اقتصاد

"نقبل الدفع بعملة البيتكوين"

هل تمثل العملات المشفرة حلاً في لبنان مع تفاقم الأزمة الاقتصادية؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

شهد لبنان تهافتاً لافتاً على العملات الرقمية، ولا سيما مع بدء أزمته الاقتصادية وانهيار عملته المحلية أواخر عام 2019. لكنّ لا يبدو أنّ الاتجاه للتداول بهذه العملات، أقلّه على المدى القصير، يمثّل حلاً للباحثين عن تعويض غياب النقد بالعملات الأجنبية في لبنان، إذ تواجه عمليات تداول وتعدين الكريبتو تداعيات الأزمة الاقتصادية ومشاكل أخرى، تضاف إلى عدم استقرار السوق العالمي.

"نقبل الدفع بعملة البيتكوين". عبارة وضعت على باب أحد المطاعم التي تقدم الوجبات الصينية في بيروت، كما تعلن شركة لخدمة بث القنوات الفضائية في لبنان، عن استعدادها لقبول عملات البيتكوين والليتكوين والإيثيريوم.

وتعد هذه الإعلانات حديثة نوعاً ما في لبنان. إذ تمثّل تحولاً من قبل الشركات والمؤسسات الصغيرة في التعاطي هذه العملات.

رُصد تهافت شريحة واسعة من اللبنانيين على الاستثمار بالعملات الرقمية بعد ظهور الأزمة الاقتصادية في البلاد وتدهور قيمة العملة المحلية وحجز المصارف مدخرات المودعين بالعملة الأجنبية، خاصة الدولار.

وقد أعطى الإقبال الكثيف على جمع هذه العملات، انطباعاً بأنّ هذه الخطوة قد تكون مخرجاً للأزمة.

وشهد لبنان إقبالاً على شراء آلات التعدين وانتشر ما يعرف بعمّال المناجم، في أغلب المناطق اللبنانية.

بي بي سي نيوز عربي تحدثت مع نادر الديراني وهو استشاري في العملات المشفرة ومالك متجر لتداول وشراء العملات الرقمية في لبنان، ليقول لنا: "إن الإقبال كان جيداً، وزاد مع بداية الانهيار الاقتصادي، بعد أن سحب المودع ما استطاع من أمواله من المصارف واستبدالها بالعملات الرقمية، بهدف الهروب من العملة اللبنانية المستمرة بالانهيار. وبهدف تحقيق أرباح لتعويض الخسائر التي تكبدها خلال عملية إنقاذ ماله من المصارف.

ويرى المهندس الطبي، إبراهيم حيدر، والذي انخرط في مجال جمع وتعدين العملات أن الأكثر تداولاً في لبنان هي العملات الثابتة والمعروفة والموثوق بها حول العالم مثل البيتكوين والإيثيريوم.

الأزمة الاقتصادية في لبنان "تدفع العائلات إلى حافة الهاوية"-الفايننشال تايمز

لماذا تشهد قيمة العملات الرقمية انهيارا حول العالم؟

ويضيف حيدر قائلاً "أصبح كلّ منا قادراً على التعدين في المنزل بمجرد امتلاكه المعدّات والأجهزة اللازمة.

وتعرف عملية تصنيع العملات الرقمية بالتعدين وهو عملية التشفير المعقدة التي تحتاج إلى حواسيب متخصصة قوية، وتستهلك الكثير من الكهرباء، ويستغرق "المعد‌ِّنون" فترات طويلة من أجل صناعة عملة واحدة، أصلية، يصعب اختراقها، أو تقليدها.

لكن سوق العملات الرقمية تعرّض لأكثر من نكسة بين عامي 2021 و2022. وخسرت العملات الأساسية مثل البيتكوين أكثر من 50 في المئة من قيمتها. الأمر الذي أدى إلى تراجع الثقة بهذه العملات وبقدرتها على تأمين حل بديل في لبنان.

وإلى جانب عدم استقرار وضع هذه العملات في السوق المحلية والتراجع الذي شهدته مؤخراً، ظهرت عقبات أخرى أمام تداول هذه العملات وتعدينها، تتعلّق ترتبط بتداعيات الأزمة الاقتصادية في لبنان.

ما هي هذه العقبات؟ غياب الدولار

مع احتجاز المصارف ودائع اللبنانيين، لم يعد من السهل الحصول على عملة الدولار لشراء العملات الرقمية، وتوقفت عمليات تحويل ونقل الأموال الخاصة بالمودعين عبر المصارف.

ومع استمرار انهيار العملة المحلية وفقدانها أكثر من 90 في المئة من قيمتها، لم تعد ودائعهم بالليرة اللبنانية - في حال تمكنوا من سحب أجزاء منها وفقاً لسياسات المصارف المعتمدة خلال الأزمة - تكيفهم لتأمين حاجياتهم اليومية، ما يجعل من الصعب تخصيص جزء منها للاستثمار بالعملات الرقمية.

يقول الخبير نادر الديراني إن عدد المتداولين تضاءل بعد أن أصبح من الصعب على الموظف والعامل اقتطاع مئة أو مئتي دولار من راتبه للاستثمار وأصبح مبلغ مئة دولار يوازي أكثر من راتبه.

أزمة الطاقة

يحتاج تعدين إلى استهلاك كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية. ولبنان يعاني منذ ما قبل الأزمة الاقتصادية من تقنين كهرباء كان يصل إلى 12 ساعة يومياً في بعض المناطق.

ومع بداية الأزمة وعدم توافر النقد لشراء الفيول، انخفضت ساعات التغذية بالكهرباء في لبنان إلى ساعة أو ساعتين يومياً. ويعتمد اللبنانيون على تغذية أصحاب المولدات الخاصة المكلفة.

لكنّ آلات تعدين بعض العملات قد تحتاج إلى سحب طاقة تصل إلى 15 أمبير.

وبعد رفع مصرف لبنان المركزي الدعم عن المحروقات بشكل كامل، أصبح الاعتماد على الكهرباء من مصادر خاصة أكثر كلفة.

يقول المهندس نبيل جابر، الخبير في تجهيز وبرمجة أجهزة التعدين، إنه كان في السابق يتلقى اتصالات لتركيب أربعة أو خمسة أجهزة يومياً في منطقة جبيل التي تبعد نحو 37 كلم شمالاً من بيروت.

"لكن مع ارتفاع تكلفة الكهرباء وهبوط سعر العملات الرقمية، أصبحت تكلفة تشغيل آلة التعدين أكثر من مردودها". ويلفت جابر إلى أن معظم المستثمرين يضعون آلاتهم في ما يسمى "مزارع"، ويقتسمون كلفة الكهرباء. ويشير إلى أن صوت الآلة عادة ما يكون مزعجاً وأنه حين وضع واحدة في منزل، وصلها بكاتم للصوت.

وقال نبيل لجابر لبي بي سي إنه يمتلك أيضاً أكثر من آلة للتعدين، لكنه فصلها عن العمل حالياً.

في ظلّ هذا الوضع، نزح "المعدنون" إلى بلدات لبنانية تتمتع بتغذية كهرباء دائمة نسبياً بفضل مشاريع قديمة، مثل مشروع التغذية بالمعامل الكهرومائية في مناطق بين جنوب لبنان وشرقه.

لكن كثرة آلات التعدين ولّدت ضغطاً على شبكة الكهرباء في هذه المناطق، ووردت تقارير في صحف محلية عن شكاوى السكان من هذه العمليات.

ووصل الأمر في بداية هذا العام بتدخل الشرطة ومصادرة أجهزة تعدين في إحدى بلدات الجنوب، بطلب من مؤسسة "المصلحة الوطنية لنهر الليطاني" - مؤسسة عامة حكومية مسؤولة عن تنفيذ مشاريع المياه والكهرباء في تلك المناطق.

وقال مصدر في قوى أمن الداخلي لبي بي سي أنه مع غياب وجود غياب أي قانون يتعلق بتعدين وتداول العملات الرقمية، فإنّ الأجهزة الأمنية تتدخل فقط حين يطلب إليها ذلك.

كما اشتكى النائب السابق عن منطقة الشوف، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في تغريدة على حسابه على تويتر من تأثير التعدين على شبكة الطاقة الكهربائية.

في قرى الشوف الاعلى التي تتمتع بالكهرباء هناك افراد يقومون باستهلاك هائل للطاقة على حساب المواطنين العاديين .لماذا وكيف لان هؤلاء يصنعون العملة الbitcoins لا اكثر ولا يبالون بالمصلحة العامة pic.twitter.com/3FFQWNyCXy

— Walid Joumblatt (@walidjoumblatt) September 13, 2022

كثافة الإقبال واقتسام الأرباح

بحث المهاجرون إلى أسواق العملات الرقمية، عن حلّ آخر لمسألة استهلاك الطاقة، فكان الاتجاه نحو عملات لا يكلّف جمعها طاقة كهربائية عالية، مثل الهيليوم.

ولا تندرج الهيليوم ضمن العملات الأساسية الثابتة، لكنها كسبت ثقة العديد من المتداولين حول العالم، وهي لا تستهلك الكثير من الطاقة ولا كمية كبيرة من بيانات الإنترنت.

وتظهر خريطة على موقع خاص بهذه العملة، عدد الأجهزة المثبتة في لبنان، والتي يُطلق عليها وفقاً لإبراهيم حيدر اسم "بيوت النحل".

ويفوق عدد المستثمرين بهذه العملة في لبنان، نسبة إلى مساحته الجغرافية، عدد المستثمرين في باقي الدول العربية المجاورة.

لكن هذه العملة تأثرت أيضاً بعدم استقرار العملات الأساسية، وتدهورت قيمتها مع الانخفاض الذي شهده السوق العام الماضي ومنتصف العام الحالي.

ويقول حيدر الذي حاول العمل على جمع هذه العملة أيضاً، إن قيمتها انخفضت من 50 دولار عند وصولها إلى الذروة، لتترواح بين 6 و11 دولار للقطعة الواحدة. ويشرح حيدر قائلاً "إن كنت تجني في السابق 300 دولار من جمع هذه العملة، فأنت الآن تجني نحو 50 دولار في الشهر كحد أقصى".

ويواجه الاستثمار في هذه العملة مشكلة كثرة الإقبال عليها، فكثرة آلات أو أجهزة التعدين وتواجدها الواحدة بجانب الأخرى في مساحة جغرافية ضيقة تجبر المتداولين على اقتسام الأرباح وبوتيرة أبطئ من السابق.

ويقول حيدر لبي بي سي إنه من الصعب الآن إيجاد مكان لزرع هذه الآلات، إذ تحتاج لمسافة بين الواحدة والأخرى. ويرى أنّ "العدد الهائل والفائض في لبنان هو مشكلة، لأن عدد الأجهزة تفوق طاقته بالنسبة لمساحته الجغرافية".

ويفسّر ذلك قائلاً إنه من المفترض زرع جهاز تعدين واحد أو اثنين كحد أقصى، في الموقع الواحد مع تأمين مساحة حول الجهاز قدرها 2 إلى 3 كلم. "وذلك كي تتوزع الأرباح بشكل طبيعي مالكي هذه الآلات. ويضيف قائلاً إنه أحياناً "يضمّ الموقع الواحد أكثر من سبعة أجهزة، وقد يصل إلى 15 في العاصمة بيروت. ما سيؤدي إلى توزيع المكافأة على الجميع بوتيرة أكثر بطئاً".

خسائر متلاحقة

عدة عوامل مرتبطة ببعضها البعض عرّضت سوق المتداولين بالعملة الرقمية لخسائر متلاحقة.

فمع هبوط قيمة العملات الرقمية بعد وصولها إلى الذروة، هبطت معها أسعار أجهزة التعدين.

فكيف أثر ذلك على المتداولين اللبنانيين.

يقول إبراهيم حيدر إن التهافت على هذه الأجهزة تصاعد سريعاً مع بدء الأزمة وشحّ عملة الدولار.

لكن اللبنانيين الذين ابتاعوا تلك الأجهزة، دفعوا ثمنها في السوق السوداء، بتكلفة تفوق كلفتها الحقيقة نحو ثلاثة أضعاف.

فبحسب حيدر، كانت رغبة المتداولين هي الحصول على هذه الآلات بسرعة، حينها كانت العملات الرقمية في أوّج ارتفاعها، وكان شحنها إلى لبنان يستغرق شهرين. ما أدى إلى زيادة الطلب عليها وارتفاع ثمنها في السوق السوداء.

أي أن الآلة التي كان يبلغها ثمنها 400 دولاراً على سبيل المثال، وصلت تكلفتها مع ما يلزم لتثبيتها وتشغيلها في لبنان إلى 2400 دولار.

BBC جزء من تجهير لتعدين العملات المشفرة داخل أحد المنازل في لبنان

ويقول حيدر إن المتداول كان يعتقد إن بإمكانه سدّ ثمن الآلة خلال أشهر قليلة إن كانت أرباحه تبلغ نحو 300 دولار في الشهر. لكن بعد التهافت على سوق هذه الآلات، شهدت أسواق العملات الرقمية تراجعاً، أدّى إلى درّ أرباح قليلة، لم تعد كافية لتعويض ثمن شراء هذه الآلات.

وبالإضافة إلى أن كلفة تشغيل آلة التعدين اليوم مع ارتفاع أسعار الطاقة ومع كثرة المعدّنين، أصبحت تفوق مردودها.

ما هو مستقبل هذه العملات في لبنان؟

يرى الاستشاري في العملات الرقمية نادر الديراني أنّ "البيتكوين هو حجر أساس في النظام المالي العالمي مستقبلاً، ويمكن الاستفادة من مميزاته بدءاً من اليوم".

"ونحن في لبنان بحاجة لتشريع لضبط وإدارة عالم العملات الرقيمة كما جرى منذ 10 سنوات في أمريكا ومنذ عدة سنوات في وسويسرا وباقي بعض البلاد الأوروبية".

لكنّ في ما يتعلق بالاستثمار والتداول، يقول الديراني إنّ "الأرباح والخسائر واردة، فعندما ترتفع الأرباح ترتفع المخاطرة".

ويتابع الديراني قائلاً إنه "من غير المنطقي إطلاقاً أن يقوم المرء باستثمار ماله في عمل ما دون معرفة وخبرة ودراسة.

والأخطر من ذلك وفقاً للديراني، هو استثمار كلّ ماله وليس فقط الجزء الفائض من ماله في هذا الاستثمار. "بالإضافة للطمع وأحلام اليقظة بالربح السريع والتخلص من الواقع الاقتصادي المرير في لبنان".

وبالنسبة للتعدين، يقول الديراني إنه أمر يحتاج خبرة مواكبة التقنيات الحديثة وسوق العملات المربحة لتعدينها. ويحتاج أيضاً الكثير من المال لشراء المعدات الحديثة، ودخول المنافسة للحصول على حصة من السوق.

ويؤكد إبراهيم حيدر على أن القاعدة الأولى في الاستثمار في هذه السوق حالياً هو استعمال المال الفائض - الذي لا يحتاجه الشخص - وعدم المس بالمدخرات.

ويقول "إن كان هدفك جمع هذه العملات على المدى الطويل، لن تكون خاسراً. لكنّ إن أردت أن تعتاش منها بشكل يومي أو جني أرباح شهرية، فذلك غير ممكن الآن".

ويلفت إلى أن الثقة لا تزال غائبة عند بعض المتداولين، لذلك قاموا ببيع ما جمعوه من العملات الرقمية عند أول ارتفاع لقيمتها، بدلاً من الاحتفاظ بها لمراحل قادمة. ويصف حيدر سوق العملات الرقمية بأنها شرسة.

وفي آخر اتصال مع بي بي سي، أفاد حيدر أنّ أغلب مالكي أجهزة التعدين اليوم يعرضونها للبيع، وتحدث عن استياء في أوساطهم. وقال لا يعلم إن كان الوضع ينطبق على لبنان فقط، لكن "المشروع فشل".

وأضاف أن نظام جمع الإثيريوم، العملة الأهم بعد بيتكوين، سيحدّث قريباً ولن يحتاج بعد الآن إلى الطاقة والإنترنت، ما يعني أن مالكي هذه الأجهزة سيضطرون لبيعها أيضاً.

جميع هذه العوامل تشير إلى أن التداول بهذه العملات حالياً قد ينحصر بالقادرين على الحصول على النقد بالعملة الأجنبية من مصدر ما غير المصارف، أو الذين يملكون مالاً فائضاً، أو الذين يستطيعون فعلاً إخراج جزء من مدخراته والمخاطرة في استثماره في هذه السوق.

بينما يبقى الجزء الآخر مراقباً من بعيد أو غير مهتم بعد بتداول هذه العملات.

وقد يحتاج الأمر وقتاً لفهم آلية جمع هذه العملات والاستثمار في أسواقها. لكنّ من الواضح أنها لن تساهم حالياً في تعويض النقد، أو في المساعدة على تحمّل تكلفة المعيشة المتصاعدة في لبنان بعد الأزمة في الوقت الراهن.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف