أخبار الأدب والفن

فلامنكو عاصفة من الرقص المجنون بمسرح قطر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بعيداً عن أي نظريات ومراجع تاريخية أو فنية أو موسوعية حول "الفلامنكو"، فهذا النوع من الرقص بالذات لا يحتاج إلى كتب لفهمه، لأنه باختصار يزيح ثقافة الورق جانباً ويعلي من شأن ثقافة واحدة لا صراع فيها ولا إيديولوجيات، إنها ثقافة الجسد وموسيقاه و"ذاكرته" على حد تعبير الأديبة المجنونة أحلام مستغانمي ..

فثقافة الفلامنكو نوع من الجنون، بما أنه يزيح العقل جانباً، بل إن تلك الثقافة العقلانية الورقية تصبح بحد ذاتها جنوناً أمام ذلك الصخب العارم من الأفكار والهواجس والتطلعات التي ينطق بها الجسد عبر أرقى تعبيراته، والتي توصل إليها الإنسان عبر عشرات ومئات السنين ألا وهي: فن الرقص. هذا ما قالته فرقة "الفلامنكو" الإسبانية على مسرح قطر الوطني ليلة أمس الاثنين وسط حشد جماهيري كبير من مختلف الجنسيات والثقافات، صفقوا جميعاً ودون حاجة لمترجم لأداء الفرقة الذي تسرب إلى فضاء المسرح بسيطاً، تلقائياً، حياً، وقريباً من الأفعال اليومية المتحررة من رقابة الآخر "البغيض" كما يرى الفيلسوف سارتر .. جاءت الفرقة هادئة طيعة كقطة جائعة لمساحة خالية، وبهدوء أيضاً بدأت المؤدية "المغنية" تجرح بصوتها المبحوح فضاء المسرح الصامت، تغني كأنها تغني لنفسها في صالون المنزل أو في المطبخ وهي تعد الطعام كي لا أبدو رومانسياً فأقول: على شرفتها بانتظار الحبيب ..

وقليلاً قليلاً مع استدراج الجمهور إلى إيقاعات "الفلامنكو" غجرية الأصل اتضح المناخ الذي كانت تحيكه الفرقة لجمهورها .. مناخ عاصف بالحركات والسكنات والصيحات (هولي) ونقرات الكعب بالقدمين وكأنهما قدمان لا تنتميان للفصيلة البشرية، بل لكائنات أخرى هبطت من القمر، أو من المريخ، وفي هذه اللحظة بالذات ربما نسي الجمهور العربي أن أجداده الذين افتتحوا الأندلس شاركوا في صنع هذه الرقصة المجنونة بكل ما فيها من عنفوان وأشواق دفينة وحنين للفطرة الأولى.

أولى منجزات فن "الفلامنكو" أنه يحرر الجسد من قشرة الابتذال، فالجسد ليس مجرد نزوة عابرة ولا شحنة ملذات يتم تفريغها على أية حال، إنه وعبر هذه الرقصة طريقة مثلى لمحاكاة الطبيعة .. تأرجح سنبلة مثقلة بالحبوب، هبوب نسمات الرياح بين الغمام، نقرات هطول المطر على سطح الرخام، تمايل غصن وردة رشيقة، صمود الشجرة أمام العاصفة، العاصفة ذاتها حين تفرغ خشبة المسرح من الهواء وتتقطع الأنفاس وراء الإيقاعات الخاطفة والخافتة قبل ظهورها عبر الجسد لتتجلى رقصاً وطرائق جديدة في الكلام.

فرقة قوامها ثمانية أفراد، عازفا غيتار ومغنيان وراقصتان وراقص بالإضافة إلى المغنية الراقصة ذات الصوت العفوي، حلوا جميعاً على خشبة المسرح واحدهم (أو إحداهن) يساند الآخر بصيحة "هولي" التي تعني التشجيع، وهكذا ودون استئذان عبروا ضفة الأندلس إلى ضفة جمهورهم العربي وغير العربي في القرن الواحد والعشرين، ناقلين إرثاً من الصيحات والنغمات والرقصات التي كانت تدور يوماً ما في قصور الخلفاء وملوك الطوائف، وربما في ساحات القرى وبيوت المزارعين والفلاحين الذين كانوا يجنون البرتقال الأندلسي.

بحيوية وحرفنة وبراعة عبروا وقت العرض، وبمثلها غادروا أرض المسرح، ومن الجدير بالذكر إن رئيس الفرقة دافيد الماغرو موهبة معروفة في رقص الفلامنكو، بدأ حياته المهنية المحترفة سنة 1997 ممثلاً لإسبانيا في أمريكا وقدم عروضاً في شتى قارات العالم، كانت أهم إنجازاته حصوله على جائزة المركز الأول في مهرجان (إل دي لاس ميناس دي لا أونيون) أشهر مهرجانات الفلامنكو في إسبانيا.

أعود لأقول بعيداً عن قراءة كتاب "دون كيخوت" لسرفانتس على أهميته القصوى، وبعيداً عن حكايات "ألف ليلة وليلة" التي أشعلت خيال الأسبان ومن قبلهم العرب .. وعن رفائيل ألبريتي وأنطونيو غالا وبيكاسو وسلفادور دالي وفريدريكو غارسيا لوركا وغيرهم من العباقرة الأسبان .. هل كان للشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا أن يكتب ديوانه "إسبانيا في القلب" دون أن يشاهد ويستمتع بفن الفلامنكو؟ لا أظن!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف