شوقي بزيع ومعضلة بيجماليون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بيروت من جورج جحا: مجموعة الشاعر اللبناني شوقي بزيع "لا شيء من كل هذا" تشكل قراة ممتعة تسبب في مجملها شعورا بالغصة او كما يقال بالانجليزية شعورا بوجود كتلة خانقة في الحلق. تفيض المجموعة بحزن مصيري شامل بمعنى انه ينتقل من اطاره الشخصي او المحلي ليتحول الى شأن انساني يجد فيه الانسان نفسه امام حصاد الاحلام اليابسة ليصبح تذكّر اخضرارها مؤلما كيابسها او اشدّ. وضمن هذا الحصاد الحزين الذي يتناول وجوه الحياة المختلفة والعمر الهارب يواجه الشاعر الفنان ما واجهه عبر الزمن فنانون اخرون قبله واطلق عليه البعض تعبير معضلة او مشكلة بيجماليون. صدرت مجموعة شوقي بزيع عن "دار الاداب" في 118 صفحة متوسطة القطع اشتملت على 12 قصيدة طويلة.
قصائد المجموعة تبدو اشبه بقصيدة واحدة طويلة تطل علينا باشكال مختلفة لكن لها على اختلافها وجه واحد يصح ان نسميه وجه الحياة نفسها. وقصائدها ككثير من شعر بزيع لا تشكل الواحدة منها على رغم "خصوصية" في موضوعها "انقطاعا" بل تبدو استئنافا لحديث طويل يشبه سيرورة مياه جدول لا يمكننا ان نقسّم مياهه ونفصل بينها وان تراءى لنا اختلافها وفقا لمواقع النظر اليها.
في قصيدة بعنوان "حنين" تجربة مؤثرة تجمع بين رهافة التقاط لحظة شعورية يثيرها حضور فعلي معين قد يتحول هو نفسه الى "متوهم" وبين تصوير هذه اللحظة بايحاء ثم نقل الحالة ككل الى تساؤل فكري نفسي جميل. تتناول القصيدة في بعض نواحيها تجربة او حالة شعورية تدور حول التجربة ذاتها وما يعتريها من "زئبقية" صعبة الالتقاط تضعنا في منزلة تشبه جدلية بين الوهم والواقع.
يقول "في ذلك الركن القصيّ من الكتابة/ حيث افشل في تعقب فكرة/ هربت من الايقاع/ يحدث فجأة/ ان تدخل امرأة الى المقهى/ وتجلس باتجاه البحر/ منعكسا على المراة/ كان جمالها ينحلّ في الصمت/ المحايد بيننا/ كمراكب منهوبة الاحزان/ لم تتجشم التحديق في احد من الجلساء/ لم تلحظ خلو يدي من الكلمات/ بل فتحت كتابا/ كان يرقد في حقيبتها/ وغامت في تضاعيف الكتاب/ في ذلك الركن القصي من الكتابة/ راح يعصف بي حنين جارف/ للقفز فوق وجودي الفاني/ لتمكين المجاز من التطلع نحو مصدره/ وتنقية الجمال من التراب/ متأملا في وجهها/ في اللامبالاة التي تعلو التفاتته الى الاشياء/ كدت ارى مجاراة الظلال لضوئه العاري/ النعاس كما لو انه متنكرا/ في صورة امرأة/ يجرد جسمها الشفاف/ من جريانه تحت الثياب/ لكنني متأخرا ادركت اني لم اكن ارنو الى احد/ فلا امرأة هناك/ سوى ما يستحيل بقوة التحديق/ هيئة ما نحب/ لذا/ وقد امتحنت بدون جدوى/ خيبة الكلمات/ غادرت المكان كعادتي/ في مثل ذاك الوقت/ كي تأتي القصيدة في غيابي."
في قصيدة "الاعمال الكاملة" نسترجع الواقع من خلال الاسطوري في تجربة "بيجماليون". ما الذي نريده.. الفن ام ان نحيا الحياة ونتمتع بها.. ونسترجع عذابه لاستحالة الجمع بين الاثنين. ومع شوقي بزيع نصل الى "الخديعة الكبرى" حيث نستعيض عن الحياة بالعمل الفني. لكن السؤال هو هل كان لنا خيار في الاساس ام اننا نسير دون تردد ثم يبدأ التساؤل وشبه الندم في فترة متأخرة.
يقول "كان لا بد كي يدخل "النهر"/ في الشعر/ ان يفقد النهر/ لا بد لكي يدخل "الحب"/ ان يفقد المرأة المشتهاة.../ ومن حيث لم ينتبه/ كان يبهجه ان يخون المسمى/ لكي يربح الاسم/ او ان يرى في الكتابة/ ما لا يرى/ في تفجر مجرى الحياة/ الحقيقي/ او ان يقايض بالمفردات السقيمة/ فردوس ايامه الزائلة/ هكذا راح يحصي/ محطات تلك الحياة التي خانها/ بالقصائد/ حتى اذا اصبح العمر/ مقبرة من حروف/ تراءى له الموت/ في زي اعماله الكاملة."
في "على باب كلية التربية" في الجامعة اللبنانية حيث درس بزيع بكاء على الايام الافلة. يقول "حينما جئتها زائرا/ بعد اكثر من ثلث قرن/ تراءت على كلسها المتداعي/ ذبالات وجهي البعيد/ واسمال ذاك الجدار/ الذي كان متكأي/ في الزمان..." ويختم القصيدة بشعور بالغربة في مسرح شبابه فيقول "طويلا/ وقفت على باب كلية التربية/ ولكنني لم اجد/ من يشير الى غربتي بالتحية/ او من يشير/ الى حيرتي/ بالبنان."
قصيدة "الخمسون" تصور مفاجأة الوقوف وجها لوجه امام صورتنا الجديدة المحزنة التي اعاد رسمها الزمن. يقول شوقي "الرجل الذي يطل مثل شرفة قديمة/ على سفوح نفسه/ المقيم دائما على التخوم/ بين فورة الحواس واندلاعها/ وبين مخلب السكون/ يجرّ لامباليا سني عمره/ التي تلوح مثل قلعة تهدمت ..."
اضاف "ذلك الذي يراه الان في المراة/ ليس وجهه تماما/ بل قناع ما اضاعه/ من الوعود/ قبل ان تشيخ/ غيران الشهوة التي تلالات/ كالماس في اعماقه/ لما تزل تجيش في اعماقه.../ قد يكون مخطئا اذن/ وقد يكون غيره الذي تشير نحوه/ اصابع الظنون/ لكن ذاك الذي غزاه الشيب/ واعتلته رجفة القنوط/ والذي علت جبينه الخطوط/ من يكون ../ ومن تكون هذه التي تلوح/ مثل بقعة شحيحة السواد/ اسفل العيون ../ لعلها الخمسون."
اما قصيدة "تحت اي السقوف سأغفو اذن.." المهداة الى "قريتي المهدمة" في جنوب لبنان التي زارها بعد غياب طويل فيبدأها بقوله "لم تقدني اليها الخطى/ حين عدت/ ولا امل يائس بالعثور/ على صرخة اقفرت/ او نجوم تشظت/ على ضفتي جنة من دخان/ لم يقدني الهواء الذي لم يزل/ بعد حيا/ ولا حفنة من روائح/ غائرة في جروح المكان/ ولا مشيتي القهقرى/ كي ارى من جديد/ قوافل موتاي/ عائدة كالثمار الى جوف/ اثلامها الام..."
يضيف قائلا عن قريته التي دمرها الاسرائيليون في حرب صيف 1966 " رحت امشي مع العابرين/ ولكن الى اين/ يسأل كهل سماء اشاحت/ بسكانها عنه/ والناس يستنطقون الركام/ الذي كان قريتهم/ قبل شهر وعشرين قبرا/ ولا يبصرون/ سوى قطع من جذوع الحياة/ التي انتصبت فجاة في المكان/ ولا يسمعون/ سوى الحشرجات التي علقوها/ على سفح اعمارهم/ وهي تهرم/ لم تبق كسرة دمع/ لكي يمضغوها مع الخبز/ لم تبق خابية لادخار الحنين/ الى ما سيمضي/ ولا رقعة من قماش/ لتضميد جرح الامل..." (رويترز)