حكايات شباب يتآلف مع القصف اليومي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يوميات ضاحية جنوبية لا تشبه نفسها :
حكايات شباب يتآلف مع القصف اليومي
تصوير عصام سحمراني -الضاحية الجنوبية لبيروت
عصام سحمراني من بيروت: بالأطنان باتت صواريخ وقذائف الطيران والبوارج تنهمر على قلب الضاحية الجنوبية.
بالأطنان تنهمر لتعتم على أمكنة كانت يوماً ما قبل أسبوعين تماماً هي الحياة ولا شيء سواها. بناسها وسياراتها ومبانيها ومدارسها ومحالها ومؤسساتها ومدارسها ومعاهدها ومطابعها وجوامعها ومراكزها الثقافية والإجتماعية المختلفة.
بضوضائها وضجيجها وعلاقاتها الإجتماعية المتأججة فوضى ومشاكل لا تنتهي. كلّ ذلك خمد الآن مع الإحتراق الكلّي لكلّ ما كان يشكّل لها محوراً وميداناً لا تنسى ذكرياته. كلّ ما في الضاحية تغيّر ولا شكّ فإنّ فترة ما بعد الحرب ستشهد على هذا الكلام.
ومع ذلك فإنّ الحياة لا بدّ وأن تستمرّ في أيّ مكان على وجه الأرض فكيف إذا ما كان هذا المكان قلب الشعب العنيد!... فما زال شعب الضاحية الجنوبية يصرخ صوت جوليا الصادح: بنرفض نحنا نموت.
ومع ذلك فإنّ الحياة لا بدّ وأن تستمرّ في أيّ مكان على وجه الأرض فكيف إذا ما كان هذا المكان قلب الشعب العنيد!... فما زال شعب الضاحية الجنوبية يصرخ صوت جوليا الصادح: بنرفض نحنا نموت.تتعرّق جبهة أسعد وهو يحاول إيجاد ما سيسدّ به أبواب منزل أخيه في الرويس بعدما تحطّم زجاج أبوابه الخارجية. القصف امتدّ لليوم الثالث على التوالي خارج المربّع الأمنيّ والأهداف باتت غير محدّدة بتاتا. صوت قذيفة جديدة يدوي ليجعل أسعد أكثر سرعة وارتباكاً وتعرقاً في الوقت عينه. يجد مطرقة وبعض المسامير وبكثير من التوفيق يتناول قطعتين من الخشب المسطح (المعاكس) وينجز مهمّته خارجاً من ثقب الإبرة.
يحلّ المساء في المكان لتبدأ النوبة اليومية بعد فترة انقطاع غير معروف الأسباب. عشرات الأطنان من المتفجرات تخترق السماء وتقع في مكان ما من الضاحية. الدخان يتصاعد في الأجواء نفسياً قبل انتشاره الفعلي. السكّان في تشتّت تام. كلّ واحد منهم يحسّ نفسه مستهدفاً. يرتبك الجميع في تحديد المنطقة التي ضربت. يلتزمون أماكنهم التي يخالونها آمنة في أحد الملاجئ. يبشرهم نذير شؤم بعدم أمان هذه الملاجئ في ظلّ أصوات متفجرات من هذا النوع. يرتبك الملتجئون مجدّداً ويرفعون أمرهم إلى الملكوت الأعلى.
لا شكّ أنّ كثيراً من السكّان نزح بعد هذه الغارة التي ضربت مجمع سيّد الأوصياء في منطقة برج البراجنة الذي لم يكتمل منه سوى الأساسات لغاية الآن. فمفاجأة اقتراب الأصوات والدخان إلى الجهة التي لم تضرب بعد في الضاحية والتي ظنّها السكّان آمنة كان وقعها كبيراً عليهم.
يتحدّث أيمن عن الغارة بصفته يسكن في البناية التي تقع إلى جانب الدمار تماماً. لا يتحدّث أيمن عن نفسه بل عن جيرانه الذين تمايلت بهم البناية للحظات بينما يقبعون في أماكنهم يتأملون توقفها فلا تتوقف.
تشدّ الأمّ أبناءها الثلاثة بيديها وحضنها على الأرض بينما يهتزّ البناء ويتكسّر الزجاج للحظات لا تنتهي. يحاول الجار الخروج معهم إلى مدخل البناية فتتبع الغارة الأولى غارات متلاحقة لا تترك له مجالاً إلاّ الإرتطام مع زوجته بالحائط حيث تهشّم أنفها.
الغارة انتهت فجأة ودون إصابات خطيرة إذا لم نحتسب الرعب الذي عاشه السكّان والأنف المكسور لجارة أيمن التي "أثبتت بطولتها فعلاً في حماية أبنائها" يعلّق أيمن.
على الرغم من الأجواء الحربية التي تسيطر على الضاحية بدءاً من مظاهر التسلّح في بعض الأماكن والتي يتولاها مقاتلو حزب الله، وحركة امل بدرجة أقلّ فإنّ الحرب الوحيدة التي يشعر بها السكّان هي الغارات التي تزورهم بين نوبة وأخرى .ويقوم شبّان الحزبين بعمل كبير على صعيد حفظ الأمن ومنع الفضوليين من الإقتراب من المناطق الخطرة بالإضافة إلى القبض على اللصوص وتسليمهم للجهات المسؤولة في قوى الأمن الداخلي والقبض ايضاً على شبكات العملاء الإسرائيلية الناشطة في المنطقة.
"تقبرني شفلي ياه.. عادة يدقّ لي ميسد كول إذا مرقت الغارة ع خير وأنا بردّ عليه.. من البارحة لم يتصل"؛ لا شكّ أنّ فاتن تبكي من الخطّ الآخر حيث اخترقت حرقتها على حبيبها أذن صديقه أسعد وهو يصلح أبواب منزل أخيه.
ار بعدها أسعد على دراجته النارية نحو ما قد يظنّ أنّه المكان المفترض لأشرف فلم يجده. أخبره بعضهم أنّه مضى إلى إحدى قرى الجبل على دراجته النارية للإطمئنان على أهله. المهمّ أنّه بخير والمهمّ أكثر أنّ فاتن اطمأنت على حبيبها بعد ليلة من السهاد والدموع الحارقة المكتومة الأصوات لدواعي الرقابة الأمنية المنزلية.
يمرّ عبّاس بين الجموع المتجمهرة أمام دكّان الجزار لينال بعد جهد مبتغاه؛ "نصف كيلو همبرغر".
جلب عباس "الهمبرغر" لكنّ الخبز الخاص به يعتبر ترفاً لا أكثر لدى السكّان ينعكس على إنتاج الفرن الوحيد في المنطقة الذي لم يقم سوى بإعداد الخبز العربي فريداً وحيداً مستعيداً لمجده أمام جميع الأصناف الباقية. المهمّ أنّ الشبّان الثلاثة وعباس أحدهم أكلوا الهمبرغر بطريقة مبتكرة للغاية تلك الليلة بواسطة الخبز العربي ولم يبال أيّ منهم بالأمر؛ "فالدنيا حرب".
يصل إلى مسمع قاسم خبراً يقول أنّ شركة الغاز فتحت أبوابها مؤقتاً لتعبئة القوارير؛ "وينك ووين الشركة ع السلطان ابراهيم" يشير قاسم إلى بعد المسافة بين فرن المناقيشالصغير الذي يملكه مع أبيه في المريجة والشركة التي لم يتأكّد تماماً من فتحها.
الفرن لم يقفل بابه أمام الزبائن "على قلتهم" يقول قاسم. والغاز انقطع منذ مدة من المنطقة كما من الفرن لديهم وهذا ما دعاه للمخاطرة بحياته والوصول إلى شركة الغاز على دراجته النارية كمرحلة أولى حيث وجدها قد فتحت أبوابها فعلاً والعودة مجدداً بسيارة أجرة أوصل بها إلى الفرن قارورتي غاز كبيرتان؛ "يا أخي إذا جنينا مصروف البيت لا أكثر أفضل من الجلوس دون عمل" يقول قاسم ويستدرك؛ "الحمد لله نعمة".
كثرت النفايات خلف البناية التي يسكنها حسين مع أهله إلى أن اختار حرقها حيث لم يعد بالإمكان السيطرة على الحريق مع ارتفاع ألسنته. حسين بطبيعة الحال نال ما ناله من شتائم طالت والدته المصون فالأجواء لم تكن تسمح بنشوب حريق خاصة مع إطلاق محمود الناطور لإشاعات القصف في المنطقة.
وما أكّد إشاعة محمود هو الطيران الإسرائيلي الذي كان يحوم في الأجواء بالترافق مع زيارة كوندوليزا رايس تاركاً خطوطاً بيضاء خلفه مطبوعة في ذاكرة اللبنانيين. أتى من أتى من البلدية ومن الدفاع المدني ومن عناصر الحزب وحلّ الأمر وأطفئ الحريق .الحصيلة: أطفئ الحريق واختفت النفايات وأكل حسين "بهدلة" لن ينساها قريباً.
زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية فتحت شهية الشباب على إطلاق الشتائم يمنة ويسرة للإدارة الأمريكية بمن يمثلها من رئيس ووزيرة خارجية ووزير دفاع ومندوب لدى الأمم المتحدة وسفير في لبنان. ومع ذلك فإنّ شتائم الشباب طالت بلداناً أخرى لطالما وقف الجميع معها وكانت سوريا في مقدمتها. فرامي مثلاً لم ير بداً من وصف السوريين بالجبناء؛ "لست أتكلم فقط عن الذين هربوا من هنا مع بداية العدوان بل عن السياسيين أيضاً".
تلك ومضات أخرى نستقيها من صمود الضاحية الجنوبية لبيروت رغم آثار القصف الإسرائيلي تبرز أحشاء بعض مناطقها وتبيد الأخرى، ورغم القصف اليومي بحدّ ذاته حيث يحوّل أجواءها إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة المجهولة المكان والزمان. تلك أجواء من صمود أهل الضاحية الجنوبية الذين ما زالوا فيها بانتظار النصر أو الإستشهاد دون قتال.
هلاّ ترفعون لهم القبّعة!