منقوصة"، إذ إنها مقدمة من احتياطي أموال الناس ولا يحق للدولة التصرف به، وليس من اقتصاد منتج أو من مدخول الدولة، بل بات عبارة عن استنزاف مستمر وبات في مراحله الأخيرة قبل الإفلاس النهائي.
وكانت الحكومة اللبنانية قد أعلنت عزمها اعتماد بطاقات دعم توزع على العائلات المحتاجة من أجل تقديم الدعم مباشرةً على فاتورة المشتريات، إلا إن الخطة لم تطبق حتى الآن، فيما لا يزال الدعم يطال عملية استيراد المواد من الخارج فيستفيد منها التجار بالدرجة الأولى لتأمين سلع أرخص في الأسواق للمواطنين، الأمر الذي يؤدي إلى كل تلك الفوضى في مراكز البيع.
من جهة أخرى، يؤدي انقطاع المواد المدعومة وغير المدعومة إلى تهافت المواطنين على شرائها عند توفرها، هذه الأزمة مردها بحسب النقيب إلى بطء مصرف لبنان في تأمين الدولار لعملية الاستيراد، يصل هذا التأخير إلى حدود الأشهر يتبدل معها سعر صرف الدولار ويتأخر استيراد المواد لتلبية حاجات السوق، ما يؤدي إلى انقطاعها لتعود بأسعار أعلى مما كانت عليه، ولا ذنب هنا على التاجر والمستورد الذي يشتري الدولار من السوق السوداء مثله مثل أي مواطن، كما يقول تقرير "الحرة".
على الزيت أيضًا
مقطع آخر مصور من متجر لبيع المواد الاستهلاكية سوبر ماركات مدينة جبيل، يظهر تهافتاً بين المواطنين على شراء الزيت النباتي المدعوم لحظة وصوله إلى السوبرماركت، حيث لم يكف عدد الزبائن، ما أدى إلى تدافع وعراك بينهم من أجل الحصول على حصتهم.
يؤكد محمد أبو حمدان، الذي يعمل محاسباً في أحد المتاجر الكبرى في بيروت، أن "هذا المشهد بات يومياً معتاداً ولم يعد هناك خجل من التدافع والتسابق بين الناس للحصول على السلع الغذائية لاسيما المدعومة، إلى حد يدفعني للتساؤل: إلى أي مدى يستحق الأمر كل هذا العناء؟ المشهد مثير للشفقة على الحال الذي وصل إليه الناس ليضعوا أنفسهم في هذه المواقف".
من جهته يلفت البحصلي إلي أن "هذا المشهد ليس إلا بداية الانفجار الاجتماعي الذي كنا نحذر منه منذ العام ٢٠١٩. فإذا عدنا بالمشكلة سنصل إلى الأزمة السياسية التي وصلت بنا إلى الانهيار الاقتصادي والمالي وارتفاع أسعار السلع الغذائية، وهو أمر سيستمر وسنشهد مزيدا من فصوله في المرحلة المقبلة مع رفع الدعم عن المحروقات والسلع والخدمات في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار".
مع بداية الأزمة الاقتصادية، اعتمدت بعض المتاجر الكبرى سياسة عرض كمية محددة يومياً من المواد المدعومة من أجل تفادي الازدحام والتهافت في ظل جائحة كورونا، والمحافظة على توفر السلع أطول مدة ممكنة لمنع انقطاعها، لكن وزارة الاقتصاد منعت تخزين المواد وفرضت عرض كل الكميات بسبب الاحتكار الدائر لها وتهريبها خارج البلاد وإعادة تغليفها وبيعها بأسماء وماركات جديدة بأسعار أعلى من المدعوم.
"بتنا في حيرة من أمرنا، نلبي تعليمات وزارة الاقتصاد فنخالف تعليمات وزارة الصحة. البضائع تتكدس في باحة المتجر وفي الممرات بين الرفوف والناس تتكدس فوقها وتتنازع في ما بينها للاستحواذ على البضائع المدعومة"، يقول محمد لافتاً إلى أن الصراخ والشتائم والإشكالات باتت "روتين يومي"، بسبب الكميات والمواد المدعومة وارتفاع الأسعار، الناس يعيشون مأساة حقيقية تدفعهم نحو الجنون. وصل إلي زبون قبل أيام وقد مزق قميصه خلال الزحمة حول الزيت المدعوم، فيما وقفت سيدة بالأمس وسط المتجر وبدأت بالصراح بشكل هستيري رافضة التوقف قبل الحصول على حصة من الزيت المدعوم".
الاحتيال يتفشى
ويشرح محمد لموقع "الحرة" الأساليب التي يعتمدها بعض المواطنين للالتفاف على سياسة الحصة الفردية المحدودة للمواد المدعومة، "نرى بعض الوجوه عشرات المرات في اليوم، ونرى أيضاً مجموعات منظمة تستهدف سلع محددة. هناك عائلات تتوجه بكاملها على شكل أفراد لشراء صنف محدد من المواد المدعومة بحيث ينال كل فرد حصة عائلية، ما يؤدي إلى انقطاع المواد وعدم استفادة جميع الزبائن منها بشكل عادل. بعض التجار وأصحاب المحال الصغيرة باتوا يعملون أيضاً في شراء هذه السلع وبيعها بأسعار أعلى في الدكاكين".
ويضيف أنه ومنذ أن أعيد فتح المتجر بعد الإغلاق العام، لم يحصل الموظفون على عطل واضطروا إلى زيادة ساعات عملهم بسبب حجم الازدحام اليومي للمواطنين. "عملنا في الأساس محاسبين لا أكثر ولا أقل، ولكن المسؤولية التي باتت على عاتقنا بسبب الظروف الحالية، حولتنا أحيانا إلى شرطة مراقبة على السلع والزبائن، وأحيانا أخرى نشعر بأننا مساعدون اجتماعيون بحيث نستمع إلى شكاوى الزبائن ومشاكلهم الاقتصادية وتبريراتهم ونحاول تلبية حاجاتهم ومساعدتهم بقدر المستطاع والمسموح".
ترصد السوبر ماركات في لبنان تواطؤ بعض الموظفين لديها مع أقاربهم وأصدقائهم، من أجل سحب أكبر قدر ممكن من السلع المدعومة، فيما حولها البعض إلى تجارة مربحة عبر إنشاء مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن توفر المواد المدعومة، بحسب ما يؤكد أديب الذي يعمل في متجر بمنطقة عين الرمانة. وقد عمدت المتاجر إلى فرض إجراءات مشددة على حصول موظفيها على المواد المدعومة عبر لوائح شهرية لتسجيل الحصص ومراقبة دقيقة.
تضييق على السوريين
يعمد المتجر الذي يعمل فيه أديب إلى تضييق على الزبائن من الجنسية السورية في حصولهم على المواد المدعومة. يرشد أديب اللبنانيين إلى أماكن توزيع المواد المدعومة في الداخل، وينصح بعضهم عند المحاسبة باستبدال السلع غالية الثمن بأخرى مدعومة "أحسن ما يأخذوهن السوريين" بحسب ما يقول. هو ليس المتجر الوحيد في لبنان الذي يعتمد هذا النوع من التمييز، حيث أصبحت هذه السياسات منتشرة ومرصودة في أماكن عدة.
يقول أديب لموقع الحرة "لست أخجل من ذلك، قبل أيام رصدت سيارة من نوع "رابيد" تقل صباحاً 6 شبان سوريين دخلوا إلى المتجر واشترى كل منهم حصص عائلية من كل المواد المدعومة ثم اجتمعوا في السيارة نفسها وغادروا، ويتكرر هذا الأمر دائما بحيث باتت تجارة مربحة".
نسأله عن السبب في تعميمه لهذه الحالة على كل السوريين، فيجيب "أرى أن هذا الدعم يأتي من الحكومة اللبنانية لصالح المواطنين اللبنانيين في هذه الأزمة فيما النازحون السوريون يستفيدون من دعم الأمم المتحدة وبرنامج الغذاء ويحصلون على مساعدات، فلماذا يزاحمون اللبنانيين على المواد المدعومة؟"
أزمة عنصرية
رأي أديب يعبر عن وجهة نظر شائعة شعبياً وسياسياً وإعلامياً في لبنان، بحيث باتت الأزمة الاقتصادية تغذي العصبيات العنصرية والطائفية في البلاد، وتدفع نحو مزيد من التمييز الذي بات يصل إلى حق الحصول على الغذاء. فبعض المتاجر وصلت إلى حد التمييز الطبقي بين المواطنين، ففرضت مبلغاً محدداً للشراء من أجل الاستفادة من المواد المدعومة ما عده الرأي العام اللبناني تمييزاً تجاه الفقراء الأكثر حاجة لهذه المواد المدعومة.
يشير نقيب مستوردي السلع الغذائية إلى أن شكل السوق عموماً سيتغير أكثر بعد، "كلنا نلاحظ انقطاع عدد كبير من السلع، وكثير من الأصناف لم تعد بمتناول الجميع وحتى الميسورين مادياً ما عادوا يشترون تلك الأصناف بسبب تكلفتها الباهظة، هذه السلع ستختفي تدريجياً، لصالح طغيان المواد الأساسية والضرورية جداً كما هي حال كل البلدان الفقيرة. ويتوقع البحصلي أن تستمر هذه الأزمة وتتفاقم في ظل غياب بوادر لحل سياسي يقود إنقاذ اقتصادي في البلاد، لكننا للأسف لا نرى أي فسحة أمل حتى الآن لنطمئن الناس.