ثقافات

المخطوطات المترجمة: الترجمة ليست فعلاً عفويًا

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كشف علاقات العربية بلغات عدة
المخطوطات المترجمة: الترجمة ليست فعلاً عفويًا
محمد الحمامصي:
كشف مؤتمر مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية والمعنون بـ "المخطوطات المترجمة" عن علاقات قوية بين اللغات التي تمت بينها عملية ترجمة المخطوطات. خاصة تلك اللغات التيشكلت دورًا أساسيًا كمعبر بين الجماعات، كاللغة السريانية التي أعلت الترجمة من شأنها حينًا، ثم كانت الترجمة سببًا في طمسها وانزوائها في أحيان تالية. فالسريانية انتعشت مع نشاط نقلة التراث من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية.. ومن بعد ذلك، انطمست اللغة السريانية لإعلاء "العربية" التي هي لغة الدين والسلطة في منطقة الشام خلال القرون الهجرية الأولى، وفي هذا الإطار كانت هناك بحوث قيمة تناولت تلك العلاقات وفعاليتها، منها بحث د.كمال عرفات نبهان مركز دراسات المعلومات والنصوص العربية الذي قدم تعريفًا إضافيًا بأقدم مشروع بيلوغرافي للترجمة إلى العربية، كاشفًا عن التفكير الإستراتيجي بعيد المدى للترجمة إلى العربية، في هذا العصر المبكر من التاريخ الإسلامي، وما قام به حنين بن اسحاق من دراسة بيلوغرافية لكتب جالينوس.
يقول د. نبهان: في النصف الأول من القرن الثاني الهجري اهتم أحد المثقفين في عصره، وهو علي بن يحيي، بقضية الترجمة، ليس لكتاب بعينه ليثير الاهتمام، بل بالإنتاج العلمي والفكري والفلسفي الكامل لواحد من علماء الثقافة اليونانية، وهو جالينوس. وتوجه بسؤاله إلى حنين بن اسحاق الطبيب والعالم العربي - السرياني الذي كان يجيد اليونانية ويتقمص فكر وعلم وشخصية جالينوس الذي توفي في القرن الثاني الميلادي، وأجاب حنين على سؤال علي بن يحيي برسالة يدل عنوانها على السؤال والجواب، وهو : "رسالة حنين بن اسحاق إلى على بن يحيي فيما ترجم - بعلمه - من كتب جالينوس وما لم يُترجم " .

ويؤكد د. عصام محمد الشنطى من معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، أن موضوع المخطوطات المترجمة يكشف بعض المسائل التي لم يوفها الباحثون حقها من الدرس والتمحيص منها ذيوع وشهرة "بيت الحكمة " الذي سما شأنه في بغداد، في عهد الخليفة المأمون العباسي (توفي 218 ﻫ / 833 م )، وما قدَّم في سبيل الترجمة والنقل من إنجازات ، في الحين الذي نجد تقصيرًا في الكشف عن "مدرسة المترجمين" التي ظهرت في طُلَيْطلة عقب سقوطها في أواخر القرن الخامس الهجري/ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. فهي في حاجة إلى مزيد من البحوث، لبيان نشاطها ومنهجها... ومن هذه المسائل أيضًا تصحيح الاعتقاد بأن الترجمة في المشرق والأندلس كانت تسير رقراقة كالمياه المنسابة، تجري في سهولة ويسر ، لا يعترضها عارض أو مشكل من المشكلات، ومنها اللجوء إلى اللغة الوسيطة في نقل العلوم الإغريقية إلى السُّرْيانية وبالتالي إلى العربية ولا يخفى ما يلحق ذلك من سلبيات تؤدي إلى عدم دقَّة المنقول وغموضه. وثانيها عدم إتقان المترجم إلى اللغة التي ينقل منها، أو الجهل بأساليب اللغة العربية للنقل إليها.
ويتوقف د.عصام عند هاتين المسألتين الأخيرتين لنرى كيف كانت تسير الترجمة ، مع وجود كل هذه العوائق ، وذلك من خلال كتاب " الحيوان " للجاحظ (توفي 255 ﻫ / 869 م) ، الذي أفاد فيه من كتاب "الحيوان " لأرسطو ، ومن ثَمَّ بيان رؤيته في الترجمة الوحيدة آنذاك التي أعتمد عليها ..
يقول د. عصام : نعلم أن أبا زكريا يوحنا (أو يحيى ) بن البطريق ، قد عاصر حركة الترجمة والنقل إلى العربية في عزِّ نشاطها ، وذلك في "بيت الحكمة" في عهد المأمون ، الذي كان مركزاً متخصِّصاً للترجمة والنقل ، في الدرجة الأولى .
وكان ابن البطريق من موالي المأمون وهو سُرْياني نصراني ، يبدو أنه أسلم فيما بعد. وكان له - كطائفة السُرْيان - علاقة مباشرة بالعلوم الإغريقية ، وبالتالي يعرف لغتهم معرفة طيبة . فكان ينقل ما يترجمه من الإغريقية إلى السُرْيانية ، ومن ثَمَّ ينقله إلى العربية .
واتَّصف ابن البطريق - عموماً - بالأمانة في ترجمته ، ولكنه كان ألكن اللسان في العربية وقد اكتسبها بالتعلُّم ، فكان ضعيفاً في أدائها ، يؤدِّي المعاني بها في مشقة وغموض.
ويُذكر أن ابن البطريق هذا قد تخصَّص في ترجمة كتب أرسطو . ومنها كتاب "الحيوان" الذي وجده مترجماً إلى السُرْيانية فنقله إلى العربية . وقد عاب النديم في كتابه "الفهرست " هذه الترجمة ، مما جَعل بعضَ المترجِمين في عصر النديم نفسه (القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي ) يشرعون في ترجمته إلى العربية من جديد . ولمثل هذه الأسباب والعوائق رأينا في تراثنا ظاهرة تعدد الترجمات للكتاب الواحد . ومن جانب آخر ، وجدنا النديم يذكر في غير موضع أن الترجمة من الإغريقية إلى السٌرْيانية كانت أوضح في نقل المعاني ، وأكثرَ صحة مِن ترجمتها للعربية .
ويضيف : الحقّ أن كتاب "الحيوان" لأرسطو من الكتب التي يصعب نقلها إلى العربية . خاصةً في ذلك الزمان . لأن فيه من المصطلحات التي لم تكن قد ذُلِّلت في العربية بعد .
ولا شك في أن ترجمة ابن البطريق هي التي اعتمد عليها الجاحظ ، واقتبس فيها كثيراً من مادّة أرسطو القيّمة ، وأضافه إلى كتابه . ولكنه كان يصحِّح العبارات ويزيل الغموض عنها ، وهو المعروف بفصاحته التي تُحتذى في الكتابة العربية . وبهذا عانى الجاحظ من هذه الترجمة السقيمة ، وبذل جهداً في تطويع الألفاظ ، حريصاً على أن تظل العربية قادرة على أدائها بلغة سليمة ومُبِينَة . والأمثلة في كتابه ، من هذا القبيل ، كثيرة .
ومهما يكن الأمر فإنَّّّّّّّّّّّّّ الجاحظ في غير موضِع من كتابه قد شكَّ في صحة بعض المعارف التي ذكرها أرسطو ، فأرجعها إلى خطأ المترجم . وبهذا استطاع من خلال تجربته هذه التوصُّل إلى رؤية ثاقبة في الترجمة والمترجمين . ووضع شروطاً لهذا العمل وقواعد أساسية ينبغي توافرها فيهم .

العربية والسريانية
وحول جذور العلاقة بين اللغتين العربية والسريانية كان د.احمد اِرْحَيِّم هِبّو من جامعة حلب، حيث يرى أن اللغتين تنتميان إلى مجموعة لغوية واحدة، هي "اللغات السامية"، تشتمل على عدد من اللغات التي تتوزع في بلاد الشام وبلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية. أما العربية فهي لغة القبائل العربية الشمالية، وبها نزل القرآن الكريم. وكان العرب الشماليون يعيشون قبل الفتوحات الإسلامية على هامش التاريخ. بينما كان السريان الذين يتكلمون اللغة السريانية، وهي فرع من اللغة الآرامية، بل أهم اللهجات الآرامية الأم لوفرة ماكُتب بها من علوم، كانوا في قلب الأمم المتحضرة، وعندما تنصّروا وجدوا الباعث على الانفتاح والترجمة من اللغات المجاورة ولا سيما اليونانية والفارسية. وتتميز اللغة السريانية عن الآرامية في بعض من قواعدها النحوية والصرفية، ولها شخصيتها الخاصة.
ويشير د. هبّو إلي أن احتكاك العرب بالسريان يعود إلى ما قبل الإسلام، إذ كان بعض القبائل يجوب منطقة الهلال الخصيب، واستوطن بعضهم في العراق وسورية، وازداد التلاحم بقيام دويلات لهم مثل الحضر، وتدمر، والبتراء، ثم دولتي المناذرة والغساسنة. فكان عرب تلك المناطق تحت تأثير اللغة الآرامية- السريانية التي كانت لها السيادة آنذاك. فكتبوا بها وتكلموها لأنها كانت لغة التعامل التجاري أيضاً. كما كان للسريان حاضرة ثقافية، وعاصمة لدولة محلية تدعى أُورْهايْ، وسماها العرب الرّها، واليونان إديسّـا في شمالي سورية (أورفة التركية اليوم)، حكمتها أسرة عربية منذ عام (125) ق.م حمل معظم أفرادها اسم أَبْجَر. وتذكر المصادر أن نهر ديصان فاض عام (201)م في عهد أبجر التاسع. وقامت للسريان مدارس للعلوم المختلفة، وازداد تألقها بعد قيام الدولة العباسية وكذلك نشّطت حركة الترجمة اللغة السريانية.
ويؤكد د. هِبّو أن تأثير السريانية في العربية تبدي في : أولاً دخول ألفاظ سريانية في اللغة العربية، وتوسط السريانية في دخول ألفاظ فارسية ويونانية (ولاتينية) إلى اللغة العربية بعد أن صاغتها صوغًا يلائم العربية وأصواتها. فتأتّى عن ذلك تطوير صيغ وأبنية اسمية وفعلية عدة، وتطور دلالي للألفاظ العربية، وابتداع مصطلحات علمية لم يعرفها العرب من قبل.
وثانيًا نشأة الكتابة العربية بظهور الخط الكوفي الذي يعد صورة واضحة للخط السرياني الاسطرنجيلي، والتأثر بنظام كتابة الحركات.
وثالثًا: ترجمة أمهات الكتب اليونانية في الفلسفة والطب والفلك والرياضيات والهندسة (علم الحِيَل) والفِلاحة.. وكذلك الأعمال الأدبية من الفارسية.
ويضيف د. هبّو : لكن ما لبثت أن انعكست الآية وبدأت السريانية تتأثر بالعربية في مجال النحو والشعر واللغة بعامة وغدت متلقية بعد أن كانت المعطية، فانكفأت السريانية على نفسها وخمدت جذوتها، ولكن
منزلتها من العربية لم تتغير، ويؤكد ذلك ماروي عن زيد بن ثابت أن الرسولأشار عليهبتعلم السريانية.

قصـة أحيقـار
ويرصد بحث (الترجمـات المبـكرة للآداب القديمـة .. قصـة أحيقـار نموذجـاً) للدكتور هزار إبرام من جامعة حلب لنص أحيقار(كاتب وزير, ومستشار الملك الآشوري سنحريب 705- 681 ق.م) الذي يعد أهم عمل يمثل الحكمة في العهد الآشوري معروف حتى الآن باللغة الآرامية القديمة. وقد شغل هذا النص اهتمام الباحثين والمستشرقين، فتُرجم إلى لغات مختلفة كالألمانية والإنكليزية والفرنسية، وغيرها من اللغات الحية.. ويتحدث النص عن قصة أحيقار والذي تقدم في السن، ولم يكن له ولد يرثه، فعزم على تبني ابن أخته "نادان" ووضع آماله فيه وبالغ في تربيته وتعليمه الحكمة كي يكون خلفاً له في خدمة "سنحريب" لكن" نادان" افترى عليه, وخانه وحَاكَ مؤامرة ضده فحكم على أحيقار بالإعدام, ولكن حسن أفعاله أنقذه من الموت ورد له اعتباره ولقي "نادان" عقابه،ومات في النهاية بعد أن وبّخه أحيقار وعاتبه لنكرانه الجميل مضمناً عتابه حكماً وأمثالاً تداولها الناس على مرّ الزمن.
وتأتي أهمية نص أحيقار كونه من أحد نصوص الأدب العراقي القديم التي كان لها الفضل الكبير في فهم حضارة وادي الرافدين وأوجهها المختلفة والطابع المميز لها, والتي تعد عند الباحثين منجماً زاخراً يستقون منه أسسس هذه الحضارة واتجاهاتها وعقائدها, فهي أصدق ما ينقل لنا أحوال أقدم المجتمعات الإنسانية وعقائده ونظرته إلى أصل الأشياء والآلهة ونظام الحكم , كما تصور لنا أحوال البيئة البشرية والطبيعة التي نمت فيها تلك الحضارة.
يقول د. هزار عن زمن اكتشاف نص قصة أحيقار : اكتشف النص على أوراق البردي بيد البعثة الأثرية في جزيرة الفيلة بمصر سنة ( 1906- 1907 ) من قبل " أو.روبنسون" ضمن وثائق أخرى خلفتها جالية يهودية كانت تسكن هذه الجزيرة حوالي القرن الخامس ق.م ويتألف النص من إحدى عشرة صفحة, الصفحات الأربعة الأولى تقع في خمسة أعمدة, وتتضمن قصة أحيقار, و الصفحات الباقية تقع في تسعة أعمدة وتتضمن أقوال أحيقار "التعاليم".
أمّا زمن تدوين النص فلا يزال موضع البحث, فيرى البعض أنه يعود إلى حوالي القرن الخامس ق.م, ويرى آخرون ومنهم
Kottsieper أن تاريخ النص يعود إلى النصف الثاني من القرن السابع ق.م, أو إلى النصف الأول إلى القرن السادس ق.م استناداً إلى دراسة لغة النص الآرامية وتطورها.
أما المخطوطات الآرامية المعروفة, فتتضمن اختلافات كثيرة, إذ جاءت في مخطوطات متعددة يوجد بعضها في خزانة كمبرج تحن رقم (2020) وغيرها في برلين تحت رقم (ساخو 336- 134), وفقرة أخرى تحت رقم( ساخو 162) , وكذلك يوجد صحيفة في المتحف البريطاني تحت رقم (6200), ومخطوطة مخرومة في بدايتها ونهايتها في المتحف البريطاني رقم (2313), وأخرى في دير السيدة بالقرب من" قرية قرة قوش " تحت رقم (100) , وهناك أيضاً ثلاث مخطوطات محفوظة في " أروميا".
ويشير د. هزار : كان لهذه الحكم والأمثال أثر كبير في كتب آداب الحكمة العالمية وفي كتاب العهد القديم, فقد أثرت في الفكر اليوناني, إذ انتقلت قصة أحيقار إلى اليونان عن طريق الفيلسوف اليوناني " ديموقريطس الأبديري". كما نلحظ أثر حكمة أحيقار أيضاً عند "إيسوب" اليوناني كاتب الأساطير اليونانية القديمة كما نجد ربما أثر هذه القصة من حيث الأسلوب والشكل القصصي في قصة"سنوحي المصري" أحد رجال البلاط الملكي المصري في عهد الملك "أمنمحات الأول . كما انتقلت قصة أحيقار إلى الأرمن الذين كتبوها بلغتهم, وقد عثر على قسم من مخطوطها بعنوان (أسئلة أبناء الملك وإجابات شيقار ).كما أثرت أيضًا في الفكر الروماني بدلالة قطعة الفسيفساء التي عثر عليها على ضفة نهر الرين، وقد ظهر عليها كبار الحكماء، تحيط بهم ربات الإلهام والشعر ومن بينهم رسم أحيقار واسمه أكيكار. وصلت أيضًا القصة إلى الأدب الفارسي فراحت شهرزاد تروي للملك شهريار قصة أحيقار في حديث إضافي أحيت به ليلته الثانية بعد الألف. وقد وصلت أيضاً إلى الأحباش محافظة على اسم حيقار، وأدخلت منها خمس عشرة مجموعة حكمية بعنوان " كتاب الفلاسفة الحكماء.
أما أثرها عند العرب, فقد وصلت إليهم حكم أحيقار منذ العصر الجاهلي حيث ذكر اسم أحيقار "عدي بن زيد الحيري العبادي "في مطلع القرن/7 / م , رمزًا لصروف الدهر وزوال النعمة، فقال :
عصفن على الحيقار وسط جنوده وبّيتن في لذاتـه ربّ مـارد
وقد ردّد البحتري (820 -897 )هذه الأبيات في كتابه" الحماسة" واستشهد الجواليقي (1135) م، بآخر بيت منها، في كتابه "المعرب " محلقًا، ومحرفًا، على هذا النحو، قائلاً: "والحيقار ملك من ملوك فارس " . كما دوّن الثعالبي (1036) م في كتابه " قصص الأنبياء", والدميري (1344-1405) م في كتابه "حياة الحيوان الكبرى "عددًا من أقوال أحيقار ونصائحه ونسباها إلى لقمان الحكيم.
وأثرت قصة أحيقار في الوسط العبري كما في كتاب العهد القديم سفر (أيوب - المزامير- الأمثال- الجامعة) وكذلك في سفري (ابن سراخ - وطوبيا), كما أثرت أيضاً في كتاب العهد الجديد (لوقا 13: 6- 9), (متّى24: 48- 51).
ويضيف د. هزار عن تأثر حكمة أحيقار بآداب الحكمة القديمة: لقد جمعت حكمة أحيقار بين مطاويها عصارة الفكر الأخلاقي القديم الذي أنشأه العراقيون القدماء في عهد السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين. وإننا نلمح تأثره_ في النص الآرامي القديم _ فكريًا وروحيًا بشكل خاص بحكماء من العهدين السومري والأكادي، إذ تأثر أحيقار بـ" شورباك" الذي أطلق حكمته وتعاليمه لابنه " زيوسدرا" _بطل الطوفان السومري _ حكمة استمد أحيقار الكثير من معانيها. فكلاهما بدأ مطلع حكمتهما بعبارة "يابني" التي جرت على ألسنة جميع كتاب الحكمة في الشرق القديم . وهناك حكيم ثان عرف في المدونات القديمة بـ"المعذب" ومجازاً عرف باسم "أيوب السومري" وحكيم آخر من العهد البابلي يدعى بـ"أيوب البابلي"، الذي يمكن تسميته بالفيلسوف المتألم وله قصيدة تسمى (العدل الإلهي).
وأخيراً لا بدّ لنا من القول : أنه لا يمكن الجزم بأن هذا النص هو الوحيد الذي خلفه لنا أحيقار, فهناك الكثير من النصوص المخبأة بين الكنوز غير المكتشفة بعد فمن يدري عدد نصوص حكم أحيقار ! إذ ومن مكانته العظيمة في عصره كحكيم ومستشار لأشهر الملوك الآشوريين " سنحريب ", لابد وأن مكنته من كتابة الكثير من الحكم والعديد من النصوص التي لم تكتشف بعد.

لا براءة في الترجمة


ويطرح بحث د. رشيد بنحدو (لا براءة في الترجمة الترجمة من منظور جمالية التلقي) عددا من التساؤلات المهمة منها : هل الصدفة أو الضرورة هي ما يتحكم في ترجمة النصوص التراثية من لغة إلى أخرى؟ ما مدى ارتباط هذه الترجمة بالسلطة الدوكسولوجية السائدة في بعديها الثقافي والسياسي خاصة؟ لماذا لا تتم أحيانا ترجمة نصوص بعينها إلا بعد مرور سنوات، بل قرون، على تأليفها؟ لماذا تحظى بعض النصوص بعدة ترجمات في نفس اللغة وتظل نصوص أخرى غير مترجمة على الرغم من أهميتها المفترضة بالنسبة إلى الثقافة المستقبلية؟ ما مدى إسهام الترجمة في إحداث قطائع إبستمولوجية في الأنساق الفكرية للثقافة المستقبلة؟
يقول د.رشيد : بالاستناد إلى الهيرمينوطيقا الألمانية عامة، وإلى جمالية التلقي خاصة، أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، متوسلا بثلاثة مفاهيم أساس، مستعارة من
Gadamer و من Jauss، هي: "الحلقة التأويلية" و "أفق التوقع" و"التمرس الجمالي".
ويضيف : الغاية هي إثبات هذه الفرضية المحورية: "لا براءة في الترجمة". فليست الترجمة أبدا فعلا عفويا ولا مرصودا لذاته. فثمة دائما عوامل، جلية تارة وخفية تارة أخرى، تحرض على نقل نص تراثي من لغة إلى أخرى، مثلما أن هناك دائما رهانات تسعى الترجمة إلى كسبها.
فليست اعتباطا مثلا ترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسية مرات عديدة. وليست عبثا كذلك ترجمة حكايات ألف ليلة وليلة أكثر من مرة إلى نفس هذه اللغة. وبالمقابل، ليست ترفا فكريا ترجمة الفلسفية الغربية إلى اللغة العربية، بدء من الفلسفة اليونانية وانتهاء بالفلسفة الوجودية. إنها دائما وبالأحرى استجابة لحاجة ما ينبغي تحديدها، وارتهان بشروط ما ينبغي البحث عنها.

واستعرض بحث د.أيمن فؤاد سيِّد (الترجمة العربية لتاريخ العالم لباولوس أوروسيوس ) يقول : هذا الكتاب الذي عُرِف عند العلماء العرب باسم "كتاب هروشيوس" ويعد من أوائل النصوص اللاتينية التي نُقِلَت إلى العربية ، فقد عهدنا دائماً أنَّ أكثر الكتب التي نقلها العرب أو غيرهم من المترجمين ، كانت عن أصول يونانية والقليل منها عن اللغات الفارسية والسُّرْيانية والهندية ، ولكننا لم نَظْفَر إلا قليلاً جداً بنصوص عربية تُرْجمت عن اللغة اللاتينية لَعلّ كتاب هوروشيوس من أوائلها إنْ لم يكن أوَّلها على الإطلاق .


وهذا الكتاب ألَّفه باللاتينية المؤرِّخ الأسباني باولوس أوروسيوس Paulus Orosius ، الذي عاش في القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد . حيث كلَّفه القديس أوغسطين بكتابة مختصر للتاريخ العام للإنسانية منذ البداية وحتى سنة 416م يُبَيِّن فيه للوثنيين أنَّ ما أصاب روما والإمبراطورية على الأخَصّ من كوارث ليس بسبب المسيحية بل أمر إنساني عام حدث على مدى تاريخ الإنسان . ولقي هذا "التاريخ" وعنوانه Historiae Adversus Paganos انتشاراً واسعاً في أوروبا في العصر الوسيط حتى أنَّ ما وصل إلينا منه يبلغ مائتي نسخة لاتينية .


والترجمة العربية لهذا الكتاب تَمَّت في الأندلس في عهد الخليفة الأموي الحَكَم المُسْتَنْصِر .وكانت هذه الترجمة مصدرًا مهمًا أفاد فيه ابن جُلْجُل الأندلسي وابن خَلْدون والمَقريزي ، وتوجد لهذه الترجمة العربية نُسْخَةٌ وحيدةٌ محفوظةٌ بمكتبة كولومبيا بنيويورك برقم
X893,712 .

الرسائل الديوانية الفارسية


وعن الأثر العربي في الرسائل الديوانية الفارسية إبّان القرن السادس الهجري مع ترجمة بعض الرسائل الفارسية تحدث د.مجدي عجمية حيث كشف عددا من النقاط الهامة ، يقول : عُرف هذا اللون النثري ، الرسائل الديوانية ، عند الفرس منذ العصر الساساني قبل الإسلام وكان يُراعي في تأليف هذه الرسائل آداب خاصة وأصول وحدود معينة وجب على الكاتب الالتزام بها من حيث استعمال العناوين والألقاب لكل طبقة من طبقات المجتمع ، وكل فئة من الأمراء والوزراء والقادة وكبار الشخصيات والملوك والسلاطين ومن أجل ذلك ألفت الكتب الخاصة بأصول وآداب كتابة الرسائل . ولم يصل إلينا من هذه المؤلفات شيء إلا في القرن السادس الهجري ، ففي أواسط هذا القرن ألف نظامي عروضي السمرقندي أقدم بحث فارسي في هذا المجال في مقالته الأولى من كتابه "ﭼهار مقاله " حيث خصص باباً عن ماهية الكاتب وعرض فيها الآداب العامة والسمات الخاصة التي يجب توافرها في الكاتب الكامل وجميع الأمور المتعلقة به .
وفي النصف الثاني من القرن السادس الهجري ألف معين الدين محمد بن عبد الخالق المهيني أقدم كتاب يتناول هذا لموضوع ويعرف باسم "دستور دبيري " ووجدت نسخة منه في مكتبة الفاتح باستنبول مؤرخة بتاريخ سنة 585ﻫ ، وطبعة حديثة في سنة 1962م اهتم بإعدادها ونشرها "آقاى عدنان صادق ارزى" في أنقره .
وقد استعرض البحث الرسائل الديوانية الفارسية لأبرز الكتاب الإيرانيين خلال هذا العصر مثل منتجب الدين بديع الجويني ، ورشيد الدين الوطواط ، وبهاء الدين البغدادي ، ووضّح من خلال ترجمته لنماذج منها ودراسته التحليلية الأثر العربي في كتابتها من حيث الألفاظ والأساليب والقواعد اللغوية .

العرب والروس
وحول دور الترجمة والاستعراب في التواصل الحضاري بين العرب والروس يقول د. محمود الحمزة (معهد (فافيلوف) تاريخ العلوم والتقانة التابع لأكاديمية العلوم الروسية بموسكو) : يعود تاريخ العلاقات الثقافية بين روسيا والعرب إلى عدة قرون. لكن التواصل الحضاري قديم جداً ويعود إلى القرن العاشر للميلاد مع رحلة أحمد بن فضلان الشهيرة إلى منطقة البولغار بناء على طلب ملك الصقالبة من الخليفة المقتدر بالله لتعليمهم الدين.
وقدأدت الترجمة من العربية إلى الروسية دورًا فعالاً في نشر الثقافة العربية الإسلامية في روسيا وانعكس ذلك بشكل خاص في مجال الأدب والشعر وفي الفلسفة والعلوم الأخرى.
ومعروفة قصائد شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين "قبسات من القرآن" وغيرها من الأشعار التي يظهر فيها التأثر البالغ للشاعر بأفكار الإسلام وبشخصية النبي محمد (ص) التي تدعو للحرية وللعدالة والمساواة ومقاومة الظلم.
وسلط البحث الضوء على جوانب من مسيرة التواصل الثقافي بين العرب وروسيا عبر القرون ، وأشار إلى الدور الهام للجغرافيين والرحالة والمؤرخين العرب من القرن 9-10 للميلاد ( مثل أحمد ابن فضلان وابن حوقل والمسعودي ) الذين كتبوا عن تاريخ الشعوب ومنهم الروس في مناطق حوض نهر الفولغا وما وراء القفقاس وآسيا الوسطى.
كما أن أوائل المؤلفات الفلسفية التي تعرف من خلالها قراء الروسية على الفلسفة عامة, كانت الأعمال المترجمة من العربية.
إن عملية تبلور الأفكار العلمية في روسيا الموسكوفية, جرت ليس على أساس التقاليد العلمية اليونانية والبيزنطية فحسب وإنما لعبت هنا دوراً بارزاً التقاليد العلمية العربية.
وكان للعلماء الروس والسوفييت نصيباً وفيراً وإسهاما متميزاً في دراسة الثقافة والعلم العربيين وبما فيهم المستعربين والمتخصصين في بعض المجالات العلمية الدقيقة.
وتجسد اهتمام الروس بالثقافة العربية في عدة اتجاهات منها:
نشر تعليم اللغة العربية من خلال إنشاء مراكز وأقسام علمية في الجامعات الروسية مثل جامعة قازان وبطرسبورغ وموسكو وغيرها.
ترجمة ودراسة المخطوطات العربية في الرياضيات والفلسفة والفلك والفيزياء والطب وإصدار الفهارس والموسوعات في العلوم العربية والإسلامية. كما صدرت ترجمات عديدة للقرآن الكريم.
تأسست مدرسة الاستعراب الروسي على يد الأكاديمي كراتشكوفسكي وهو أكبر مستعرب روسي وهناك المئات من المستعربين المعروفين الذين ترجموا ودرسوا ونشروا الثقافة العربية في المجتمع الروسي وتعاملوا معها بكل الحب والاحترام والموضوعية.
كما قام بدور مهم في التواصل الثقافي العربي-الروسي اهتمام روسيًا المسيحية بمهد المسيحية بلاد الشام وخاصة فلسطين وسوريا، حيث قامت روسيا القيصرية بفتح مدارس دينية للعرب باللغة الروسية في لبنان وفلسطين وسوريا ومن الذين تعلموا في هذه المدارس الكاتب الكبير ميخائيل نعيمة.
وقد انتشرت الثقافة العربية والإسلامية في روسيا بفضل العلماء العرب الذين قدموا إلى روسيا منذ القرن التاسع عشر ووهبوا أنفسهم لمساعدة الروس في تعلم اللغة العربية وسماع النطق العربي من الناطقين بها ومنهم نذكر الشيخ المصري عياد الطنطاوي وأحمد حسين المكي ومحمد عطايا ومرقص وكلثوم عودة-فاسيليفا وغيرهم الكثير.
ولا ننسى أن المكتبات الكبرى في قازان وبطرسبورغ وموسكو وداغستان وفي طشقند وبخارى وغيرها من المدن الروسية والسوفييتية (سابقًا) تحتوي على مئات الآلاف من المخطوطات العربية المتنوعة ومنها ما هو نادر.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف