ملحق شباب ألاسبوعي

الساحة بالمفهوم اللبناني

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

علي فواز : الساحة لم تعد تتسع، تكاد تختنق بما تكدّس فيها، تكاد تتقيأ كل ما مرّ عليها وما زال يصب فيها، من أشياء، وأفكار، وأحياء، وشهداء، وقصائد، وزجل، وأغان وطنية، ومتظاهرين، وناقمين، ووطنيين، وثوريين، وصنّاع قرار، إضافة إلى بعض أدواتنا التي نسيناها هناك... بصل للوقاية من القنابل المسيّلة للدموع، حجارة وبيض للهجوم على القوى الأمنية، يافطات كُتبت على عجل، كبريائنا الذي يتدلّى كنهدين في الستين من العمر، وبعض فتاوينا العجيبة، وعزتنا الوطنية.
كل هذه الأشياء موجودة في الساحة، وأكثر من ذلك. فبيننا وبين الساحة ثمة عشق سري، وتواطىء تاريخي، وموروث تمتد جذوره إلى زمن الأبيض والأسود، إلى زمن "العين" و"مختار الضيعة" و"الناطور" في نسختهم الأولى، الأصلية. فلا يكاد يجتمع لبنانيان إلاّ وتكون الساحة ثالثهما، بروحها أو بوجودها الحسي أو بذكراها العطرة. فالساحة في قاموسنا ليست مجرد مكان مفتوح على الهواء الطلق، بل هي أقرب ما يكون إلى الأرزة، إلى العتابا والميجانا والكبة النية والعرق البلدي.
بهذا المعنى لا بدّ أن يلتقي وديع الصافي حلوته في الساحة "بالساحة التقينا بالساحة/ عليها جوز عيون شو دبّاحة"، وينازله نصري شمس الدين بالساحة أيضاً "أنا سيد المعنّى والفصاحة/ بهالساحة العليّي وبكل ساحة/ وسيفي بيمسح الأعدا بحدّو/ متل ما بتمسح الأرض المساحة"، وسيارة فيروز لم تجد لها مكاناً لتتعطل فيه أفضل من ساحة ميس الريم "وصلْنا على ساحة ميس الريم/ وانقطعت فينا العربية"، أما طفل مرسيل خليفة فتراه يقف بالساحة قبل أن يستشهد "وقّف بالساحة ينده رفقاتو/ وكان هدير الطيارة أقوى من كل الأصوات". ولا عجب بعد ذلك أننا عندما نريد أن نفرح أو نحتفل، فإننا لا نجد مكاناً أنسب من الساحة "زيّنوا الساحة والساحة لِنا/ ليلة الساحة فينا مزينا"
وتتسم ساحتنا بخاصية فريدة تحصّنها ضد الصدأ والاندثار والتحلّل، وهي بهذا المعنى أقرب إلى الحداثة منها إلى الماضوية، وأقرب إلى التجدّد من التحجّر إلى جانب جرن الكبّة. إذ تراها تحمل في طياتها مرونة التغيير وليونة التكيّف، ما يجعلها قادرة على أن تغيّر جلدها من دون أن تتغيّر.
شاهد معي من هنا مثلاً ساحة وسط بيروت، والتي لا تتجاوز مساحتها مزرعة شيخ في الرياض، أو حرم جامعي في شيكاغو، أو متنزه وطني في طوكيو. ساحة وسط بيروت هي ذاتها ساحة الشهداء، والتي سرعان ما واكبت التطورات حتى صارت تُدعى ساحة الحرية، وهي ذاتها أيضاً ساحة 8 آذار وساحة 14 آذار، وهي ساحة رياض الصلح وساحة بشارة الخوري، وهي الساحة التي صارت رمزاً لإعادة بناء لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية، والساحة التي سوف تتحوّل إلى خطوط التماس المقبلة عندما تشتعل جميع الساحات!
من هنا إلى أين؟ (تيمناً بالجملة الشهيرة لأبو الساحات النائب وليد جنبلاط)
إلى ساحة جديدة بإذن الله طالما أن الساحة الوطنية تكاد تتقيأ ما فيها ومن فيها، وإلى أن توّلد الأخيرة من نفسها ساحات جديدة، ثم تتوحّد هذه المخلوقات الصغيرة في ظل ساحة جامعة أكبر. وإلى ذلك الحين، سنبقى نسمع المذيع في النشرة الإخبارية يقول لنا كلّما اجتمع اثنان، إنهما كانا يناقشان الأوضاع المطروحة على الساحة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف