الأمين عن ناصر، السادات ودولة بوليسية أصبحت رخوة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
القاهرة من سعد القرش:رغم لهفة الكاتب المصري المرموق جلال أمين على قراءة سير ذاتية لفلاسفة وأدباء أجانب ومصريين منهم أبوه الاديب المؤرخ أحمد أمين فان سيرته الذاتية جاءت مزيجا بين الذاتي- التلقائي والموضوعي-النقدي وفيها كثير من التلقائية والنقد القاسي أيضا. تبدو التلقائية مثلا في اعترافه لابيه بأنه يفضل على كتابه (حياتي) سيرة عميد الادب العربي طه حسين (الايام) وهو رأي "مراهق سخيف يريد فقط أن يتحدى أباه" كما تبدو القسوة في وصفه دولة الرئيس المصري الاسبق جمال عبد الناصر بالبوليسية الخانقة التي كانت "لصالح النظام وليس لصالح القضايا الوطنية" واعتباره دولة الرئيس السابق أنور السادات رخوة وجزءا من مخطط أمريكي.
وفيما بعد سيعيد الكاتب النظر في أحكامه السابقة ويصاب بالدهشة "من أني لم أكتشف من قبل روعة كتاب أبي (حياتي") كما سيكتشف في منتصف السبعينيات ما يصفه بانجازات عبد الناصر في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية والعربية مقارنة "بخطايا السادات في كل هذه المجالات" اضافة الى أن السادات أصابه بخيبة أمل منذ تحدث عن السلام بعد أيام من حرب أكتوبر تشرين 1973 التي حققت فيها مصر نصرا على اسرائيل بعبور قناة السويس واستعادت شريطا من شبه جزيرة سيناء التي احتلتها اسرائيل ضمن أراض عربية أخرى في حرب يونيو حزيران 1967.
ويصدر يوم الاحد كتاب أمين (72 عاما) وعنوانه (ماذا علمتني الحياة.... سيرة ذاتية) عن (دار الشروق) بالقاهرة ويقع في 398 صفحة كبيرة القطع اضافة الى 30 صفحة أخرى تضم صورا في مراحل عمره المختلفة منذ مطلع شبابه حتى أصبح جدا وصورا لابيه مرتديا الزي الازهري ثم الغربي بعد أن أصبح أستاذا بجامعة فؤاد الاول (القاهرة الآن) منتصف العشرينيات وأخرى لزوجته وأبنائه وأشقائه واحداها مع الشاعر المصري فاروق شوشة وزعيم حزب البعث ميشيل عفلق في زيارته لمصر عام 1955.
ويحظى أمين أستاذ الاقتصاد بالجامعة الامريكية بالقاهرة باحترام كبير بين مثقفي مصر وبخاصة الناصريين الذين يعتبرونه من أنصارهم. وصدر له بالعربية أكثر من 30 كتابا منها (ماذا حدث للمصريين.. تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945-1995) و(محنة الاقتصاد والثقافة في مصر) و( الدولة الرخوة في مصر) و(التنوير الزائف) و(العولمة والتنمية العربية) و(المثقفون العرب واسرائيل).
ورغم اعتراف أمين بأن عمره السياسي بدأ مع ثورة 23 يوليو تموز 1952 -التي أنهى بها ضباط مصريون في مطلع الثلاثينيات من أعمارهم الحكم الملكي للبلاد- فانه يبدو صريحا في وصف العلاقة النفسية المتوترة بينه وبين زعيم تلك الثورة عبد الناصر وهي علاقة متذبذبة صعودا وهبوطا حتى بعد رحيل الاخير عام 1970. فيقول انه أصيب بأول خيبة أمل في الثورة حين عزل رجالها رئيس الجمهورية آنذاك اللواء محمد نجيب في مارس اذار 1954 وكان نجيب محبوبا من الجماهير كما كان بمثابة الاب الروحي للضباط الذين قدروا حماسه الوطني وعدم تردده في أن يكون واجهة للانقلاب العسكري الذي أصبح ثورة بالتفاف الجماهير حول رمزه في حين كان الضباط لايزالون مجهولين للشعب. ويضيف أنه شارك في اعتصام بجامعة القاهرة مع المطالبين بعودة نجيب الذي عاد مؤقتا "بناء على قرار ماكر" لامتصاص غضب الجماهير تمهيدا للتخلص من الرجل.
ويشير الى كراهيته عبد الناصر بقوة لاقتران اسمه بتوجيه الانتقادات لنجيب ولهذا لم يشعر بأي تعاطف معه عند وقوع محاولة الاعتداء عليه في ميدان المنشية بالاسكندرية بعد أشهر عن طريق شاب ينتمي لجماعة الاخوان المسلمين حيث أكمل عبد الناصر خطابه وطالب الجماهير بالثبات وصرخ فيهم "أنا الذي علمتكم العزة والكرامة".
ويعلق قائلا انه رأى في تلك العبارة "ما لا يطاق من الغرور من ناحية واهانة للمصريين من ناحية أخرى. كما أني استبعدت أن تتوافر لاي شخص البديهة الحاضرة لهذه الدرجة بعد اطلاق النار عليه مباشرة الا اذا كان يعرف باطلاق النار مقدما" كما يشير الى أنه كان ينتظر "بفارغ الصبر" أي أغنية جديدة لام كلثوم لكنه أغلق الراديو ولم يطق سماع أغنيتها الجديدة التي كان مطلعها "يا جمال يا مثال الوطنية. أجمل أعيادنا القومية دي نجاتك يوم المنشية".
والقصيدة من تأليف الشاعر البارز بيرم التونسي الذي يعتبره الكاتب حسين أحمد أمين شقيق المؤلف أحد العبقريات المصرية في القرن العشرين. ويقول أمين إن شعوره المعادي لعبد الناصر زاد بعد تعرض غير المؤمنين بالنظام من اليسار أو اليمين للاعتقال لكنه بدأ يتعاطف مع عبد الناصر عام 1955 مع انعقاد مؤتمر باندونج وبروز حركة عدم الانحياز مع زعماء يمثلون العالم الثالث في مقدمتهم نهرو وسوكارنو وتيتو. ثم جاء الإعلان المفاجئ عن تأميم قناة السويس عام 1956 ليحدث التغير الإيجابي الكامل في موقفه من عبد الناصر. لكنه في مراجعته للسياق الدولي في تلك المرحلة التي شهدت إعادة ترتيب أوراق القوى الكبرى عاد إلى القول "إني لا أستبعد أيضا أن فكرة تأميم قناة السويس في 1956 كانت بدورها بتأييد أمريكي بل وربما أيضا بإيعاز أمريكي."
في تلك الفترة كان أمين طالبا في بعثة ببريطانيا للحصول على الدكتوراه من كلية لندن للاقتصاد "وكان الإنجليز لايزالون يذكرون أننا (المصريين) السبب فيما تعرضوا له من إهانة ومذلة خلال الأزمة التي خلقها تأميم عبد الناصر لقناة السويس" والتي اعتبرها مؤرخون نهاية للإمبراطورية البريطانية واختبارا حقيقيا لقوة الإمبراطورية الأمريكية الصاعدة.
لكن أمين الذي يبدي حبا وتقديرا لميشيل عفلق سيغضب مرة أخرة من عبد الناصر بسبب توجيهه "سخرية جارحة" من زعيم البعث. وحين يبوح وهو في لندن بهذا الغضب فإن كلامه ينقل إلى القاهرة عن طريق مبعوث للأجهزة المصرية ويتأكد له كيف "أصبحت مصر دولة بوليسية" وتلازمه التهمة لسنوات لاحقة. ويتناول المؤلف مصائر أفكار وبشر مستشهدا بما حدث له بعد حصوله على الدكتوراه عام 1964 وعودته إلى مصر حيث دعي إلى مقابلة طبيب الأطفال حسين كامل بهاء الدين "المسؤول الخطير" عن منظمة الشباب "التي كان النظام قد أنشأها حديثا لتكوين كوادر ثورية ومؤمنة بأهداف ثورة يوليو" ودار بينهما حديث عن الاشتراكية والرأسمالية في مكتب بهاء الدين بحي جاردن سيتي ثم أوصله بهاء الدين بسيارته إلى بيته بضاحية المعادي بدون أن يتكلم "لسبب لم أفهمه حتى الآن".
ويسجل الكتاب أن بهاء الدين قال لزميل للمؤلف بجامعة عين شمس إنه لا يصلح للعمل معهم لأن له تاريخا وهم يريدون "أشخاصا بلا تاريخ... إن كثيرين ممن استعانوا بهم في تلك الأيام والأيام التالية كانوا من النوع الذي لا يؤمن بشيء على الإطلاق" مشيرا إلى حماسهم للاشتراكية ثم تنديدهم بها في عصر السادات واختيار بعضهم وزراء في عصر الرئيس الحالي حسني مبارك. وتولى بهاء الدين وزارة التربية والتعليم في التسعينيات. ويقول إنه تلقى خبر وفاة عبد الناصر بدون حزن بل "بهدوء شديد" لأسباب كثيرة منها "التراجع المخزي في قضية الديمقراطية والحريات الشخصية" ولم تتغير مشاعره نحوه إلا في منتصف السبعينيات فأصبح مستعدا لأن يغفر له أخطاءه "بدا رجلا محترما للغاية بالمقارنة بخليفته... رأيت حجم التنازلات التي بدأ يقدمها أنور السادات لإسرائيل والولايات المتحدة" مضيفا أن السادات أصابه بخيبة أمل بسبب سياساته بعد حرب أكتوبر 1973 إذ بدا "على نحو لا يقبل الشك وكأنه لا يفعل أكثر من تنفيذ مخطط أمريكي- إسرائيلي" انتهى عام 1979 بمعاهدة منفردة للسلام مع إسرائيل يصفها بأنها "الطامة الكبرى" حيث قرأ نصوصها "البالغة السوء" ولهذا يعتبرها "مهينة للغاية".
ويقول "ليس عجيبا إذن أن كان ابتهاجي شديدا عندما سمعت في السادس من أكتوبر 1981 بمقتل أنور السادات" على أيدي متشددين إسلاميين. ويضيف أنه بعد سنوات من تولى مبارك الحكم "تبين لنا أن نفس أسباب السخط على سياسات السادات استمرت في عهد مبارك." (رويترز)