المرأة السعودية التي نريد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
علي سعد الموسى
قال لي ونحن نستمع (إليها) تلقي كلمة الفائزين من القاعة النسائية المجاورة: ما الذي كان يمنع ـ ابنة البلد ـ المتميزة من أن تلقي كلمتها من قاعتنا أمام الجمهور وأن تتقدم بنفسها لاستلام جائزة التفوق من يدي سمو الأمير؟ قلت له: إن هذه (التحويلة) الجدلية هي ما أفرغ نقاشنا من مضمونه الأساس لأن قصة احتفال اليوم تكمن في فوز باحثتين سعوديتين بجائزة المراعي للإبداع العلمي، وللأسف الشديد تفرغنا لكل ما هو جانبي هامشي صرف: كيف وأين تلقي الكلمة وكيف وأين تستلم جائزتها التي تستحق؟ تفرغنا للأسف الشديد للمعارك الجانبية على حساب المعركة الأهم. انشغلنا عن المرأة بأسئلة لا تملك جواباً محسوماً مثل قيادتها للسيارة أو سفرها وحيدة بالطائرة أو شرعية غطاء وجهها من جواز كشفه أو حضورها لقاعة احتفال رجالية، مع أن الحقيقة تبقى مثل الشمس التي تزورنا نصف كامل اليوم: نحن في الرياض وأبها ومكة المكرمة، لا في نيس أو ماربيا أو هونج كونج. باختصار، أنستنا الأسئلة الثانوية الهامشية حول المرأة السعودية كل الأسئلة الحقيقية المشرعة حول تعليمها وتأهيلها وكفاءتها وتهيئتها لأن تكون نصف المجتمع بأنموذجنا السعودي الصرف ومن أراد أن يسجل حالة اعتراف فليواجهني بها غداً ليحتفظ بأسطري السابقة.
دخلت ظهر الثلاثاء الماضي قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة الملك خالد في أبها مدعواً لحضور احتفال جائزة شركة المراعي للإبداع العلمي. وكالصاعقة المذهلة تواترت أسماء الفائزين بها في دورتها الثامنة ليتمخض البيدر عن حصاد سعوديتين من جامعة الملك سعود للجائزة في مجالات علمية صرفة. الدكتورة عبير بنت خالد الغملاس عن بحث بيطري، والدكتورة نجلاء التويجري عن بحث في دوال الرياضيات الصرفة. وكلتا الأستاذتين الجامعيتين قادتا فريق بحث علمي من الباحثين الذكور وفي مختبرات متعددة. كلتا الاثنين فازتا بالجائزة العلمية التي كانت تحت تحكيم مدينة الملك عبدالعزيز للتقنية، وكلتاهما رأستا الفريق العلمي بباحثين مساعدين ونافستا بشراسة على الفوز بالجائزة في مجالين من أعقد أدوات العصر وتخصصاته. وفي عطف الاحتفال كانت الأستاذة الجامعية السعودية (ابنة البلد) تلقي نشوة الفوز لخطاب الفائزين من القاعة النسائية المجاورة في سلاسة وثقة يحسدها عليها عشرات المجايلين من الرجال. وكان سمو الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز، راعي الاحتفال وأمير المنطقة، أكبر المنصتين إلى لغة ابنة البلد وأول المبادرين إلى الشعور العفوي بالتصفيق لقصة سعودية نظن أنها نادرة لسبب بسيط: لأنها، أي المرأة، أشغلتنا بالأسئلة الجانبية الهامشية على حساب حصاد الأسئلة الكبرى مثلما كان في اللقطة السابقة: هذه هي المرأة السعودية التي نريد. تعالوا نأخذكم إلى القصة الرديف في إرادتنا للمرأة السعودية وفي تصوراتنا لما يمكن أن تكون عليه. تحتفل جامعتي (رغم أنها لم تحتفل بذلك للأسف الشديد) بتخريج أول دفعة سعودية شابة لاثنتين وثلاثين طبيبة سعودية يحزن بجدارة على بكالوريوس الطب والجراحة. والملفت لمن أراد منكم أن يقرأ إصرار ـ ابنة البلد ـ وعصاميتها وتفوقها عليكم أيها الرجال أن الدفعة كاملة جاءت بلا هدر لأن ذات العدد المتخرج اليوم هو ذات العدد المقبول قبل ست سنوات خلت. لكن حصاد النهاية بيوم الاحتفال بهن (الذي لم يأت ولن يكون) يعود بنا إلى الفصل الأول من المعركة. فقبل ست سنوات كان مجرد التفكير في فتح الباب أمام المرأة السعودية لدراسة الطب تحديداً كفيلاً بإثارة كل ما يمكن لك أن تتخيله من قوى الرفض الجارفة ومن حالات التشكيك والإرجاف ومن تصوير وتهويل المبادرة وتحويلها إلى مغامرة اجتماعية بالغة الخطورة. لك أيضاً أن تتخيل أن سواد هذا الرفض وأعنفه كان من داخل المؤسسة العلمية المستقبلة وأنهم كادوا ينجحون لولا الإرادة الشجاعة التي كانت عليها إدارة الجامعة. وبالبرهان، مرت سنوات الدراسة الطويلة من يوم القبول حتى لحظة التخرج الحالية دون قصة واحدة لهؤلاء النماذج من الفتيات السعوديات الشريفات ودون سطر واحد من الخيالات الواهمة التي كانت تصور المشافي والقاعات الدراسية وأجنحة المرضى ودهاليز المستشفيات على أنها أوكار وغرف مقفلة بستائر مظلمة. هذه هي المرأة السعودية التي نريد ولكن: ما هي الحجة التي استسلمنا لها لما يقرب من عقدين من الزمن على الأقل كنا فيها قادرين تماماً على أن نخرج للحياة والمستقبل مثل هذه الدفعة وكم خسرنا بسبب التلكؤ والتردد والاستسلام لجبهة الرفض. الجواب المؤكد ما لا يقل عن خمسمئة طبيبة خلال عشرين عاماً كان لهن أن يسددن ثغرة هائلة في سوقنا الطبي وكان لهن أن يكفيننا جميعاً حرج الذهاب بأمراض نسائنا البسيطة إلى أيدي الرجال. وللعلم فإن المنطقة الكبرى التي تحوي آلاف الأطباء والمهندسين ومئات أساتذة الجامعة وعشرات المثقفين والمفكرين لا تضم في المطلق غير استشارية سعودية واحدة وحيدة هي الدكتورة منى بنت عبدالله بن مشيط، وأنا أذكر الاسم إحقاقاً لشجاعة المبادرة.
اليوم نكتشف أن أسئلة التنوير التي نلوكها حول المرأة ليست بهامشية السيارة وغطاء الوجه وحق السفر وبقية المختلف عليه، بل هي أسئلة إنارة العقل. ستبقى عبير الغملاس وسميرة إسلام ونجلاء التويجري ومنى مشيط، وبضع وثلاثون طبيبة جديدة مجرد إشارات إلى حقيقتين: الأولى أنهن مجرد عينة من جسد نسائي سعودي ضخم سيكون ناطحة السحاب التي نسكنها لو أننا استثمرنا فيه كما ينبغي أن يكون، والثانية، وهي للرجال أن ابنة البلد تبرهن أنها بالاستثمار والنور والتنوير الحقيقي بأنموذجنا السعودي ستبقى المثال للمرأة المسلمة الفاعلة، وللرجال فقط: من هو الذي سيعطيني برهان ـ نشاز ـ واحد على طبيبة أو عالمة أو باحثة أو أستاذة جامعة. هذه هي المرأة السعودية التي نريد ولكم أن تكملوا لها ما تريدون منها بالضبط.
آخر قولي شكراً للمراعي وشكراً لسمو الأمير سلطان بن محمد بن سعود الكبير. كانت لقطة احتفائية رائعة.