مكتبة إيلاف

تعرف إلى العالم الداخلي لتاركوفسكي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1- محادثة بين أندريه تاركوفسكي و تونينو غوييرا..*

ترجمة وتقديم علي كامل



"يتملكني حزن عميق وصادق في كل مرة أفكر فيها بأندريه. لقد أحببناه كثيراً، ونحن جميعاً ننحني أمامـه..." مايكل أنجلو إنطونيوني

إن هذه المحادثة الشيقة الهامة والحميمة، هي ثمرة لأحدى زيارات الشاعر والكاتب الروائي والسيناريست الأيطالي الشهير تونينو غوييرا إلى موسكو عام 1979، حيث كان حينها منهمك بتأليف كتاب عن موسكو بعنوان: "مرشد لموسكو الحبيبة" في ذات الوقت كان غوييرا يعمل سوية مع المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي على التحضير لفيلم "رحلة إلى ايطاليا" لحساب القناة الثانية في التلفزيون الأيطالي RAI، والذي سيتغير اسمه في ما بعد إلى "الحنين أو نوستالجيا". كان تاركوفسكي يومها منهمكاً في التقطيع والمونتاج النهائي لفيلمه "الدليل أو ستالكر"، وقد كانت فرصة ثمينة لغوييرا أن يحضر مرحلة مونتاج الفيلم، بل يكاد يكون من القلائل جداً الذين ظفروا بمثل هذه الفرصة لحضور مرحلة مونتاج فيلم لمخرج مثل تاركوفسكي.. لقد كان غوييرا معجباً جداً بالفيلم، وكان قد جهر برأيه فوراً دون صبر لتاركوفسكي قائلاً: "هذه تحفة فنية فريدة يا أندريه".
وقد تحّدث هذان المبدعان طويلاً وأخذت تلك المحادثة مسارات آخرى تجاوزت الفيلم المذكور، لتصبح مايشبه المكاشفات الفلسفية والجمالية لسر هذه المهنة الساحرة "السينما" بين اثنين من كبار صانعيها ومبدعيها في العالم. كانت تلك المحادثة قد سجلت يومها وبالصدفة على شريط كاسيت، في غرفة الأستقبال في الشقة التي يسكنها تاركوفسكي هو وزوجته وولده الصغير أندريوشا، في الطابق الثالث عشر من بناية ضخمة وسط سلسلة من مبان ٍ كبيرة حطت على تلال لينين في موسكو..

كان غوييرا قد تعرف على تاركوفسكي منذ أواسط السبعينات حين عرض الأخير فيلمه " المرآة " لأول مرة في سنت ـ فنسنت في ايطاليا. بعدها وفي عام 1977 كان تاركوفسكي أحد شهود زفاف غوييرا في موسكو، وكان معه شاهداً آخر، هو مايكل أنجلو انطونيوني، وقد تحدث غوييرا فيما بعد عن هذا اللقاء الحميم:

(في حفلة زفافي التي أقمتها في موسكو عام 1977 كان تاركوفسكي وانتونيوني هما الشاهدان على زفافي. كان تاركوفسكي يحمل بيده كاميرا بولورويد ويتنقل وسط المكان سعيداً ومبتهجاً كالطفل بهذه الآلة التي اكتشفها فقط منذ وقت قريب، كذلك انتونيوني فهو الآخر كان يحمل كاميرا بولورويد وقد صورا معاً صوراً مدهشة حقاً. أتذكر أننا قمنا برحلة استكشاف لمواقع تصوير في أوزبكستان لتصوير فيلم كان انطونيوني يفكر بأخراجه، والذي لم يصور فيما بعد مطلقاً للأسف الشديد. وفي أثناء كشف مواقع التصوير شاهدنا ثلاث شيوخ مسلمين، فالتقط أنتونيوني لهم صورة بكاميرته البولورويد، وقدمها هدية لهم. حدق الشيخ الأكبر في الصورة وتأملها للحظات ثم تطلع بنا وأعادها ثانية لأنتونيوني قائلاً: "لماذا توقف الزمن؟"... ثم غادرنا فاغري الفم مندهشين عاجزين عن الأجابة على هذا الرفض الفطن والغريب. لقد تأمل تاركوفسكي تلك الجملة كثيراً وفكر بهذا المرور السريع للزمن، وكان يريد حقاً أن يوقفه، حتى ولو بهذه الومضة السريعة لكاميرا البولورويد.).لقد نشأت في ما بعد صداقة عائلية حميمة بين الأثنين وكان غوييرا قد فتح لتاركوفسكي الطريق للعمل السينمائي في ايطاليا، تلك العلاقة التي توجّت في ما بعد بفيلمهما " الحنين أو نوستالجيا " عام 1983.
لقد تعرض تاركوفسكي إلى حملات عدائية قذرة وشرسة في بلاده من قبل أولئك الدواويون الحزبيون أو الموالين لهم في وزارة السينما وستديوهات موسفيلم أنذاك، وخصوصاً إبان ظهور فيلمه " طفولة إيفان " الذي كتب عنه سارتر مندهشاً حينها، ومن بعده فيلمه الأيقوني " أندريه روبولوف ". هذان الفيلمان اللذان أثارا في نفوسهم تلك الضغائن وذلك العداء بسبب شهرتهما التي وصلت إلى كل أرجاء المعمورة، وكان الفيلم الأخير قد تعرض إلى حذوفات متعمدة قاتلة ورهيبة من قبل الرقابة الحزبية، والأكثر غلواً في خستهم ومعاداتهم، هو إتلافهم 80 % من سالب المادة المصورة لفيلمه اللاحق " الدليل أو ستالكر " في معمل التحميض في ستديو موسفيلم!.
كل ذلك، وأشياء أخرى سببت لروح هذا الفنان الصادق والحقيقي حالة من التسميم، كما أشار لها في إحدى رسائله لوالده، أضطرته بعد صبر وصراع طويلين إلى مغادرة وطنه الذي أحب وإلى الأبد.
حين غادر تاركوفسكي البلاد، اتخذت السلطة السوفييتية أنذاك، كنوع من العقاب، قراراً بعدم السماح لزوجته وإبنه أندريوشا،على وجه الخصوص، في السفر إلى الخارج للأنضمام إليه، مستخدمينهما، بشكل قذر وقح ولاأنساني، كرهائن! فيما هو غير قادر على العودة إلى وطنه ثانية لرؤيتهما، وهذا
ما شّكل جرحاً عميقاً في روحه.

في ايطاليا وفيما هما يقومان بأستكشاف مواقع تصوير فيلمها القادم، كتب غوييرا يومها: (أتذكر حين كنا نقطع نابولي جنوباً، توقف تاركوفسكي عند بوابة رخامية لدير خرب يؤوي شجرة ضخمة بأوراق خريفية، كانت تتساقط بين الحين والآخر. توقف تاركوفسكي أمام تلك الشجرة وأغمض عينيه وهو يتمنى أمنية قائلاً: "إذا سقطت ورقة فيما أنا أتكلم، فهذه إشارة على أن السلطة السوفييتية ستسمح لزوجتي وإبني بالأنضمام إليّ في إيطاليا."... لكن الورقة لم تسقط !).


كلمة عن غوييرا

تونينو، في الواقع، حالة نادرة واستثنائية جداً في السينما العالمية والأوربية على وجه التحديد، فعلى الرغم من أنه يتحدر من عالم أستاذه الأمهر زافاتيني، ذاك الشاعر الذي رسم أيقونة سينما الواقعية الأيطالية الجديدة، بأساليبها وأخلاقياتها، من خلال سيناريوهاته الفذة، لعل أبرزها تلك التي أخرجها دي سيكا " صباغ الأحذية"، " سارق الدراجة "، " معجزة في ميلانو " و " أمبرتو " إلا أن تلميذه البارع تخطى ظل معلمه العظيم، محلقاً نحو فضائاته الخاصة. ففيما كان زافاتيني يجذب المخرجين الذي يعملون معه نحو تأملاته الأجتماعية والأخلاقية الخاصة، كان غوييرا يتجه بنفسه صوب المخرجين ليساعدهم في ترقية وبلورة أفكارهم الخاصة. لذا فليس مجرد صدفة أنه عمل مع مخرجين سينمائيين مختلفي المشارب الأجتماعية والسياسية والجمالية، سواء كان ذلك مع مايكل أنجلو انطونيوني وبحوثه الأجتماعية والفلسفية في أفلام مثل
(المغامرة، الصحراء الحمراء، الأنفجار، حافة زابريسكي، اثبات هوية امرأة)، أو مع سينما فرانشيسكو روزي ونضاله السياسي في (قضية ماتي، لوسيانو المحظوظ، الجثث الرائعة) أو السينما السياسية لأليو بيتري أو (كازينوفا 70) لماريو مونيسيللي، أو سينما مابعد الواقعية الجديدة لفيتوريو دي سيكا، أو الأخوة تافياني وفيلم (ليلة تصوير النجوم، كاوس)، وأخيراً مع شخصية الأنسان المغترب الذي يبحث عن جوهر الوجود في فيلم " الحنين " لتاركوفسكي. سافر غوييرا وسط هذه الفضاءات المتباينة ببساطة المسافر عابر السبيل، ذاك الذي لايقلق في الوصول إلى هدفه، قدر إبتهاجه بالرحلة نفسها. غوييرا الذي نجح أن يكون كاهن الأعتراف المخلص لأنتونيوني وفيلليني وأنجيلوبولس، هو نفسه اليوم يمثل فصلاً مهماً وأساسياً في سينمانا المعاصرة. هذا هو نص المحادثة التي دارت بينه وبين تاركوفسكي.


غوييرا: ماذا تعني كلمة Stalker؟ **

تاركوفسكي:الكلمة مشتقة من الفعل الأنكليزي " Stalk " وهو أن تدنو من الصيد بهدوء جداً، بشكل مراوغ ومخادع. في الفيلم تشير الكلمة إلى مهنة يمارسها أولئك الذين يعبرون التخوم ليتسللوا إلى المناطق المحظورة لهدف خاص: انهم يشبهون إلى حد ما قطاع الطرق أو المهربين.ستالكر أو "الدليل" نوع من المهنة كانت تنتقل من جيل إلى جيل، ويبدو لي أن المتفرجين لن يصدقوا بوجود أدلاء باقون حتى الآن، ليس هذا حسب، بل أنهم لايصدقوا حتى بوجود مناطق محظورة أو محرمة. محتمل أن المكان الذي تتحقق فيه الرغبات هو مجرد أسطورة، أو مزحة، ومحتمل أنه مجرد وهم من أوهام شخصيتنا الرئيسية في الفيلم. بالنسبة للناس، ربما سيبقى ذلك لغزاً. ان "الغرفة" التي تتحقق فيها الأمنيات، تستخدم هنا فقط كذريعة أو حجة للكشف عن النزعات والصفات الذاتية المميزة لتلك الشخصيات الثلاث في فيلمنا.

غوييرا:ماهي طبيعة الشخصية في فيلم " الدليل " ؟

تاركوفسكي:إنه رجل أصيل، نقي وصادق إلى أبعد الحدود، أو كما يقال، إنسان بسيط وبريء بشكل عقلاني. زوجته تصفه بـ " جالب السعادة ". انه يرشد الرجال في الدخول إلى المنطقة المحظورة لـ " يجعلهم سعداء " كما يقول. انه يكرس نفسه بنزاهة ولامبالاة إلى الحد الأقصى تماما،ً لهذه الفكرة، والتي تبدو له أنها الطريقة الوحيدة لجعل الرجال سعداء.
ان حكايته بشكل جوهري هي حكاية آخر المثاليين : حكاية الرجل الذي يؤمن بأحتمالية تحقيق السعادة المستقلة وغير المشروطة من خلال أرادة الأنسان وجهوده.
مهنته تمنح معنىً خاص وكلي لوجوده : الدليل في تلك المنطقة المحظورة هو أشبه بالكاهن، يقود الرجال إلى داخل ذلك المكان، فلربما يصبحوا سعداء.
بالطبع لا أحد، واقعياً، يجزم بدقة أو يؤكد بصحة أن يصبح الواحد هناك سعيداً أو لا. في نهاية رحلته داخل تلك المنطقة المحظورة، وتحت تأثير أولئك الذين يقودهم، يفقد الدليل إيمانه الخاص به : الأيمان بأمكانية جعل أي أنسان سعيد. إنه عاجز عن أن يعثر على قدرة الأفراد على الأيمان بوجود تلك المنطقة المحظورة، عاجز عن العثور على امكانية العثور على السعادة، أو الوصول إلى تلك "الغرفة". في النهاية، يكتشف أن فكرته الخاصة عن سعادة الرجال يمكن تحقيقها فقط بعون من الأيمان الكامل والخالص.

غوييرا:كيف حصلت، أو من أين جاءتك فكرة هذا الفيلم؟

تاركوفسكي:تونينو، أنت لست الشخص الأول الذي يطرح عليّ سؤال كهذا. كيف حصلت على فكرة لعمل هذا الفيلم أو ذاك؟ لا أستطع حقاً أن أعطي اجابة شيقة أو مثيرة للأنتباه مطلقاً.ان فكرة الفيلم تأتيني دائماً بطريقة عادية جداً ومضجرة. إنها تأتي تدريجياً، عن طريق صور وأشكال مبتذلة، إلى حد ما. أما سردها أو احصاؤها فهو ليس سوى ضياع للوقت. لايوجد بهذا الشأن، شيء ما فاتن وجذاب، أو شعري حقاً. لكن، فيما لو أراد الواحد على الأقل أن يصف تلك اللحظة، فهي مثل نوع من اضاءة مفاجئة! في إحدى المقابلات تحدث بيرغمان، إن كنت أتذكر ذلك بشكل دقيق، عن الكيفية المفاجئة لمجيء فكرة، أو بالأحرى، الصورة الذهنية، لأحد أفلامه فيما كان يراقب شعاع ضوء على الأرض في غرفة مظلمة.
أنا لا أعرف بوضوح كيف يحدث ذلك، ولم يحدث لي ذلك على الأطلاق. من الطبيعي أن تلك الصور الذهنية المحددة تخطر في البال لتظهر فجأة، لكنها تتغير بعد ذلك، محتمل بشكل غافل أو غير مقصود، تماماً كما في الحلم، وغالباً ماتتحول تلك الصور بشكل محير أو مربك وعنيد، إلى شيء جديد لايمكن تمييزه.

غوييرا:مع ذلك، هل ثمة حكاية وراء ولادة فيلم " الدليل "؟

تاركوفسكي:كان صديقي المخرج السينمائي جيورجي كالاتوزيفيللي قد قرأ مرة رواية قصيرة بعنوان " نزهة على جانب الطريق " وحدثني عن مضمونها، فأقترحت عليه أن يفكر، إن كان لديه اهتمام، في أن يعمل اقتباساً سينمائياً لها. بعدها، لا أدري ماذا حدث، كل الذي أعرفه أنه لم يتوصل إلى اتفاق مع الأخوان ستروغاتسكي، مؤلفا الرواية، ثم تخلى بعد ذلك عن الفكرة.مرت الأيام، وبدأت تلك الفكرة تخطر ببالي مرة أخرى من حين إلى حين. بعدها، وبشكل متزايد، بدا لي أنه يمكن عمل فيلم من تلك الرواية وفقاً للمبادىء الأرسطية الثلاث، أعني وحدة المكان والزمان والحدث. تلك الوحدات بدت لي أنها تسمح للواحد أن يصل إلى السينما الحقيقية، التي هي بالنسبة لي ليست مايسمى بسينما الحركة(الأكشن) أو السينما السطحية، أو السينما الدينامية ظاهرياً. لقد اعتقدت أن الموضوع الذي سينطلق منه أو يبنى على أساسه السيناريو، يسمح للواحد أن يعّبر، وبأسلوب مركـّز جداً، عن فلسفة المثقف المعاصر، كما يقال. أو بالأحرى عن وضعه. مع ذلك، ينبغي عليّ القول أن سيناريو فيلم " الدليل " يمتلك كلمتين، أسمين، مشتركان مع رواية الأخوة ستروغاتسكي " نزهة على جانب الطريق" هما الدليل والمنطقة المحظورة.
هكذا وكما ترى، أن الحكاية وراء فيلمي هي مخيبة للأمل أيضاً.

غوييرا:هل أن اللقطات التي كنت قد صورتها للفيلم توحي بفكرة محددة وواضحة لديك بشأن الجانب الموسيقي للفيلم؟

تاركوفسكي:حين شاهدت اللقطات المصورة لأول مرة فكرّت أن الفيلم ليس بحاجة إلى موسيقى. لقد بدا لي أن على الفيلم، بل ينبغي عليه أن يعتمد فقط على أصوات أو مؤثرات صوتية. إن الأصوات تمتلك قدرة تعبيرية أستثنائية، وربما لن تسمح للموسيقى أن تحل بديلاً عنها عموماً، لكن يمكن أن تحل محلها، وبشكل رائع، موسيقى تفسيرية، أو " موسيقى فيلمية" على وجه التحديد. إن واحداً إلى عشرة من المتفرجين سّيقدر أو يخمن سلفاً اللحظة التي تبدأ بها موسيقى كهذه، وحين يسمعها سيفكر حالاً، قائلاً: " آها.. جميل، الآن كل شيء واضح." أنا لا أحب ذلك، وأود أن أتجنبه مهما كلف الأمر.

غوييرا:على أية حال، أنا أشعر مع ذلك، أنك ستستخدم موسيقى في فيلم " الدليل".

تاركوفسكي:كنت أحب أن أجرب موسيقى مكتومة مبهمة، يصعب تمييزها، تسمع وسط ضجيج القطار الذي يمر من تحت نوافذ منزل الدليل. السمفونية التاسعة " نشيد الفرح " لبيتهوفن مثلاً أو موسيقى لفاغنر، أو ربما نشيد المارسيلز. بكلمة أخرى موسيقى نوعاً ما شعبية، بحيث تعّبر عن مغزى حركة الغالبية من الجموع، وعن موضوع مصير المجتمع البشري. لكن، ينبغي لهذه الموسيقى أن تصل إلى اذن المتفرج من خلال الضجيج، لكي يبقى المتفرج حتى النهاية لايعرف هل كان يسمعها أم انه كان يحلم. اضافة لذلك، أنا أحب أن تؤلف الأصوات والضجيج من قبل مؤلف موسيقي.
فبما أن الشخصيات الثلاث في الفيلم مثلاً، يسافرون لمسافات نائية وملتوية عبر عربة قطار، أحب أن يكون صوت العربة على خط السكة الحديدية صوتاً غير طبيعي، وينبغي أن ينفذ من قبل مؤلف موسيقي بمساعدة موسيقى ألكترونية، بأسلوب لايظهرها بشكل واضح أنها موسيقى وليس أصواتاً طبيعية. بكلمة أخرى، ينبغي على الأصوات أن تتحول، جزئياً، بواسطة الموسيقى الألكترونية لتقدم نفسها برنين جديد، أو دعنا نقول، أكثر شعرية.

غوييرا:وهل ستكون الثيمة الموسيقية الأساسية للفيلم؟

تاركوفسكي:نعم، وأنا لدي أحساس أنها ينبغي أن تستدعي وتثير في النفس الأحساس بأجواء الشرق الأقصى، وأن عليها أن ُتشحن، دعني أقول، بمضمون " زِن " التأملي البوذي، المُؤسس على مبدأ التركيز وليس الوصف. الثيمة الموسيقية الأساسية ينبغي أن تتجرد من العواطف من جانب، ومن الأفكار من جانب آخر، ومن أي قصد مبرمج.
إنها ستعبّر، بشكل مستقل، عن حقيقتها الخاصة عن العالم، وستكون متضمنة داخل نفسها.

غوييرا:هل يتضمن الفيلم شيء من سيرتك الذاتية؟

تاركوفسكي:ربما أكثر مما هو في فيلم "المرآة". في فيلم "الدليل" كنت قد أستخدمت العواطف وحتى الذكريات، الشخصية جداً. في "المرآة" ثمة شبه ملموس وجلي بين الممثلين وبين أناس واقعيين، تشابه بين مواقع التصوير والأماكن الواقعية. في "الدليل" هناك الكثير من اللحظات التي تثير في نفسي نوعاً غريباً من الأحساس بالحنين.
فلنأخذ شخصية الكاتب في الفيلم مثلاً. لقد بدا لي أن الممثل سالانتسن كان يقلدني بشكل دقيق جداً : وكنت أحياناً أتعرف، في طريقة أدائه، على ميزاتي الخاصة، طريقتي في الكلام، وطرق محددة لسلوكي، نبرة صوتي الخ... على الرغم من أن شخصية الكاتب في الفيلم، عموماً، هي شخصية لا أحبها كثيراً.

غوييرا:ماهي الشخصية التي تعاطفت معها كثيراً؟

تاركوفسكي:أكثر شخصية تعاطفت معها هي الشخصية الرئيسية في الفيلم، أعني الدليل. بمعنى أدق، كنت مقتنعاً أن ثمة شيئاً ما في داخلي مرتبط بهذا الأنسان.
كنت أود مساعدته بطريقة ما، أن أحميه. دعني أقول، أنه كان بالنسبة لي مثل أخ. أخ محتمل أن يكون ضائعاً، محطم نفسياً وجسدياً، لكنه في النهاية أخ.
على أية حال، أنا أشعر، بطريقة موجعة للقلب، لحظات صراعه مع العالم الذي كان قد أثخنه بالجراح بلاشك. أشعر بأستعداده السايكولوجي، دنوّه وإستجابته للواقع، وهذه كلها شبيهة بما يمور في داخلي.
لاحظ على الرغم من أنه رجل خارج عن القانون، لكنه أكثر ثقافة ومهارة وتفكيراً في الفيلم من الكاتب والعالم، اللذان هما في النهاية يعبران عن الجوهر الحقيقي للثقافة والعلم والتربية. كان لدي منذ البدء دافع قوي أن أعمل رفاً مملوءاً بالكتب يظهر فجأة في الفيلم، وقد ظهر فعلاً في نهاية الفيلم بسينوغرافيا غير ملائمة لموضوع كهذا.
كنت أحب أن يكون عندي رف كتب كهذا في منزلي. لم يكن لدي مطلقاً رفاً كهذا، وأحب أن يكون لديّ واحداً هكذا بنفس هذه الفوضى التي كان الدليل يحفظ فيه كتبه.

غوييرا:ثمة أشياء، أغراض وحاجيات صغيرة، تتكرر في أفلامك، وخصوصاً في أفلامك الأخيرة.

تاركوفسكي:هذا صحيح. إبتداء من فيلم " سولاريس" مروراً بـ "المرآة" و إنتهاء بـ "الدليل"ثمة أشياء تتكرر نفسها دائماً. قناني معينة، كتب قديمة محددة، مرايا، أشياء وحاجيات صغيرة متنوعة على الرفوف أو على حواف النوافذ. إنها الأشياء التي أحببت أن أمتلكها في بيتي، والآن هي تمتلك كامل الحق أن تجد نفسها في داخل لقطة أو أكثر في أفلامي.لو كانت تلك الأشياء لا أحبها، فببساطة لا أسمح لنفسي أن أبقيها في الفيلم، رغم أن شخصياتي تختلف بعضها عن البعض الآخر في سلوكها ومزاجها وطريقة تفكيرها، ولا تشبهني. ومع ذلك، ومن وجهة النظر هذه، فأنا أحاول أن أقصي وأزيل أي شيء لا أحبه من اللقطة.

غوييرا:بصدد فيلميك "سولاريس" و"المرآة"، هل ثمة صلة بينهما وبين "الدليل"؟وهل ثمة صلة أيضاً بفيلم "أندريه روبولوف" و"طفولة إيفان"؟

تاركوفسكي:أظن أن هناك صلة، وسأوضح ذلك. فيلم "الدليل" سمح لي أن أمسك بدقة وإحكام عظيمتين، الفكرة التي كانت تقريباً قد تضمنت أفلامي السابقة. الآن أفهم ماهي. لايبدو لي أنني أفكر أو أعتقد أو أؤمن بقوة ما يسمى الرجال " الأقوياء " ولا بضعف أولئك الذين تعودنا أن نطلق عليهم صفة " الضعفاء ". الأمر ليس بهذه السهولة. أو، ببساطة، ليس الأمر هكذا. لقد خطرت في ذهني هذه الفكرة حين كنت أعمل هذا الفيلم. لقد كان هدفي في هذا الفيلم أن أروي قصة عن انسان من هذا النوع على وجه التحديد: انسان ضعيف وقوي بشكل مؤثر ولافت في نفس الوقت. لكنني فجأة أدركت أنني كنت قد تناولت هذا النمط من الناس في أفلامي السابقة. و فيلم " طفولة إيفان " مثلاً هو أحد تلك الشواهد. إنه فيلم حول صبي يموت في الحرب بسن الثانية عشر من عمره. صبي، هو طفل بالتالي، وهو كائن ضعيف وضحية. لكن ذلك الصبي بدا لي، في الواقع، أقوى من العديد من الشخصيات التي كانت حوله.
دعنا نأخذ أندريه روبولوف، ذلك الراهب الوديع الخنوع والمتواضع، يحيا حياة الرهبنة الحقيقية التي تقنع بالأذلال والصبر والخنوع، فهو إذاً، بأية حال، انسان ضعيف بالمعنى العام للكلمة. إلا أنه يكشف عن نفسه أنه الأقوى. ليس فقط لأنه استطاع أن يبقى على قيد الحياة وسط تلك الكوارث المروعة التي حلت بروسيا في زمنه، لكن أيضاً، بسبب أنه كان يدرك ويبصر أنه جلب معه، عبر سيرته الشاقة، التوق الشديد للأبداع. أو دعنا نأخذ شخصية كيلفن في فيلم " سولاريس " فهو نموذج للبرجوازي الصغير، ضعيف الشخصية إلى حد ما. إنه شخص أقل مرتبة وأهمية من أي شخص آخر، وهو يعتزم أن يبرز ويظهر بشكل مميز.
هو لا يرغب بأي شيء استثنائي، أو أي شيء خاص، على العكس، على الرغم من أنه عالم نفسي، لكنه مايزال يظهر نفسه ذو شخصية قوية، من خلال صراعه ضد معضلات أناه الخاصة، مدركاً بوضوح مقاومته لها مسلحاً بنبله الأنساني. نفس الشيء في فيلم " الدليل " فهو يبدو ضعيفاً جداً، إلا انه يظهر نفسه الأقوى، من خلال رغبته الحقيقية في خدمة الرجال، بهدف منه في أن يجعلهم سعداء. هذا هو ما يوحـّد أفلامي.

غوييرا:لكن هذا يقود الفكرة إلى...

تاركوفسكي:أنا أتابع الفكرة بشكل لاواعي أو لاشعوري. بكلمة أخرى، إنها كما لو أنني كنت أروي قصة نفس الشخصية في كل مرة : قصة انسان يعتبره المجتمع ضعيفاً، فيما أعتبره أنا قوي. أنا مقتنع أنه بفضل شخصيات من هذا النوع بالتحديد، يمكن للمجتمع أن يصبح قوياً وينظر إلى المستقبل بشجاعة، بل يستطيع مقاومة أي شيء يهدف إلى تقويضه.
تماماً مثلما في فيلم " المرآة " الشخصية الرئيسية تقدم على أنها شخصية ضعيفة وتأملية إلى أبعد الحدود. إنها مثل رجل مريض يتذكر حياته خلال أزمة مرضه، دون أن يعرف هل هو سيخرج سالماً من مرضه أم لا.
وبسبب هذا بالضبط نراه يتذكر مايتذكره. وبدلاً من ذلك، هنا، انسان محتضر، هذا الأنسان الضعيف جداً، نراه يظهر نفسه قوياً، لأنه، رغم كل شيء، لاينتمي لنفسه. إنه ينتمي إلى الأشخاص الذين يتذكرهم، إنه ينتمي إلى الحب الذي منحهم أياه. وإذا ما قاسى فإن ذلك فقط بسبب أنه لم يحب أولئك الذين أحبوه بما يكفي.
هل هذا ضعف؟ هذه قوة. وبدلاً من ذلك، فإن العديد يلومونني لأن شخصيات أفلامي ليسوا أبطالاً. ثمة نزعة تعتبر أن البطل ينبغي أن يكون شيء ما هائلاً، ضخماً وجباراً، أو عنيفاً وقاسياً، نوعاً من الأنسان الآلي.
شخصياتي ليست هكذا، ولايمكنها أن تكون كذلك، لأنني مقتنع أن رجالاً كهؤلاء ليس لهم وجود، ولايمكنهم أن يوجدوا، ويجب أن لايستنسخوا، لأنه ينبغي على الواحد أن لايقلد أو يستنسخ الفراغ، والجمهور يدرك ذلك، وهو لا يمكنه مطلقاً أن يؤمن في بطل مصنوع من الحديد.

غوييرا:هل لديك رغبة أن تحدثني عن نهاية الفيلم لقطة فلقطة، كما لو أنني أعمى؟

تاركوفسكي:هذا سؤال شيق حقاً. ربما من الأفضل في هذه الحال أن لاتعمل أفلاماً، بل فقط ترويها لأعمى. فكرة رائعة!
الواحد ليس بحاجة أكثر من جهاز تسجيل. "الفكرة المكشوفة كذبة" على حد قول أحد الشعراء.

غوييرا: حسناً، أنا لا أرى شيئاً. احكي لي.

تاركوفسكي:لقطة ـ كلوز آب ـ لفتاة صغيرة مريضة تتدثر بوشاح، هي ابنة الدليل، تمسك بكتاب كبير أمامها. نراها بشكل جانبي وهي تقابل نافذة مضاءة.تتراجع الكاميرا ببطىء لتظهر جزءاً من المنضدة التي أمامها. لقطة ـ كلوز آب ـ للمنضدة وعليها صحون قذرة، قدحان واناء واسع. تضع الفتاة الصغيرة الكتاب على ركبتيها، ونسمع صوت يكرر ماقرأته : تتطلع الفتاة نحو أحد القدحين، وتحت قوة نظرتها، يبدأ القدح يتحرك نحو الأمام بأتجاه الكاميرابعدها، تغير الفتاة نظرتها فنراها تحدق نحو القدح الآخر، فيبدأ بالحركة هو أيضاً. من ثم تتطلع نحو القدح الذي هو في وسط المنضدة، فيبدأ في الحركة لحين يسقط على الأرض، إلا أنه لاينكسر. نسمع صوت قطار يمر بالقرب من المنزل، يحدث ضجيجاً غريباً، تهتز من أثره جدران المنزل وترتعش بشكل متزايد. تعود الكاميرا إلى لقطة ـ كلوز آب ـ للفتاة، وبهذا الصوت وهذا الضجيج ينتهي الفيلم.

غوييرا:أي اللقطات والصور التي في أفلامك تعتقد أنك "سرقتها" من أحد ما، بعد أن أعدت تشكيلها ثانية بالطبع بطريقتك الخاصة؟بنفس المعنى، ماهي اللوحات الفنية أو الأفلام أو الأعمال الفنية، التي مارست تأثيرها عليك؟

تاركوفسكي: عموماً، أنا أخشى هذه الأشياء وأحاول أن أتجنبها دائماً. أنا لا أحب حين ُيذكرّني أحد ما، في ما بعد، أنني في هذه الحالة أو تلك لم أكن أمارس عملي بحرية و بشكل مستقل تماماً. لكن، ومنذ فترة قريبة، بدأ الأقتباس يصبح مشوقاً ومثيراً للأنتباه بالنسبة لي حقاً. لنأخذ فيلم " المرآة " مثلاً، فهو يتضمن مشهداً كانت قد صورت بشكل رائع في أحد أفلام بيرغمان. لقد أنفقت وقتاً طويلاً أفكر بتصوير المشهد بتلك الطريقة في وقت مؤات، معتقداً
أن ذلك سيكون نوعاً من الأحترام والتبجيل لبيرغمان. أما المشهد فهو حين تفكر تيريخوفا بيع أقراطها، وتحاول لاريسا زوجة الطبيب أن تجرب تلك الأقراط وهي تتطلع نحو الكاميرا، كما لو أنها تتطلع في المرآة.
وجه تيريخوفا وهي تطلع في المرآة، وخلفها وجه لاريسا، التي تتحرك لتقترب من الكاميرا محاولة لبس الأقراط، تتطلع نحو صورتها وهي معكوسة في الظلال.
أنا لا أعرف لماذا بدا لي أن هذا المشهد كان شبيهاً جداً بشيء ما كان بيرغمان قد صوره في أحد أفلامه.

غوييرا:اقتباسات أخرى؟

تاركوفسكي:مرة أخرى في فيلم "المرآة". خذ مشهد المرشد العسكري. ثمة لقطتان أو ثلاثة لقطات مستلهمة من لوحات الرسام بروغل: الصبي، الأشخاص ذو القامات القصيرة، الثلج، الأشجار العارية، النهر من بعيد. لقد شيدت تلك اللقطات بشكل واع جداً ومدروس، وليس من منطلق اظهار حجم ثقافتي، بقدر ما كنت أريد أن أدلي بشهادة حب وأعتراف بالجميل لبروغل، لأعتمادي عليه، أردت أن أعبر عن الأثر العميق الذي تركه في حياتي.
في "أندريه روبولوف" أعتقد أن هناك مشهداً ينسب إلى المخرج الياباني العظيم ميزوغوتشي. لقد كان مشهداً عفوياً، ولم أميزه إلا حين أكملنا الفيلم وفي لحظة عرضه.
انه المشهد الذي يعدو فيه الأمير الروسي بحصانه الأبيض عبر الريف، فيما يمتطي التتري حصاناً أسود.
لقد بدا لي أن سجية الصورة بالأبيض والأسود، أن غموض وظلمة النهار الرمادي كانت تميل لأن تشبه منظراً طبيعياً مخطط بحبر أسود صيني. الحصانان يركضان أحدهما جنب الآخر، فجأة يصرخ التتري، يصفر بفمه، يضرب الحصان بالسوط ويبدأ في تجاوز الأمير الروسي. الأمير يحاول مطاردة التتري لكنه لا يستطيع الوصول إليه. في اللقطة اللاحقة نرى الأثنان ساكنان دون حركة، ولاشيء بعد ذلك سوى صورةالأمير الروسي وهو يتذكر محاولاً الوصول هو وحصانه إلى التتري، لكنه يفشل في تحقيق ذلك.
هذه اللقطة ثانوية تماماً وظيفتها دفع وتقدم نمو القصة. إنها، على نحو أدق، تحاول أن تعبر عن حالة الذاكرة ولتضيء العلاقة بين هذين الرجلين. إنها أشبه بلعبة بين صبيين، أحدهما يركض ليسبق الآخر قائلاً: " لا يمكنك أن تمسكني!" والآخر يركض خلفه محاولاً بأية طريقة الوصول إليه، لكنه لا يستطيع فعل ذلك. وبعدها، فوراً، ينسيان اللعبة ويتوقفان عن الركض.

غوييرا:جوهرياً، أن من يدعّي أنه لايقتبس من أحد، فهو كمن يدعّي أن ليس لديه أب أو جد أو...

تاركوفسكي:أنا مقتنع بذلك أيضاً.
يبدو لي أن أي جانب أصيل في عمل الكـتاّب أو الرسامين، الموسيقيين أو مخرجي الأفلام، الحقيقيين، يحتوي دائماً على جذور عميقة، لذا فأن العودة إلى مصادر الماضي البعيد، هو شيء متعذر اجتنابه.
أنا لا أعرف حتى من أين نشأ ذلك. ربما أن ذلك هو ليس خاصية لحالتنا الروحية، بل هو مظهر نمطي لزمننا، لأن الزمن رغم ذلك له وجهان، فهو متقلب وقابل للأنعكاس، وهذا على الأقل ما أعتقده.
نحن غالباً ما نكتشف أن ثمة شيئاً ما كنا قد مارسناه أو جربناه من قبل.
أنا شخصياً، تأملي بأفلام بريسون*** والتفكير بها ملياً، يساعدني كثيراً أثناء عملي. مجرد التفكير ببريسون، ولا أتذكر بالتحديد أي فيلم من أفلامه، من شأنه أن يعزز فيّ أشياء كثيرة. أتذكر فقط طريقته الزاهدة المتقشفة القصوى، بساطته، وضوحه.
إن التفكير ببريسون ساعدني، حقاً، على التركيز على الفكرة الرئيسية للفيلم.

غوييرا:وهل فكرت بأي إيطالي؟ هل كان لديك يوماً ما حافز أو دافع لتقتبس منهم؟

تاركوفسكي:أنتونيوني يخطر بذهني أحياناً، خصوصاً أفلامه التي صورها بالأبيض والأسود.
وفيلمه " المغامرة " أفضّـله، على وجه التحديد، من بين جميع أفلامه.
فيلم " ثمانية ونصف " لفلليني أيضاً، لكن ليس من وجهة النظر المجازية.
من وجهة النظر المجازية البحتة أنا أهتم بالحلول الشخصية، أو يمكن القول بالطبيعة الروحية لفيلمه " كازانوفا " في استخدامه للمواد المطواعة اللدنة ذات الخاصية البلاستيكية.
الجانب الشكلي في هذا الفيلم، من وجهة نظري، هو ذو مستوى عال بشكل غير محدود. أما لدانته ومطواعيته فهي عميقة بشكل لايصدق.
حين أقوم بتصوير فيلم ملون أتذكر أحياناً لقطات أخرى من أحد مشاهد أفلامه" ثلاث خطوات نحو الهذيان" **** عن الممثل الذي قدم إلى روما ليلعب دوراً. أتذكر تلك اللقطة المذهلة في الطائرة، اللقطة الأستعراضية في داخل الطائرة، وإستخدام الأنوار الكاشفة في المساء، ذلك المشهد الضارب إلى الصفرة بكاميرا تصور الناس والطائرات من الأعلى من خلف الألواح الزجاجية... نعم، أتذكر تلك الأضواء.
هذه ليست طريقتي بالطبع. أنا أحب أن أكون بسيطاً فطرياً قدر الممكن.

غوييرا:هل تفكر بعمل شيء ما مباشرة بعد فيلم " الدليل " ؟ أعني أن تبدأ في عمل جديد؟

تاركوفسكي:أحب أن أبدأ تصوير الفيلم الذي أتفقنا أنا وأنت عليه " رحلة إلى إيطاليا " وبأمكانك أنت أن تتحدث عنه أكثر مني.
على أية حال، علينا أن نعرف كيف نتجنب السينما المملة، السينما التجارية، وهذا لايعني أننا سنفقد المتفرجين.
أحب أن أعمل فيلماً سنفقد فيه بعض المتفرجين ونكسب متفرجين جدد آخرين كثيرون. أحب أن يشاهد فيلمنا أناس مختلفين ومتنوعين كي لاتسمى سينما المتفرج.

غوييرا:أحد ما أخبرني أنك تحب أن تغير طريقتك السينمائية تماماً. هل هذا صحيح؟

تاركوفسكي:نعم، لكن فقط لا أدري كيف. سيكون ذلك رائعاً، أن تصور فيلم بحرية تامة، تماماً مثل الهواة حين يعملون أفلامهم. نبذ الميزانية الباهضة.
أحب أن تكن لدي الأمكانية لمراقبة وملاحظة الطبيعة والناس بعناية، وأن أصورهم دون عجالة.
القصة ستولد آلياً كنتيجة لتلك المراقبة والملاحظة، وليس عبر تلك اللقطات المضطر للألتزام بها أو المجبر على تصويرها، تلك المصممة بتفصيل دقيق.
فيلم كهذا سيكون من الصعب تمييزه، بالطريقة التي تميز بها الأفلام التجارية.
سيكون تصويره بحرية مطلقة، غير خاضعة للأضاءة أو للممثلين أو وقت العمل في التصوير..ألخ.. والتقليل بعض الشيء من فحص الكاميرا بين الحين والآخر.
أظن أن طريقة كهذه يمكن أن تدفعني إلى الحركة أكثر نحو الأمام.

***


أندريه تاركوفسكي (1932 - 1986)

فيلموغرافيا


إبن الشاعر الروسي الشهير أرسيني تاركوفسكي.
مخرج سينمائي وسيناريست، حاصل على لقب فنان الشعب في العام1982.
1961 أكمل معهد السينما العالي في موسكو " فغيك " بعد أن تتلمذ على يد البروفيسور والمخرج والمنّظر السينمائي ميخائيل روم. أخرج فيلم التخرج " المدحلة والكمان " وقد شارك في كتابة السيناريو مع أندرون كونتشيلوفسكي، وكان الفيلم من إنتاج ستوديو موسفيلم.
1962 أخرج فيلم " طفولة إيفان ". سيناريو فلاديمير بوغومولف وميخائيل بابافا.
حصل الفيلم على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان فينيسيا في العام نفسه.
1966 ـ 1971 أخرج فيلمه الشهير " أندريه روبولوف ". كتب السيناريو هو وأندرون كونتشيلوفسكي
1972 أخرج فيلم " سوليارس " المقتبس عن رواية س. ليما. كتب السيناريو هو و فردريك غورنشتاين.
أخرج فيلم " المرآة ". كتب السيناريو هو والكسندر ميشارين. 1975
أخرج مسرحية " هملت " على خشبة مسرح لينكوم. موسكو. 1977
1980 أخرج فيلم " الدليل " المأخوذ عن رواية " نزهة على حافة الطريق " لأركادي ستروغاتسي وبوريس ستروغاتسي، اللذان قاما في كتابة السيناريو أيضاً.
1982 أخرج الفيلم الوثائقي " زمن الرحلة " وكتب السيناريو سوية هو والسيناريست الإيطالي تونينو غوييرا.
أخرج أوبرا " بوريس غودونوف " للشاعر الروسي بوشكين على خشبة مسرح كافيرن غاردن ـ لندن
1983 أخرج فيلمه " الحنين ". كتب السيناريو معاً وتونينو غويرا.
1986 أخرج فيلمه الأخير " القربان " حيث كتب السيناريو بنفسه، وكان الفيلم من إنتاج معهد السينما السويدي.
حاز الفيلم على جائزة " الإبداع السينمائي " في مهرجان كان السينمائي من نفس العام.
كان الفيلم يومها محظوراً في بلده حتى عام 1986، إلا أن الجمهور الروسي إستطاع مشاهدته ولأول مرة بعد وفاته.
نفس العام أعيد له الأعتبار في بلده، لشخصه كمواطن، ولأفلامه كفنان.
أكمل تاركوفسكي كتابه" نحت الزمن " وهو على فراش المرض، حيث شخص الأطباء يومها بداية اصابته بسرطان الرئة.
كان تاركوفسكي ذلك العام يقيم في باريس، منفياً بعيداً عن وطنه، بعد أن انضمت إليه وزوجته وولده الوحيد أندريوشكا، الذي سمح له بالسفرإلى باريس فقط لأن الجميع عرف أن تاركوفسكي سيموت قريباً.
وبالفعل لم يمهله السرطان طويلاً، فتوفي هذا الأنسان والمخرج العظيم في 29 ديسمبر من نفس العام، ودفن في مقبرة القديس جينيفير ديس بويس الأرثدوكسية بالقرب من باريس حسب وصيته.


(تونينو غوييرا (1920 ـ )

فيلموغرافيا (الأفلام التي كتب سيناريوهاتها)

التأريخاسم الفيلم اسم المخرج

1956الأنسان والذئابجوسب سانتيسسيناريوغوييرا + إيليو بيتري
1960المغامرةمايكل أنجلو انطونيوني
1961La Notte "
1962الأفول"
1964 الصحراء الحمراء"
1965كازنوفا 70 ماريو مونيسيللي
1967الأنفجارمايكل أنجلو انطونيوني
1970حافة زابريسكي"
1972قضية ماتيفرانشيسكو روزي
1973لوسيانو المحظوظ"
1974أماركودفريدريكو فلليني
1976الجثث الرائعةفرانشيسكو روزي
1979زمن الرحلةأندريه تاركوفسكي
سيناريو غوييرا و تاركوفسكي
1980الأخوة الثلاثفرانشيسكو روزي
1982ليلة تصوير النجومالأخوة تافياني
إثبات هوية امرأةانطونيوني
الباخرة أبحرتفلليني
1983الحنين أندريه تاركوفسكي
1984Kaos الأخوة تافياني
رحلة إلى سيثيراثيو أنجيلوبولس
1985جنجر و ألفريدفلليني
1986مربّي النحلثيو أنجيلوبولس
1987صباح الخير بابيون.الأخوة تافياني
قصة موت معلن (مقتبس عن رواية غابريل غارسيا ماركيز)فرانشيسكو روزي
1988منظر طبيعي في الضبابثيو أنجيلوبولس
1990الجميع رائعونجوسب توناتر
1991The Suspended Stride of the Stroke
1993غوليم ـ الحديقة المحجورةآموس جيتي
1995تحديقة يوليسيسثيو أنجيلوبولس
وراء السحبانطونيوني
1999 Eternity and A Dayثيو أنجيلوبولس
2005" إيروس " أو الشوقانطونيوني

•حصل غوييرا على جائزة الأوسكار ثلاث مرات عن الأفلام التالية:
كازانوفا 70 لماريو مونيسيللي، و الأنفجار لأنطونيوني، وأماركود لفيلليني.
•حصل أيضاً على جائزة مهرجان كان عن أفضل سيناريو لفيلم رحلة إلى ساثيرا، لثيو أنجيلوبولس، وجائزة الشرف في مهرجان فينيسيا السينمائي.


كلمة عن فيلم "ستالكر أو الدليل"

ستالكر قصة من نوع قصص الخيال العلمي كتبها الأخوة ستراغاتسكي وكانت بعنوان " نزهة على حافة الطريق " تحكي عن مركب فضائي كان قد هبط إلى الأرض منذ عشرين عاماً مضت، ودمر إحدى المدن الريفية الروسية، وقيل أن القرويين كانوا قد جذبهم الفضول لمعرفة هذا الشيء الغامض والغريب الذي هبط عليهم من السماء، فساروا نحو تلك المنطقة المسماة الآن " المنطقة المحظورة " ودخلوها، واختفوا تماماً عن الأنظار!. القصص التي تداولها الناس في ما بعد تدور عن وجود " غرفة " داخل تلك المنطقة تدعى الملاذ الغامض، يومها وتلافياً للأشكالات وتأميناً للمنطقة قام الجيش السوفييتي بأحاطة تلك المنطقة بأسلاك شائكة وقيامه بدوريات عسكرية استكشافية، واعتبرها منطقة محّرمة.
ثمة شخص مشرد بائس وغير سعيد، وهو في الفيلم الممثل الكساندر كايدونوفسكي، اختار أن يعيش هو وزوجته وابنتهما الصغيرة المعاقة، في كوخ خرب في تلك المنطقة المحظورة. هذا الشخص هو مزيج من مواصفات الأنسان المثالي وشيء من دون كيخوت، مهنته دليل أو مرشد يقود القادمين للدخول إلى هذه النطقة المحرمة للوصول إلى غرفة تحقيق الأمنيات، متجنباً بحذر شديد الأفخاخ والمصائد المتحركة التي كان قد وضعها رجال الشرطة والجيش.
القادمان الجدد أحدهما كاتب شهير وناجح وهو الممثل أناتولي سولونيتسن في الفيلم، والآخر عالم فيزيائي معروف، هو الممثل نيكولاي غرينكو.
الأول ربما قدم بدافع للقيام بنوع من المغامرة أو بحثاً عن مصدر للألهام، والثاني جاء يبحث عن الحقيقة كما يقول.
الدليل كان قد خبر هذه المنطقة يوم كان يتدرب على يد المرشد الشهير بوركوباين، الذي كان في نزهة قصيرة مع أخيه داخل تلك المنطقة، والذي عاد في ما بعد وحيداً، وأصبح ثرياً بشكل غير محدود، لينتحر في الأسبوع اللاحق.!

المنطقة في الفيلم مقفرة وملتبسة، وثمة حطام دبابات عاطلة مهجورة، كما لو أنها آثار حرب.
واضح أن الوصول إلى تلك المنطقة المحظورة هو ليس العقبة الكبرى في طريق الرجال، بل هي شكوكهم المستديمة بشأن رغباتهم الدفينة.
فما أن يصل الثلاثة إلى عتبة تلك الغرفة في نهاية رحلة خطيرة، مفزعة وموجعة، حتى يظهر بجلاء أن خشيتهم وذعرهم من تجسيد طلباتهم المستجابة تلك يقودهم إلى رؤيا واكتشاف ذاتي عميقين، لأن الغرفة وحدها هي القادرة على التقاط تقريعات الضمير والأفكار الخفية في أعماق الروح. لذا نرى الكاتب والعالم لايطلبان شيئاً ولا يرجوان أية أمنية ويلتزمان الصمت.
وهكذا يصمت الرجال الثلاثة في غرفة تحقيق الأمنيات، لأن الرغبة التي سيتم البوح بها لن تكون صادرة عنهم، بل صادرة عن العبء الثقيل الذي يحملونه في أعماقهم، بمعنى أن تحقيق مثل هذه الرغبات هو بمثابة استرجاع وتكرار للواقع غير المثالي وغير السعيد، ومع ذلك يعتبر تاركوفسكي هذا الصمت هو وجه إيجابي لمثل هكذا رحلة، لأنه في الآخر، إجتياز لقوة استمرار الوجود السابق واجتياز للواقع الذي كانوا يحيونه حتى هذه اللحظة.
يرى الدليل في رفيقيّ الرحلة، الفهم الملتبس وعدم الأيمان، فهو في واقع الأمر ليس مبشراً بحقائق سامية ومحتومة، لكنه يسعى فقط لبعث الأيمان في نفوس من يرافقوه هذه الرحلة في هذه المنطقة المحرمة، ويؤمن أن العالم يمكن أن يتجدد ويتغير ويبتعد عن الكارثة إذا سعى الناس لذلك. في مونولوجه الداخلي يصف رفيقيه في الرحلة قائلاً : " إن مايسمونه ولعاً هو ليس طاقة روحية في واقع الأمر، بل مجرد احتكاك بين الروح والعالم الخارجي..". فلكي يتوافق الأنسان مع قوى الطبيعة ويصبح شريكاً كفؤاً لها، حسب تاركوفسكي، ينبغي أن يمتلك الأنسان الطاقة الفطرية للروح تلك التي هي في نشاط دائم، وكذلك هو بحاجة إلى سماع صوته الداخلي المتصاعد.
يكتشف الدليل في نهاية الرحلة أن رفيقيه يفتقران إلى المثل العليا وإلى الأيمان بتحقيق السعادة، لذا يعتقد أنهما لايعيشان بطاقتهما الخاصة تلك المتولدة فيهما، بل بطاقة أخرى أفتراضية. وهذا مايبعث في نفسه خيبة الأمل لأنه فشل في حثهم على بعث طاقاتهم الروحية تلك، وهي مهمة كان قد إستلهمها من مقطع من انجيل لوقا، تتحدث عن سخرية اثنان من تلامذة المسيح عن معجزة قيام سيدهم المسيح.

فيلم "الدليل" هو رحلة فانتازية صوب الأعماق للأقتراب من الروح، أما الغرفة فهي ترميز لذلك المطهر الذي يسعى الأنسان بشوق للوصول إليه ليزيل عن تلك الروح ماعلق بها من أدران وشرور. روبرت بريسون (1901 – 1999) مخرج سينمائي فرنسي، تميز بتصوير الثيمات الدينية سينمائياً. تميز هذا المخرج بخصوصيته، وعمل الأفلام التي يريد، دون الأنقياد إلى العامل التجاري أو مايشتهي الجمهور، اضافة إلى لامبالاته بالشهرة. نشر بريسون كتاباً قبل وفاته بعام بعنوان " خمسون فيلماً دينياً " وقد نشره على حسابه الخاص!.

فيلم "ثلاث خطوات نحو الهذيان" هو فيلم أنطولوجي، انتاج فرنسي إيطالي 1968، ُوزع يومها في الولايات المتحدة بعنوان "أرواح الموتى"، ساهم فلليني بأخراج أحد أجزاءه.
alikamel50@yahoo.co.uk

**************************

الحوار الثاني اجراه جيديون باخمان

"نوستالجيا أو الحنين إلى الوطن"

".. كان تاركوفسكي أشبه بمعجزة.. أحسست فيه بمن يشجعني ويحثـني, بمن يعبّر عما كنت أريد أن أقوله دائمـاً، ولكن من دون أن أعرف كيف أقوله.. تاركوفسكي، بالنسبة لي، هو الأعظم.. لقد إبتدع لغـة جديـدة.." (بيرغمان)

باخمـان:وددت في البدء أن أسمع إنطباعاتك عن العمل في الخارج..

تاركوفسكي: فيلم "الحنين" هو أول فيلم وبداية أول تماس لي بطقوس العمل في الخارج. إن عملية تصوير فيلم هو أمر عسير في كل مكان بلا شك، لكنني أظن أن الصعوبات يمكن أن تتغير. أصعب مأزق هنا في الغرب، وعلى الدوام، هو شحة التكاليف المالية لإنتاج فيلم، كذلك ضيق الوقت. الجانب المالي، على وجه الخصوص، يضع عراقيل كثيرة في طريق إنتاج العمل الإبداعي. وبسبب شحة التكاليف المالية وعدم كفايتها في تغطية العمل الفني، تبرز معضلة عدم كفاية الوقت. كلما صوّرتَ كثيراً، كلما زادت الكلفة. المـال هنا في الغرب، يلعب دور المستبد. في بلادنا لم أفكر مطلقاً في شيء إسمه الكلفة!. حين وجّهت شركة التلفزيون الإيطالية دعوة لي لتصوير فيلم في إيطاليا، كانت متعاونة معي، ولكن في كل الأحوال، كانت الميزانية المرصودة لإنتاج الفيلم تكاد تكون شحيحة. فضلاً عن ذلك، لم تكن لديّ أية خبرة مسبقة للعمل خارج البلاد. كل ماكنت أملكه، هو موافقتي على العمل فقط. كان المشروع يحمل صفة ثقافية وليس صفقة تجارية. إن العمل مع فريق التصوير الإيطالي، ترك لديّ إنطباعاً طيباً، وخصوصاً العمل مع الفريق التقني. إنهم فنيون محترفون وأصحاب خبرة، وفي أغلب الظن، أن

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف