ثقافات

أوكتافيو باث: الشعر والتاريخ

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

بقلم أوكتافيو باث

ترجمة عبدالقادر الجنابي

كل قصيدة هي محاولة للمصالحة بين الشعر والتاريخ لصالح الشعر. ذلك أنّ الشاعر، حتّى عندما يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه وعندما يشارك في ما يسمّى "مجرى العصر" - هذه الحالة المتطرفة التي بات تصورها في عداد المستحيل - ينشد، دوماً، التملّص من طغيان التاريخ. إنّ جلّ المحاولات الشعرية الكبرى - من القول السحري والقصيدة الملحمية إلى القصيدة الآلية -تدعو إلى جعل القصيدة بوتقة ينصهر فيها التاريخ بالشعر، الواقعة بالأسطورة، الأساليب العامية بالتصويرية، التأريخ date الذي لا يمكن أن يُكرر، بالاحتفالية التي هي التأريخ الحي المنوح بخصب سري دائم العودة من أجل تدشين حقبة جديدة. إن طبيعة قصيدة ما مشابهة لطبيعة عيد هو، علاوة على كونه تأريخاً في الروزنامة، قطع في سياق الزمن وانبثاق حاضر يعود دورياً بلا ماض أو غد. كل قصيدة عيد: تقطّرٌ في زمن محض.
إنّ العلاقة بين البشر والتاريخ هي علاقة تبعية وعبودية. فإذا كنّا نحن شخصيات التاريخ الوحيدين، فنحن أيضاً مادته الخام وضحاياه؛ فالتاريخ لا يتحقق إلاّ على حسابنا. الشعر يغيّر هذه العلاقة تغييراً جذرياً؛ فهو يتحقق على حساب التاريخ. ذلك أن كل نتاجاته - البطل، القاتل، العاشق، القصة الرمزية، النقش المقطعي، اللازمة، القَسم، الاستغراب التلقائي على شفاه طفل أثناء اللعب، على محيا محكوم بالإعدام، على فتاة تمارس الجنس للمرة الأولى، فقرةٌ تحملها الريح، خرقة صراخ - كل هذه، مع التعابير المهجورة والمحدثة والاقتباسات، لن تستسلم للموت أو إلى أن تُضرب عرض الحائط. ,إنّما جميعها مصممة على بلوغ غايتها، على الحياة أقصى ما يمكن. إنّها تخلّص نفسها من العلّة والمعلول، منتظرة القصيدة التي ستنقذها وتجعلها تصير ما هيّ. لا يمكن أن يوجد شعرٌ من دون التاريخ، غير أن للشعر مهمة واحدة: أن يحوّل (طبيعة) التاريخ. لذلك أن الشعر الثوري الوحيد هو شعرٌ قياميّ الرؤيا.
الشعرُ جُبلَ من عين جوهر التاريخ والمجتمع- اللغة. على أنّه يسعى إلى خلق لغة منسجمة مع قوانين غير القوانين التي تسود المحادثة والخطاب المنطقي. والتحوّل الشعري هذا لا يتمّ إلاّ في قرار اللغة. ذلك أنّ الفقرة - وليس الكلمة المنفردة- هي الخلية، عنصر اللغة الطبيعي. كلمةٌ لا يمكن أن توجد من دون كلمات أخرى، فقرة من دون فقرات أخرى.
أي أنّ كل جملة تنطوي على إشارة ضمنية إلى أخرى، وهي قابلة للتفسير بجملة أخرى. كلُّ فقرة تنشئ "رغبة بقول" شيء ما، تشيرُ على نحو بيّن إلى شيء ما وراءها. اللغة هي مؤتلف رموز متحركة ومتبادلة، كل رمز يظهر "نَحْوَ" ما يجري. وبهذه الطريقة أن كلا المعنى والإيصال قاعدته هو "قصدية" الكلمات. غير أنّ ما كاد الشعر يلمس الكلمات حتّى تتغير إلى وحدات إيقاعية، إلى صور؛ تقف بمفردها مكتفية بنفسها. وإذا تفقد الكلمات حركتها؛ هنالك عدة طرق في النثر لقول شيء ما، في الشعر ثمة طريقة واحدة. الكلمة الشعرية ليس لها معوّض. إنّها ليست "رغبة لقول شيء ما"، وإنّما هي شيء قيلَ بنحو لا رجوع فيه. أو، تخيُّيراً بين أمرين، إنّها ليست "المضي نحو" شيء، ولا "تفوّهاً" بهذا أو ذاك. الشاعر لا يتكلّم عن الرعب أو عن الحب: إنّه يعرضهما. إنّ كلمات الشعر، التي يتعذّر تغييرها أو استبدالها، تغدو صعبة التفسير إلاّ بمفرداتها هي. فمعانيها لا تعلوا عليها، وإنّما هي في ثناياها؛ فالصورة في صلب المعنى.
إنّ الوظيفة الأصلية للصورة الشعرية هي تحويل حقائق تتراءى لنا وكأنّها متعذرة التحويل ومتنافرة، إلى وحدة منسجمة. وعملية التحويل هذه تتم دون أن تزيح، أو أن تضحي بالتناقضات أو التنافرات القائمة بين الكيانات التي تستحضرها وتعيد ابتكارها. لهذا السبب أنّ الصورة الشعرية لا يمكن أن تُفسَّر بالمعنى الدقيق للمصطلح. وها أنّ اللغة الشعرية تنمّ عن اللَبس الذي يكشف فيه الواقع عن نفسه لنا. وفي تحويل طبيعة اللغة، لا تفتح الصورة البابَ للواقع فحسب، بل أيضاً، كما كانت، تعرّي الواقع وترينا إيّاه في وَحدته النهائية. الفقرة تغدو صورة. القصيدة صورة واحدة، كوكبة صور لا تتجزأ. إنّ الفراغ الذي تركه اختفاء ما يسمّى بالواقع ها هو مأهول بحشد من الرؤى المتنازعة والمتغايرة الخواص، لا محيد عن نشدانها تحويل تنافرها إلى نظام شمسي من الإلماعات - القصيدة؛ كونٍ من الكلمات الكمداء القابلة للإفساد ومع ذلك يمكنها أن تؤرث وتحرق متى كانت هنالك شفاه تمسّها. ففي بعض الأحيان، تغدو مطحنة الجُمل، في أفواه بعض المتكلمين، مصدرَ أدلّة لا تحتاج إلى برهان. وعندها نكون قد انتقلنا إلى ملء الزمن. فالشاعر، باستخدام اللغة من الأعماق، يتجاوزها. فهو، بإعطاء التاريخ أهمية خاصة، يعرّي التاريخ ويُظهره على ما هو عليه - زمن.
فما إن يسمح لنا التاريخ أن نشكّ بأنّه ليس أكثر من قافلة أشباح، بلا معنى ومن دون غاية، حتّى يصير لُبس اللغة ملموساً أكثرَ، مما يحول دون أي حوار أصيل. فالكلمات تفقد معناها، وبالتالي قدرتها على الإيصال. إنّ اختزال التاريخ إلى مجرد سلسلة أحداث، يتضمّن أيضاً، على اختزال اللغة إلى مجرد خليط من الرموز البلا حياة. كل الناس يستخدمون الكلمات نفسها، غير أنّه ما من أحد يفهم الآخر. إذن، مِن العقم أن يحاول الناس "الوصول إلى اتفاق" على معاني الكلمات. فاللغة ليست مواضعات، وإنّما هي بعدٌ لا يمكن للإنسان الانفصال عنه. كل مغامرة لفظية هي مغامرة شاملة؛ فالإنسان يراهن بكل نفسه وحياته على كلمة واحدة. ذلك أنّ الشاعر إنسان توحّدَ كيانُه مع كلماته. فهو وحده قادرٌ على إحداث حوار جديد. إنّ قدرة الشاعر، خاصة في حقبة كحقبتنا هذه، هو "إعطاء كلمات القبيلة معنى أنقى"*. وهذا يتضمن استخراج الكلمات من اللغة المستعملة وإنشاءها نشأة جديدة في قصيدة. إنّ ما يسمّى بانغلاق الشعر الحديث ينجم عن هذه الحقيقة. على أنّ الكلمات غير قابلة للانفصال عن البشر. وبالتالي فإنّ النشاط الشعري لا يقوم خارج الشاعر، في الموضوع السحري التي تمثله القصيدة؛ وإنّما بأخذه الإنسان كمركز التجربة. فالتعارضات تُصهر في الإنسان نفسه، لا في القصيدة فحسب. لا يمكن فصل واحد عن الآخر. قصائد رامبو هي رامبو نفسه، المراهق الذي يتبارز بعبارات التجديف المتألقة، رغم كل المحاولات التي تحوّله إلى نوع من الوحي الذي نزلت عليه الكلمة. كلا الشاعر وكلمته واحد. هكذا كان مأثور شعراء حضارتنا الكبار، خلال المائة سنة الماضية. ولم يكن فحوى آخر حركات القرن العشرين الكبرى، السوريالية، مختلفاً عن هذا. إنّ عظمة هذه المحاولات - التي لا يمكن لأي شاعر جدير بالاسم أن يكون غير مبال بها - تكمن في مسعاها إلى تدمير، مرّة وإلى الأبد، وفي حدّة اليأس، الثنائيةَ التي تمزقنا أرباً. الشعر قفزة في المجهول، وإلاّ فهو لا شيء.
قد تبدو الإشارة إلى مطاليب الشعر المغالية، في الظروف الراهنة، مسخرةً. لكن هيمنة التاريخ لم تكن من قبل شديدة كما هي اليوم، ولا ضغط "الأحداث" كان خانقاً إلى هذا الحد. وبقدر ما يُصبح طغيان "مالعمل المقبل" أمراً لا يطاق - منذ أنّ موافقتنا على القيام به لم تُطلب، وغالباً ما يُوجَّه صوب تدمير الإنسان - يُصبح النشاط الشعري، هو أيضاً، أكثر سريةً وعزلة وندرة. في الأمس فحسب، كانت كتابة قصيدة ما، أو الوقوع في الحب نشاطاً تخريبياً. أما اليوم، فإن مفهوم النظام عينه قد أختفى، وأحتل مكانه خليطٌ من القوى، الجماهير، والصمودات. فالواقع قد طرح أقنعته جانباً وبات المجتمع المعاصر يُرى على حاله، كما هو: مجموعة متغايرة الخواص لأشياء "متجانسة" بالسوط أو بالدعاية، تديرها تجمعات لا يمكن تمييز واحدة عن الأخرى إلاّ بدرجة الوحشية فقط. في ظروف كهذه، الإبداع الشعري يتخبأ. فإذا القصيدة هي عيد، فإنّها تُعتبر عيداً في غير مناسبة، في أماكن قليلة الارتياد - مهرجاناً تحت الأرض.
غير أن النشاط الشعري يعيد اكتشاف كلّ قواه التخريبية القديمة بواسطة هذه السرية عينها، المجبولة بالأيروسية والغموضية الباطنة، تحدد لتحريم لا يعني أنه غير مدان لأنه لم يكن مصوغاً بنحو واضح. ذلك أن الشعر الذي أحتاج في الأمس إلى تنفس الهواء الطلق للمشاركة الكونية، يستمر على أن يكون عملية طرد للأرواح الشريرة حفاظاً علينا من شعوذة القوى والأرقام. قيل أنّ الشعر هو إحدى الوسائل التي بواسطتها يمكن للإنسان الحديث أن يقول "لا" إلى كل تلك السلطات التي لا ترتضي بتنظيم حياتنا فقط، وإنّما تريد أيضاً أن تتحكم بضمائرنا. على أنّ النفي هذا يحمل في ثناياه "نعم" التي هي أعظم منه.

* بالفرنسية في النص، وهو بيت شهير مأخوذ من قصيدة ستيفان مالارميه: "قبر إدغار ألان بو

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف