إنّهم يحرقون الضاحية الجنوبية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إنّهم يحرقون الضاحية الجنوبية
يوميات حرب نشيد اهلها : صامدون هنا
يا ربّ كفى بقراً
يا ربّ كفى حكّاماً مثقوبين
مظفّر النوّاب- تلّ الزعتر
عصام سحمراني من بيروت: الشمس ساطعة في لبنان ودرجة الحرارة ثلاثون.. تعلن نشرات الطقس ذلك وتتغنى المذيعات به بينما يعرضن طلتهن البديعة علينا. لا شيء من ذلك يصدق في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث المدينة المنكوبة المدافعة عن شرف العرب أجمعين منذ بدء تاريخهم السياسي والعسكري المعاصر.فالكمّ الهائل من الصواريخ يرفع حرارة حماسة السكان إلى أرقام فهرنهايتية عالية جداً هم باقون في امكانهم "صامدون " .لا شمس ساطعة في أفق الضاحية الجنوبية بفعل أنواع متعدّدة من الأدخنة التي تغطي سماء المنطقة وأنواع عديدة من الروائح الكيميائية والكبريتية والنفطية تكشف عورات الأنظمة .
هي الضاحية الجنوبية مجدّداً إذاً. الضاحية الجنوبية مجدّداً ومجدّداً. تلك المنطقة الواقعة في قلب الوطن والتي أريد لها أن تكون مدينة أشباح فظهر شعبها بين غارة وأخرى يعلن فتح صدور أبنائه للمواجهة وانتظاره للموت دعماً لمن يعتبرون انه دافع عن كرامتهم التي لم تنخفض يوماً والتي تستغلّ كبوق من أبواق النظام العالمي الجديد. هي الضاحية الجنوبية التي لم ينطلق منها أيّ نداء استغاثة.. بمن سيتغيث السكان! بمن والدولة ما زالت منذ وجدت الضاحية تطحنهم ظلماً إجتماعياً فوق ظلم إجتماعيّ على مدار السنين. هي الضاحية الجنوبية وكفى.
يتحسّس علي حنجرته ويحاول الشمّ في ذلك الكون المفعم برائحة الكبريت فلا يستطيع. يصعد على متن دراجته النارية الصغيرة التي جعلتها شريعة الاعتداء الاسرائيلي قانونية بعدما اختفى رجال الشرطة والجيش من الضاحية وغضّوا النظر عنها في بيروت حين التفتوا إلى أمور أهمّ. علي سعيد بذلك فهو يستطيع الإنتقال حيث يشاء داخل مدينته المنكوبة ليزور صديقاً هنا ويطمئن على أهل هناك، ويؤمّن بعض الحاجيات المفقودة واللازمة للبقاء حيا والصمود في منزله ، "كل ما استطيع تأمينه بعض الحاجيات الضرورية للغاية التي لم تنقطع بعد رغم ارتفاع أسعارها".
أمّا بالنسبة للخبز فقد ارتفع سعر الربطة إلى خمسة آلاف ليرة تحت حجج انقطاع الطحين في بعض الأماكن لكنّ أحد أفران المنطقة التي ما زالت تفتح أبوابها للزبائن استمرت بسعر الألف وخمسمئة ليرة رغم أنّ رغيفها بات صغيراً ووزن ربطتها نقص أكثر من ستمئة غرام؛ "يعني متل أغنية الله ينجينا من الآت" يربط عباس الحالة التي يعيشها الآن بإحدى أغنيات مرسيل خليفة العتيقة التي يقول فيها: .. بعدو رغيف الخبز رغيف ولاّ زمّ وصار ضعيف.
"لم نعد نحتمّل منظرها" يعلن حسن بشكل قاطع السبب الذي دعاه مع رفاق الحيّ إلى إحراق مستوعبات النفايات بما فيها وقد انتشرت موادها إلى مساحات بعيدة منها في ظلّ انقطاع الشركة المولجة بجمع النفايات عن دخول الضاحية مجدّداً. المنظر فعلاً كان فظيعاً كما أعلن حسن لكنّ الأفظع كان الرائحة التي انبعثت مع وصول الأدخنة من "المزبلة" وولوجها إلى بيوت المنطقة حيث سبّبت إختناقاً؛ "أكثر من القصف الإسرائيلي" يؤكّد حسن ندمه على القيام بهذا الفعل.
وكان حسن ورفاقه قد قاموا على مدار الأيّام الثمانية الماضية بالتبرع بجمع نفايات البيوت التي ما زالت مأهولة في بنايتهم ورميها في المستوعبات في ظلّ هروب النواطير السوريين والعراقيين والأفارقة من المنطقة ولجوئهم إلى أماكن أخرى آمنة.محمود العراقي واحد من أولئك النواطير. لكنّه على عكس الجميع ظلّ في موقعه في الضاحية الجنوبية مع الجيران الذين بات صديقاً لكثير منهم. يتحدّث محمود عن أصدقاء عراقيين له قاموا بالإعتصام أمام مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في منطقة فردان في بيروت على أمل إجلائهم؛ "وطردوا من هناك دون أن يعيرهم أحد اهتماماً".
ويتحدّث عن مجموعة أخرى دعته للذهاب معها إلى السفارة العراقية في منطقة الحازمية شرق بيروت حيث يهزأ من جهودهم التي تحطمت عند باب السفارة الذي "لم يفتحه الموظفون لهم رغم نداءات السفارة للإتصال بها.. ماكو كذب أكتر من هيك!" يثور محمود على السفارة التي هرب سفيرها مع بدء الحرب على لبنان كما يقول.يجلس سامر يومياً أمام باب الملجأ الوحيد داخل الحيّ والذي كان قبل عدّة أيّام موقفاً للسيارات لا غير.
سامر يقوم بهذه المهمّة الليليّة اليوميّة متطوعاً خوفاً من أيّ خطر قريب؛ "قصف قريب أو تسلّل أو حتى لصوص يغزون المنطقة" يؤكّد الشاب وهو يسحب نفساً من نارجيلته الملازمة له في المهمّة.
الدكاكين بطبيعة الحال مقفلة بسبب رحيل كثير من أصحابها عن المنطقة لكنّ بعضها فتح أبوابه يومياً. أحد هؤلاء هو مصطفى صاحب المكتبة الذي لم تعد تصله سوى أعداد قليلة من جريدة السفير ذات الشعبية الكبيرة في المنطقة والتي لم يعد يصل غيرها كما يؤكد مصطفى في ظلّ انقطاع السبل. أمّا اللحّام (الجزّار) فقد أمّن عجلاً في اليوم السابع ودعا السكّان للشراء فما كان منهم إلاّ أن ابتاعوه بالكامل خلال ساعتين لا أكثر؛ "لا نعرف متى يستطيع الذبح ثانية" تبرّر إحدى السيّدات الملتجئات.بالنسبة للصوص الذين قام سامر بحماية البيوت منهم فلم يكن عملهم فعالاً في المنطقة حيث تصدّى لهم عناصر الإنضباط في حزب الله الذين حافظوا على البيوت والمحال التي هجرت من سكّانها وساهموا إلى حدّ كبير في منع الإعتداءات عليها. بالإضافة إلى العمل الذي قاموا به على صعيد كشف بعض الجواسيس التابعين لإسرائيل- كما يؤكّد قاسم الذي كان شاهد عيان على واحدة من هذه العمليات- وهو ما أعطى ثقة كبيرة للمواطنين بالأمان إلاّ من القصف الإسرائيلي.
إذاً فقد رحل كثير من السكان وخاصة من المناطق التي تعرّضت للقصف في حارة حريك وبئر العبد وحائط المطار وأوتوستراد هادي نصر الله. وقد كانت الوجهات الخاصة بهم مختلفة مع نزوح بعضهم إلى بيروت وإلى الجبل ونحو البقاع أيضاً. علي ترك منزله مع العائلة وانتقل إلى قرية طاريّا البقاعية التي استهدفت قريباً جداً من مسكن علي والعائلة التي فضّلت اللجوء مجدّداً نحو إحدى قرى جبل لبنان الآمنة.
علاء أصرّ على عدم الخروج من المنزل في المريجة مصرّاً على استعداده للتصدّي لأيّ عدوان برّي محتمل أو إنزال. لكنّه في اليوم السادس انصاع لرغبة العائلة وخاصة والدته التي خافت عليه من البقاء مع شقيقه في المنزل حيث لا يمكن للشقيق الخروج في ظلّ قيامه بعمل يرتبط بالمنطقة بشكل مباشر. لكنّ عبد الله شقيق علاء وعده أن يرسل وراءه في حال تمّ إنزال إسرائيلي في المنطقة كي يطبّق الشابان كلّ ما تعلّماه من أغاني النضال والثورة تطبيقاً حرفياً.
تلك هي أجواء الضاحية الجنوبية المنكوبة لكن الصامدة في الوقت عينه. الضاحية الجنوبية التي سوّي جزء كبير من مبانيها على الأرض وما زالت تلفظ العدوان كما تلفظ تخاذل العرب المستمر . وإذا ما كانت بيروت هي الرصاصة في خاصرة الإجتياح الاسرائيلي عام 1982 فإنّ الضاحية الجنوبية باتت السمّ في قلب هذا العدوان الجديد الذي يسقط ومعه جميع من تمنن نفسه له بالخيانة عند حذاء طفل صامد يمسك رضاعته الفارغة وهو يتنشق السموم المنبعثة من الصواريخ والقذائف. يتنشّقها ويدافع عن شرف العرب الذي تمزّق غشاء بكارته إلاّ لبنان.
الضاحية في صور .. تصوير عصام سحمراني