ملحق شباب ألاسبوعي

المطر الذي أنبت كارثة الجزائر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


نور الهدى غولي : لم يتوقف المطر خلال الأيام الماضية في العاصمة.. خوف الجزائريين من سمفونية مطر غزير لا يتوقف ما زال قائما .ففاجعة سابقة ما تزال حية في ذاكرتهم الجماعية الغارقة في همومها اليومية..هذه الذاكرة التي تعيش على فوهة الكثير من الأحلام البسيطة التي صارت تقترب - مع الوقت - الى استحالة تحقيقها تختزن تلك الكارثة التي حدثت قبل خمس سنوات مع يومياتهم وخيباتهم وافراحهم .


حينها وقبل يوم من بدء شهر رمضان استيقظ الجزائريون على هول فاجعة حلّت بالعاصميين وبالتحديد في مدينة باب الواد التي دفعت الكثير من أبنائها ضريبة لفائض المطر الذي هطل ليومين كاملين . فصلاة الاستسقاء التي تمت تأديتها بكل خشوع جاءت نتجتها اكثر مما ابتغوا.


لم يكن بمقدور أحد في ذاك الصباح الخريفي أن يتكهن بحجم الكارثة التي ألمت بالجزائريين . استقرّت المستنقعات المائية هنا وهناك وهول المأساة بقي حكرا على من عاشها .


وسيطرت الكميات الهائلة من المياه التي فاضت بها العاصمة على احاديث الناس وبموازاة هذه الاحاديث كانت عائلات كثيرة تغرق في الأوحال والبرك التي ظهرت قبل ساعات فقط.

صراخ متواتر.. كاميرات هواة تلتقط بشاعة تجربة ربما لن تشهدها كاميراتهم مرة أخرى، أطفال أغرقتهم قطرات ماء كان أولياؤهم يصلّون من أجلها. سقوف البيوت تهوي على أصحابها ، أبواب هشّمت ، ومنازل محيت عن خارطة المنطقة ، لم يكن احد قادرا على استيعاب الفاجعة التي القت بكل بؤسها على الشريحة البسيطة . وبينما كان هؤلاء يرزحون تحت غضب المطر كان اخرون في مناطق بعيدة نسبيا يتحدثون عن هذا الموسم الذي سيكون خصبا لا محالة.

نشرة إخبارية استثنائية تكسر الروتين الطبيعي للبرامج التلفزيونية، وجه واجم لمذيعة كانت لا تعرف غير الابتسامة البلهاء.. تتحدث بصوت مرتجف عن حصيلة أوليّة لموتى غارقين في منطقة باب الواد وما جاورها بسبب الفيضانات التي كانت نتيجة لهطول متواصل للأمطار.

يفجع المشاهد الذي كان لم يكن له علم بكل ما حدث .. ينقطع البث التلفزيوني وتبث الايات القرآنية . أيام البحث عن المفقودين تصير دهورا أمام شتات العائلة المتبقي، صور مبعثرة كثيرة استقرت بجداريات المستشفيات والمصحّات، أناس أتوا من بعيد للاستفسار عن ذويهم الذين لم يجدوا لهم أيّ أثر.. يتساءلون عن السبيل الذي يقودهم إلى معارفهم.. ما هو دليلهم ؟ حتّى ردهة البيت البسيط اختفت من الوجود.
ساعات طويلة كالأزل.. هبّ عدد من الفضوليين وغيرهم إلى المكان . يشهدون على حادث لن يتكرر كثيرا ، الكلّ يبحث عن اسم قد يعني له شيئا، قد يتخيل معرفة الشخص من كثرة الأسماء التي مرّت عليه، وقد يمرّ عليه اسم قريب له لكنه لا يتفطن للأمر للسبب ذاته .. ويغرق في هلامية جديدة لا معنى لها.

أبدا لم يكن صادقا ذاك الذي تحدث عن فكرة أن الهمّ الجماعي يخفت أثره.. كان ذاك "الحكيم" يريد أن يقول أنّ وطأة الكارثة تخف كلما كان همّها جماعيا.. قالها ومضى دون أن يعي أنّ هذا النوع من الوجع سيكون ذاكرة جماعية لصيقة بالنفس، بالشعب وبالوطن.. ترى من منهم - هؤلاء المشروخين - شعر بهدوء نفسي معيّن ؟ وهل كانت "اشتراكية" النكسة العربية عزاء لذاك المصاب؟.


بعد أسابيع ارتفعت وتيرة أقوال وحكم الأولياء الصالحين في غرق المدينة - عاصمة الوطن - آخر حال الدنيا ، البعض ألصق الفيضان بانحلال اخلاقي يغرق فيه الشباب! وآخرون تحدثوا عن الظاهرة بصورتها الطبيعية التي من شأنها أن تحدث في أيّ بلد آخر..فلما الاستغراب والحلّ والربط؟


الآلاف من الضحايا، نساء، رجالا وأطفالا راحوا ضحية ما سمي باللّغز، وما تمّ التستّر عنه إلى حين.. انتهت أيام الحداد، ولم يستطع الناس تجاوز الأمر.. هامش الحديث كان أوسع من أن تلّم أطرافه، فتشعبت خيوط الحكاية وتوسع مع الوقت فضاء البحث عن السبب الذي لم يكن مهمّا في فترة مضت قدر الاهتمام بمن بقي ميتا، ومن هو مصاب للمعالجة ، ومن هو مفقود فيتم البحث عنه ، ونظمّ بعدها أكبر تضامن شعبي، هبّ الجميع لإنجاح فكرته، واستقبل المنكوبون في بيوت الآخرين وبقوا معهم، إلى أن تمّ إعادة إسكانهم.. عادوا لجدران تأويهم دون أن يلتئم الجرح..


حين ينخفض جدار الأسى والفجيعة تلتفت بالقرب منك لتعرف السبب لما حلّ بك، إن لم يكن السبب طبيعيا بالكامل.وبعد عدد من التحريّات يكتشف الجزائريون أنّ سبب الموت الفائض كان نتيجة طبيعية لانسداد مجاري المياه التي لم يتم الاهتمام بها يوما ، دون الاهتمام لكونها لا تقوم بعملها الطبيعي.. ولا يتم تصحيح هذا الخلل إلاّ بعد موت الآلاف..!
الحالة ذاتها تتكرر هذه المرة أيضا، لم يكن الاهمال بالدرجة الذي كان عليه قبل سنوات، لكن الدهشة التي سكنت المواطنين في بعض المناطق المتفرقة من الوطن تكاد تكون نفسها، لأنّ كمية المطر المتساقطة كانت ذاتها يوم الكارثة.ولأنّ الهمّ كان جزئيا هذه المرة، فموت عشرة اشخاص خلال يومين لن يستوقف احد فبؤس الحادث يحسب بالآلاف عندنا لا بالشخص أو بالعشرة. يسيرون باستخفاف مسبق لفكرة أنّ الموت المترصد بالنفس الواحدة سيتضاعف، مادام الإهمال ذاته هو الذي جرّ الموت على بسطاء الناس.. فقط دون غيرهم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف