ملحق شباب ألاسبوعي

يوم في حياة مجند مصري

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



يوم في حياة مجند مصري
رحلة خلف الأسلاك الشائكة

عبدالرحمن مصطفى من القاهرة : تتحكم في خطط الشباب المستقبلية وشكل حياتهم العملية عوامل عدة على رأسها الخدمة العسكرية. فمن خلالها تتحدد خطط المستقبل من السفر أو العمل أو القيام بأي نشاط مقبل. وتبرز العلاقة الأولى بين الشاب و إدارة التجنيد في سن مبكرة عند استخراج نموذج "جند" أو البطاقة العسكرية من خلال مكاتب التجنيد المنتشرة في كافة أقسام الشرطة المصرية، غير أن تحديد الموقف النهائي من الخدمة العسكرية لا يتم إلا بعد الكشف الطبي في أحد المعسكرات الرئيسية في المواعيد المحددة.

إجراءات أولية

ما أن يتخرج الشاب ويستحصل على شهادته حتى يصبح مطالبا بتقديمها إلى مكاتب التجنيد، أما من لا يحمل أي مؤهل دراسي فمهمته أيسر إذ يبدأ إجراءاته في مرحلة مبكرة من عمره. وان كانت الإجراءات متشابهة في أغلب الحالات، الا أنها أحيانا ما تكون عبئا على الشباب العامل الذي قد لا يجد وقتا لمتابعتها. وما أن ينتهي الشاب من إجراءاته الأولية مع مكتب التجنيد في قسم الشرطة حتى يحدد له موعد الكشف الطبي مع أقرانه من نفس المؤهل التعليمي، ويجرى الكشف الطبي في أحد معسكرات التجنيد الكبرى المنتشرة في أنحاء الجمهورية.. معسكر "الهايكستب" هو أحد أشهر تلك المعسكرات، حيث يفد عليه عدد كبير من أبناء مدينة القاهرة المكتظة بسكانها، لذا فأغلب زواره من القاهريين والبقية تأتي من محافظة القليوبية المجاورة.

ومعسكر "الهايكستب" كغيره من المناطق العسكرية، لا مجال لوسائل الإعلام أن تمارس فيه مهمتها التقليدية، فهنا... "ممنوع الاقتراب أو التصوير"، ولا أحد يعلم بما يحدث داخل المعسكر سوى العاملين فيه والزوار فقط..!
لذا.. سنحاول متابعة رحلة شباب التجنيد مع هذا المعسكر.

الطريق إلى "الهايكستب"

على بعد 30 كـلم من وسط العاصمة المصرية القاهرة يقع معسكر "الهايكستب"، الذي خصص لاستقبال من جاءوا لتحديد موقفهم من الخدمة العسكرية إلى جانب آخرين جاءوا للحصول على مستندات عسكرية.
الطريق إلى المعسكر شبه صحراوي قاحل .. فلا بهجة تؤنس الزائر.وللوصول الى هناك على قاصد المعسكر اعتماد عدة اشكال من "المواصلات".
ويبقى للزيارة الأولى رهبة خاصة تمتزج مع القلق وغموض الموقف، وما أن تطأ قدم "الوافد " المعسكر حتى يصبح جزءا _مؤقتا على الاقل_ من الاختلاف الكلي بين حياته السابقة وحياة المعسكر، فلا بنايات ولا عمران ، لا شيء سوى الأسوار والأسلاك الشائكة وخط للسكة الحديدية.. خارج البوابة الرئيسية للمعسكر حلاّق ينادي عارضا خدماته. فتقاليد معسكر "الهايكستب" هي من أوجدت مثل هذا الرجل. فلا يسمح لشباب التجنيد القادمين للكشف الطبي أن يأتوا بشعر طويل، إضافة إلى ذلك..لا يسمح لأصحاب اللحى الطويلة أن يجروا كشفهم على حالتهم تلك، لذا يضطر هؤلاء إلى استخدام ماكينات الحلاقة المتناثرة بجوار إحدى البوابات الداخلية ليتبادلونها فيما بينهم.

وبعد اجتياز البوابة الرئيسية.. كان علينا انتظار إحدى حافلتي النقل العام المتواجدة داخل المعسكر لنقل الزوار من البوابة الرئيسية إلى البوابات الداخلية. نندس داخل الحافلة المكتظة بالركاب، ويتهادى السائق في طريقه حتى يستطيع المحصل قطع التذاكر لكافة الركاب، وأخيرا... نحن أمام البوابات الداخلية لمعسكر التجنيد .

حرب أعصاب


"الواحد هنا يسيب نفسه للي يحصل".. جملة نطق بها أحد شباب التجنيد الذي ادعى أنه عليم ببواطن "الهايكستب"، ويرجع أصل مقولة هذا الشاب على ما يبدو الى ان كل شاردة وواردة هنا تنطلق من هذا المبدأ حيث يترك المرء نفسه للتعليمات، خصوصا وأن اللافتات والإرشادات تكتب بلغة عسكرية وغالبا ما يقوم المجندون بالاجتهاد لتفسيرها والخروج بنتائج لا صلة لها بالمعنى الاصلي .. كأن يطلب منك أحدهم أن تشتري كوبونات تصوير مستندات تكلفتها خمسة جنيهات قبل عبروك البوابة الداخلية ، في الوقت الذي نجد فيه أن أغلب الزوار قد قاموا بالفعل بتصوير مستنداتهم كما تم توجيههم في مكتب التجنيد الموجود في قسم الشرطة ..!
ويتابع الشباب رحلتهم في الداخل ، وما أن يمروا من البوابة في طابور حتى يتسلمهم أحد العساكر، فيبدأ صارخا في بالسؤال عن موعد تخرجهم وعمّن تم اعتقاله من قبل... وفي النهاية يأمر الشباب بالانتظار أمام صالة الاستقبال تحت المظلات - إن كان اليوم مزدحما- لتبدأ رحلة الملل وتحطيم الأعصاب .

عوامل كثيرة قد تلعب دورها في تحطيم الأعصاب قبل إتمام الكشف الطبي، بدءا من عدم وجود جهة استعلامات هادئة يستطيع المرء الاستفسار منها عن خطوات يوم الكشف الطبي، ناهيك عن إمكانية تلقي ردود أفعال عنيفة أو مهينة من جانب العسكريين والتي غالبا ما يبتلعها الشاب كي يمر يومه بسلام. ويزيد من توتر الشاب تكاثر الشائعات في هذا الجو الضبابي، فما أن يستقر الشباب أمام قاعة الاستقبال حتى تبدأ حمى تصوير المستندات وترتيبها وفق نظام يتلوه أحد العساكر أحيانا ويتبادله الزوار فيما بينهم شفهيا، وتجد من يزعم أنه يجب تصوير المستندات خمس نسخ، وآخر يزعم أنه صوّرها سبعا.. ولأن الجميع هنا لا يعلم شيئا فتجد طابورا طويلا أمام ماكينات التصوير مستخدمين كوبونات التصوير بشكل لا داع له.
وهنا تبدأ رحلة ترتيب الأوراق.. والبحث عن "دباسة" أوراق مع أحد الزوار، والقلق من أن يضيع أحد المستندات من بين أيدي المجند المكلف بنقلها ...الخ .

ساعات يتبادل فيها الشباب قصصا عن قسوة الحياة العسكرية وعن إمكانية تأجيل أداء الخدمة العسكرية لبعض الدفعات، وعن خطورة التعرض لأحد العسكريين بالمعسكر حتى وإن كان ذلك ردا لإهانة (!) وأثناء ذلك قد يمر بعض الشبان يرافقهم "العساكر" كي يكملوا لهم إجراءاتهم.. هؤلاء الشباب لديهم "واسطة" داخل المعسكر أو من أبناء العسكريين. أما بقية الشباب فقد ينتظروا لساعات دون أي إشارة أو أمل، لذا يغامر بعضهم بمخالفة أوامر عسكري الاستقبال الذي أمرهم بالانتظار في أماكنهم ويبدأ بعض الشباب في التسلل إلى صالة الاستقبال الرئيسية التي أخذت تزدحم شيئا فشيئا .

داخل صالة الاستقبال.. يأتي أحد المجندين عارضا وضع قطرة طبية تمهيدا لكشف عيادة الرمد، ولا يتجاوب معه إلا قلة ، وتبدأ النداءات على الأسماء في الميكروفون.. عصبية وصراخ من العسكريين.. محاولات من الشباب لإضفاء روح المرح تقابل بحدة ، لينتهي المشهد بأن يتم تصوير شاب التجنيد في إحدى حجرات صالة الاستقبال بالأوفرول العسكري، ويأخذ رقما على الكارت الخاص به برقم المجموعة التي سيتقدم معها للكشف الطبي في المجلس الطبي العسكري، وقد يتم النداء على رقم مجموعة قبل الأخرى، لكن لا بد للشاب من أن ينتظر ويصبر حتى يتم النداء على رقم مجموعته .

يمر الوقت بطيئا حتى يتم النداء بأرقام المجموعات للدخول إلى المجلس الطبي العسكري أو (القومسيون الطبي).. حيث موعد الكشف الطبي... أو موعد (التعري الجمــــاعي)..!

التعري الجماعي

لحظة التعري في صالات المجلس الطبي حمل ثقيل يود معظم الشباب تخطيه بأقل ازعاج وخجل ممكن .يخلع الشبان ملابسهم ويقفوا في طابور طويل داخل صالات الكشف، وينتقلوا شبه عراة من الميزان الى المكان المخصص لمعرفة الطول وفحص سلامة القدمين

.وفي هذه المرحلة تبدأ محاولات التهرب فيدعي البعض الإصابة، والبعض الآخر يطمح في أن يتم استبعاده بسبب وزنه الزائد بحجة (التصاق الفخذين)، لكن لا يستثنى إلا القليل، وبعد تلك الإجراءات الشكلية.. ينادي شخص ما على الجمع الغفير العاري بشروط الإعفاء من عيادة الرمد ، فيهرع إليها عدد من أصحاب النظر الضعيف أو من يدعي ذلك ولا يتم الكشف عليهم إلا بعد أخذ قطرة يستمر مفعولها لساعات تصيب واضعها بالزغللة واضطراب الرؤية .

بعد الكشف الطبي ينقسم الشباب إلى فريقين.. فريق الأغلبية التي لم يتم إعفاءها من الخدمة العسكرية لأسباب طبية، وهؤلاء ينتقلون إلى مكان آخر داخل المعسكر يعرف "بالمدرسة" فيحصلون على (نموذج 110) ومن ثم إلى خارج المعسكر بعد
ساعات طويلة تتراوح بين الاربع الى الاثنتي عشر ساعة - حسب حظه - امضاه داخل المعسكر. ولا يبقى أمامهم بعد ذلك إلا يوم (الإرجاء) الذي سيتحدد فيه مصير كل فرد من هؤلاء.

أما الفريق المحسود.. الأقل عددا.. فهو فريق الإعفاءات، الذين تم إعفاءهم من الخدمة العسكرية لأسباب طبية، فأمامهم مساحات أخرى من الانتظار والطوابير، غير أن أجواء البهجة التي لا تخلو من القلق تسود أحاديثهم، ويتم تصويرهم مرة أخرى، ثم يحدَّد لهم موعدا جديدا لإجراءات جديدة بعد فترة.. وغالبا ما يكون فريق المعفيين هم آخر الزوار خروجا من المعسكر... هم ومن تعرض لمشاكل أثناء رحلة الكشف الطبي .

رحلة العودة

عند السـاعة الثانية عصرا ينتهي عمل حافلتي المعسكر، وعلى السادة الزوار الآن أن يبدوأ رحلتهم باتجاه البوابات الخارجية سيرا على الاقدام .وهذه الرحلة قد تستغرق حوالى الثلث الساعة يرافقها حر الصيف او برد الشتاء حسب الفصل الذي اخترته للذهاب الى هناك .لا توجد أي وسيلة لاختصار الطريق سوى القفز فوق سور المعسكر الخارجي بعد عبور شريط السكة الحديدية إلى الطريق العام، ولا يلجأ إلى تلك الطريقة إلا قلة ... وعند البوابات تتعالى نداءات سيارات الميكروباص وتتعالى أجرتهم لطول المسافة وقلة المواصلات .

وأيا كانت حالة شباب التجنيد.. سواء تعرضوا لمشكال أو إهانات ، أو قضوا ساعات داخل المعسكر، أو نالوا إعفاءً طبيا من المجلس الطبي.... في النهاية لا بد لهم من العودة إلى المنزل والاستحمام طويلا بكثير من المياه الساخنة علها تزيل كل ما علق به من مهانة ومعاناة تمهيدا لرحلة أخرى، رحلة نسيان مشاق هذا اليوم .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف