مكتبة إيلاف

مسرحية بيكت: في انتظار غودو

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

"في إنتظار غودو" على خشبة مسرح "باربيكان" اللندني

"لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب. هذا شيء رهيب" (إيستراغون)

لقد كتب الكثير عن هوية غودو، إلا أن الرؤية الأكثر عمقاً ودلالة هي تلك التي تؤكد على أن غودو هو ما نعتقده شيئاً آخر غير الذي نعتقده!. إنه "الغائب" الذي يمكن تأويله على أنه "الخالق" أو ربما "الموت"، ومن الممكن أيضاً أن يكون المستبد بوزو نفسه. ومع ذلك فإن لغودو وظيفة أخرى أكثر من كونه يشكل دلالة محددة، فهو الوهم الذي يبقينا مق بيكيت مع المخرج أسموس يدين بهذا الوجود، وهو الشيء الذي لاسبيل إلى معرفته. غودو هو صورة وهمية أو خيال لما نريده نحن أن يكون، طالما أن بإستطاعته أن يسّوغ حياتنا كحالة من الأنتظار. ربما هو "الأنتظار" نفسه ومن الممكن أيضاً أنه يمثل "الأمل" في زمن لاأمل فيه. الأمل يتشيد هنا كشكل من أشكال الخلاص مُجسّداً بشخصية غودو أو ربما بالشخصيتين بوزوولاكي أو.. بالموت نفسه. لكن حين يصبح الأمل مقترحاً مستحيلاً عندئذ تصبح ثيمة المسرحية نموذجاً لكيفية تزجية الوقت (الحياة)!.
حين يحاول إيستراغون نزع حذائه ويفشل في قيامه بذلك يعّلق قائلاً: "ليس ثمة شيء يمكن عمله"، وحين يسمع صديقه فلاديمير تلك العبارة بالصدفة لايعزو دلالاتها لصعوبة خلع الحذاء، بل لمآزق أخرى تتعلق بحياة إيستراغون الخاصة فيعلق قائلاً:"لقد بدأت أقتنع بهذه الفكرة"، مستخدماً ذات العبارة فيما بعد في مأزقه مع قبعته بنفس الدلالة التي كان يعنيها إيستراغون.
عبارة "ليس ثمة شيء يمكن عمله" جوهرياً، هي توصيف كامل ومختزل لمفهوم اليأس. لذا فإن النتيجة المنطقية لتفكيرهما معاً ستكون حتماً إتباع سلوك يقصيهما عن التفكير، شيء ما يشغلهما عن ذلك كاللعب أوالتسلية أو إختلاق حكايات وأفكار ملفقة من أجل تمضية الوقت. لذا من الممكن إفتراض أن حتى حكاية غودو نفسها ربما هي حكاية ملفقة إختلقاها لأضفاء مغزىً ما على حياتهما، حيث العبرة ليس في مجىء غودو إنما في مواصلة الأنتظار.

***
المسرحية مشيّدة من فصلين متماثلين ومكررّين يحدثان في يومين متعاقبين. في شارع ريفي وبالقرب من شجرة جرداء يجلس مشرّدان أحدهما يدعى فلاديمير (ديدي) والآخر إيستراغون (غوغو) بإنتظار شخص يدعى غودو. إنهما لم يرونه من قبل وحتى لو رأوه فلن يعرفانه، ومع ذلك فهما يعتقدان أنه هو من رتبّ لهما هذا اللقاء وفي هذا المكان!.
في منتصف النهار يصل شخصان غريبا الأطوار، سيد وعبده، الأول يدعى بوزو والآخر لاكي. يظن المشردان في البدء أن السيد بوزو هو غودو، إلا أن ذلك الظن يتبدد حالما يخبرهما أنه صاحب هذه الأرض التي يقفان عليها الآن. يسحب السيد بوزوخادمه لاكي بواسطة الحبل الذي عّلق برقبة، آمراً إياه أن يجلب له الطعام. يحضر لاكي له دجاجة فيبدأ بوزو بإلتهام الدجاجة ورمي عظامها إلى لاكي. بعدها يخبرهما أنه ذاهب إلى السوق لبيع خادمه لاكي ويغادران. يصل صبي في آخر النهار ويخبرهما أن السيد غودو لم يستطع الحضور هذا المساء، إلا أنه سيحضر في الغد حتماً. في صباح اليوم التالي يعود بوزو ولاكي ثانية وقد أصبح الأول ضريراً والثاني أخرساً. السيد يصبح عبداً والعبد سيداً!. (تبادل أدوار).. يظهر الصبي ثانية في المساء مكرراً عليهما جملته السابقة ذاتها، شاجباً مايقولانه أنه جاء إلى هنا في الأمس أو كان إلتقى بهما من قبل. في النهاية يقطع المشردان عهداً على نفسيهما في المغادرة والعودة ثانية لإنتظار غودو:
فلاديمير: حسناً، هل ينبغي علينا أن نغادر الآن؟
إيستراغون: نعم، هيا بنا.
(يتسمران في مكانهما)

***

(العادة بلادة كبرى)
كان بيكيت قد فكرّ في نسخته الأولى للمسرحية أن يكون عنوانها (إنتظار) فقط، من دون غودو، لأجل صرف إنتباه المتفرج عن هذه الشخصية الملتبسة غودو، لينشغل في موضوع الأنتظار، آملاً من ذلك، أي بيكيت، أن لاينهمك متفرجه في التركيز على أية شخصية في المسرحية قدر أن يفكر في كيف أن وجودنا كله هو عبارة عن إنتظار.
في رواية "الطاعون" يستنتج البير كامو إلى أن السأم، هو محصّلة لفعل الأنتظار، وكلاهما نتاج واحد لأنهيار العقل والجسد معاً سببه الروتين والعادة، ما يدفع بالمرء إلى أن يفكر ويتأمل هويته الذاتية بشكل جاد، تماماً مثلما يفعل ديدي وغوغو في المسرحية. هذه الفكرة تكاد تتماهى تماماً وموضوعة "التأمل" الذي هو نشاط راكد يسمح للمرء في أن يفكر بصفاء.
الأنتظار هو تهكم صارخ لفعل وجودي غير مبرّر أو مجدي ولن يأتِ بشيء، فبدل غودو المنتظر يأتِ بوزو الأعمى يقوده عبده الأخرس. أعمى وأخرس.!
إن هدف إنتظار فلاديمير وإيستراغون لغودو "الذي لن يصل مطلقاً" هو أن يضعا نظاماً أو منهجاً لحياتهما، إلا أنهما يخمدان شيئاً فشيئاً وسط لاجدوى ذلك الأنتظار مكررّين جملة واحدة تصبح أشبه باللازمة:"ليس ثمة شيء يمكن عمله".
فلاديمير نفسه يصل إلى قناعة راسخة من أن الوجود هو شي غير مجدي:
فلاديمير:كنت أحاول طوال حياتي أن أكفّ عن ذلك، لكنني مع ذلك بقيت مستأنفاً معركتي. إيستراغون:وكيف تورطنا في هذه القضية؟.
فلاديمير لايجيب بالطبع على سؤال كهذا.
بيكيت يحاول هنا أن يوصل خطاباً مفاده إن التفكير في الأسئلة التي يصعب الأجابة عنها والتي تبرز نتيجة لفعل الأنتظار، ينتج الألم والقلق وتعطيل فعالية الأنسان وتحطيمه من الداخل.
إن شخصياته ينبغي عليها أن تواصل إنتظارها للشيء الذي لن يأتِ مطلقاً، تماماً مثل لاجدوى معاودة حمل سيزيف لصخرته مرات ومرات ومرات، إلا أنها، أعني شخصياته، مع ذلك تظل تنتظر وتنتظر حتى اللحظة الأخيرة للسقوط في هوة الشيخوخة والخرف، المرحلة التي تقزّم تلك الشخصيات وتضاعف من بؤسها وعجزها وتبعيتها في الآخِر.
الأنتظار في مفهوم بيكيت هو ليس فراغاً بل فعالية متعاقبة، من الممكن أن تكون فعلاً غريزياً أو ربما فعلاً عقيماً، وكل ذلك يتوقف على إدراك المرء له. والأنتظار، بالنسبة لبيكيت نفسه يصبح أيضاً أسلوباً للحياة، فهو إنتظار للإلهام، إنتظار للمعرفة، إنتظار للأدراك أو ربما إنتظار... للموت.
بيكيت يؤمن أن الناس يحاولون أن يخففوا عنهم عبء أوجاع الحياة والوجود عن طريق العادة. فمفهوم "العادة" شيء جوهري بالنسبة للوجود الإنساني، وهو الأساس الذي شيد عليه سارتر نفسه وجهة نظره التي تزعم أن:(... الناس هم بحاجة إلى أساس عقلي أو منطقي لحياتهم غير أنهم غير قادرين على تحقيق ذلك، ولهذا تجد إن حياتهم هي معاناة متواصلة وعقيمة).
فلاديمير وإيستراغون يسعيان لأقامة مثل هذه القاعدة المنطقية أو العقلية لحياتهما عبر الأنتظار،إلا أنهما غير قادرين على تحقيق ذلك، ومن هنا تنشأ معاناتهما العقيمة.
أن قوانين الذاكرة، حسب بيكيت، تخضع للقوانين الأكثر عمومية لمفهوم العادة، وهو يحس أن العادة هي الدرع الذي يحمينا من الأشياء التي لايمكن التنبؤ أو التحكم بها.
في بحثه عن بروست، كتب يقول: (العادات هي نوع من التسوية أو حلاً وسطاً بين الفرد والبيئة (... ) إنها تلك الصفقات التي توفر ضمانات مادية وروحية لكبح تخطي المحرمات البليدة والمضجرة وإنتهاكها. العادة هي أشبه بالسلسلة التي تثقل رقبة الكلب وتدفعه للتقيؤ.
التنفس عادة.. الحياة نفسها عادة أو بالأحرى سلسلة متعاقبة من العادات، طالما أن الفرد نفسه هو سلسلة من الأفراد المتعاقبين، ذلك لأن خلق العالم لايحدث مرة واحدة وإلى الأبد، لكنه يحدث كل لحظة)..
فلاديمير يعبرّ عن هذه الفكرة بجلاء في نهاية المسرحية قائلاً: "العادة هي بلادة كبرى"، موحياً أن العادة بالنسبة للأنسان هي بمثابة الدواء المّسكن للألم.

(العوامل الكابحة للتفكير)
المسرحية هي أشبه بطقس يمارسه هذين المشردين لملأ فجوات الفراغ والصمت:"إن ذلك سيُمضي الوقت" يقول فلاديمير مقترحاً أن يروي لإيستراغون قصة صلب السيد المسيح. الشيء الوحيد الذي يستحوذ على تفكير الأثنين إذاً هو تزجية الوقت:
فلاديمير:إن ذلك سيُمضي الوقت.
إيستراغون:الوقت سيمضي في كل الأحوال.
فلاديمير:نعم ولكن ليس بسرعة.
إيستراغون، الذي كان يعارض مثل هذه الفكرة في البدء، ينضم إلى هذه اللعبة فيما بعد مقترحاً:"هذه فكرة جيدة، دعنا إذاً نجري محادثة بيننا".
بيكيت في هذه المسرحية يستخدم صيغ (السؤال والجواب والتكرار) في محادثات كهذه بديلاً تهكمياً لتلك المحادثات المترهلة والمبتذلة التي كانت تثقل ما كان يعرف حينها بـ"المسرحية جيّدة الصنع"، فطالما أن موضوعه المركزي هو السأم والأنتظار، وأن شخصياته لاتمتلك ذلك التأريخ الطويل أو المرّكب، تجده يستغني تماماً عن شيء إسمه الحبكة.
إن مايدفع هذان المشردان إلى الحديث المبتذل تارة والفلسفي تارة أخرى، هو العدم والفراغ الذي يقاتلانه ببطء.
بيكيت يحاول هنا أن يقيم نوعاً من المقارنة بين فعل السكون وفعل الحيوية مؤكداً أن الحيوية تقوّض عملية التفكير، وأن هذه الأخيرة لايمكن أن تنشأ إلا عبر حالة من السكون أو الخمول فقط:
إيستراغون: نحن غير قادرين على البقاء صامتين.
فلاديمير:أنت على حق، فنحن لانتعب ولانكل.
إيستراغون:لاتنسى إن الحديث يجنبنا التفكير أيضاً.

(الصمت البليغ)
الصمت والوقفات عنصران جوهريان في دراما بيكيت، فقد مكنه عنصر الصمت مثلاً من أن ُيظهر (العجز) الذي يلم بالشخصيات حين لا تستطيع العثور على الكلمات التي هي بحاجة إليها للتعبير عنه، كذلك يُظهر (الكبح والإخضاع) حين يصيبها الخرس من هول موقف محاوريها أو بسبب إحساسها أنها ربما بذلك ستنتهك التابو الأجتماعي.
إنه صمت حدس الشخصية وهي في إنتظار إستجابة الآخر كنوع من العزاء ربما يمنحها إحساس مؤقت بالوجود.
إن ثمة فترات من الصمت تقطع مجرى المحادثات أثناء سيرها لسد تلك الثغرات التي تتوسط الكلمات، وتبدو فترات الصمت تلك أيضاً كما لو أنها تشكل نوعاً من التعبير عن الفقدان، الفراغ، الوحدة.. إلخ. هذا التناقض بين الصمت والكلام يمكن أن يعكس هنا الأحساس بالتوازن في الكون.
سقوط حديث العبد لاكي في هوة الصمت يمكن أن يعطينا إنطباعاً جلياً عن الأستجابة القصوى لبيكيت نفسه إزاء الفوضى والعشوائية واللامعنى للكون: الصمت.
أما الوقفات فوظيفتها أنها تترك حيزاً وزمناً للقارىء أو المتفرج ليستكشف ويسبر تلك المساحات الفارغة بين الكلمات، ليتدخل هو نفسه حينها، إبداعياً وشخصياً، في تأسيس أو ترسيخ مغزىً ما للمسرحية.

(الزمن بمنظوره البيكيتي)
إذا كان كل يوم هو شبيه ببقية الأيام فكيف يمكننا التمييز إذاً أن الزمن يمضي حقاً وأن النهاية قريبة؟ غودو يعلل بوعد زمني في الوصول لن يحدث مطلقاً، ومع ذلك فهذا معناه أن الشخصيات وهي في توقها للقاءه تتطلع نحو مستقبل ما. لكن، طالما لايوجد ثمة ماض، أو أن هذا الماضي لايتضمن سوى نوستالجيا مجردة، فمن الممكن جداً أن لا وجود للحاضر أصلاً وبالتالي لاوجود حتى للمستقبل. لذا ومن أجل أمكانية ما للظن بمستقبل لاوجود له، فإن الشخصيات والحالة هذهي بحاجة إلى إختلاق ماض ٍ ما لنفسها وذلك عن طريق تلفيق القصص.
في هذه المسرحية يعبّر بيكيت عن الزمن بـ (الوهم) أو (السرطان) كما يسميه، ذاك الذي يضلل البشر بكذبة أنهم في تقدم متواصل فيما هو في الواقع ينخرهم من الداخل!.
فلاديمير وإيستراغون ينتهوا مثلما بدأوا دون أي تقدم في الزمن إلا من ورقتين أو ثلاثة أوراق قد نمت على غصن الشجرة في الفصل الثاني، التي يمكن أن ترمز إلى الأمل، إلا أن الشيء الأكثر منطقياً هو أنها ترمز إلى المرور الوهمي للزمن. في بحثه عن بروست يكتب بيكيت:".. الزمن شرط خطير ولدنا من أجله، فهو من يغيرنا بشكل متواصل دون معرفتنا، وفي الآخِر يقتلنا دون موافقتنا". الزمن هنا ينحت في ذاكرة إيستراغون ويسبب إنحساراً في طاقة كلا الشخصيتين. الزمن أيضاً يقوّض صورة المستبد في بوزو ويجرده من كل الأشياء تقريباً.
إن معاناة بيكيت المريرة من الزمن تتجلى تماماً في كلام بوزو وهو يخاطب المشردين قائلاً:
" متى!. ألم تكتفيا بتعذيبي بوقتكما الملعون هذا. أمر فظيع. متى! متى! متى!. يوم ما، يوم كغيره من الأيام.
يوم أصبحَ هو أخرس ويوم أصبحتُ فيه أعمى ويوم سنصبح جميعنا بُكم. ذات يوم ولدنا وذات يوم سنموت. اليوم ذاته واللحظة ذاتها. ألا يكفيكما هذا. إن النساء يلدن أطفالهن والقبر مفتوح تحت سيقانهن. وهكذا، يتلألأ الضوء لحظة ثم يأتي الليل ثانية".
المسرحية ذاتها تتضمن فصلين هما عبارة عن دورتين من الزمن، مرآتين تعكسان بشكل لانهائي صورة واحدة.
الزمن الطولي يتحطم هنا ليحل بدله زمناً دائرياً أو أستطيع القول زمناً سوريالياً.
الصبي يعود مرتين ليكرّر عليهما أن غودو لن يعود اليوم. فلاديمير نفسه يقول:"إن الزمن قد توقف".
إن الترميز إلى الزمن يتثبت أيضاً عبر الظهور المتكرر لبوزو وتابعه لاكي اللذان يصلان كسيد وعبد في الفصل الأول ثم يتبادلان الأدوار في الفصل الثاني حيث يظهر لاكي وقد أصابه الخرس يقود سيده بوزو الذي أصبح ضريراً بحبل مشدود برقبته.
إيستراغون نفسه لايستطيع مثلاً أن يتذكر فيما إذا كان الناس الذين ضربوه اليوم هم ذات الناس الذين ضربوه في الأمس.
بوزو ينسى متى أصبح ضريراً ولاكي لايعرف متى أصبح أخرساً، رغم أننا نعرف أنهما كانا يبصران ويسمعان ويتكلمان يوم أمس.
ينبغي أن نتذكر هنا كيف أن بوزو كان قلقاً ومهموماً بشأن الوقت وكيف أنه غالباً ما كان يرجع لساعته وبشكل إستحواذي في الفصل الأول، وكيف شعر بالفزع حين فقدها. حين يفقد بوزو بصره في اليوم الثاني يبدأ ولأول مرة يدرك كيف أن الوقت الآن لامعنى له.
حسناً، إذا كان الوقت بلا معنى فلابد من البحث عن طريق لتزجيته:"دعنا نختلق لعبة" يقول إيستراغون لفلاديمير.
إنهما يبتكران طرقاً متعددة لتبديد هذا الوقت عن طريق تناول الطعام مثلاً أو النوم نوماً خفيفاً أو الحلم أو حتى شتم بعضهما البعض أو إبتكار ألعاب بما يتوافق مع مزاجهما وحاجتهما.
إن إبتكار لعبة هي واحدة من مهّمات الممثل: دعنا نمّثل! هذا هو المقصود. وبيكيت يحاكي بشكل ساخر هنا فن التمثيل في المسرح.
هذا اللعب الطفولي لفلاديمير وإيستراغون يمكن رؤيته أيضاً كنوع من محاكاة ساخرة لكيفية شعور بيكيت بلا جدوى معظم العلاقات الأجتماعية.
من الممكن بالطبع إقامة علاقات إجتماعية في حياتنا، لكن من الممكن جداً أن تكون تلك العلاقات مؤذية أو بدون معنى. إذاً ماجدوى من قيامنا بعلاقات كهذه؟
بيكيت يعلل ذلك من أننا ببساطة لانستطيع إحتمال فكرة أن نبقى وحيدين!.
فلاديمير وإيستراغون أحدهما بحاجة إلى الآخر، وهذا مايمكن أن نحسه من خلال الحنو والرقة التي يتبادلانها.
إنهما بحاجة إلى بعضهما البعض كصديقين، كغوث أو عون من رعب الوحدة، وأيضاً كشهود كل منهما يشهد بوجود الآخر، أما عكس ذلك فكل مايحدث هو بوضوح مجرد إختلاق من مخيلتيهما لاغير.
لاشك أن الزمن يشكل عنصراً هاماً في دراما بيكيت فهو يمضي ويأبى أن يمضي بسرعة كافية، إلا أن الطريقة التي ُيظهر فيها بيكيت شخصياته ضمن دائرة هذا الزمن تظهرهم كما لو أنهم يحيون في عالم يخلو فيه الزمن من أية دلالة، ففيه يصبح الناس كما يبدو عمياناً أو بُكماً بغتة وليس بمقدورهم حتى أن يتذكروا متى أصبحوا كذلك.
بروست يعتقد أن:"... الذكريات السليمة عن الماضي تساعد الأنسان على تنظيم أفعاله في الزمن الحاضر والتأثير عليها تأثيراً فعالاً".
في مسرحية "شريط كراب الأخير"، ثمة رجل يتحدث مع أشرطة صوتية كان سّجلها بصوته قبل ثلاثين عاماً، تلك الأشرطة تصبح أكثر إضاءة وواقعية من الحاضر نفسه بالنسبة له.!
إن المعلومات المتعارضة بشأن أحداث الماضي تعطى للمتفرج بشكل متواصل، لهذا تجده في حالة من الإرباك بشأن وقت حدوثها أو هل أنها حدثت حقاً أثناء وجود الشخصيات على المسرح.
هذا بالطبع فعل متعمد أو مقصود من بيكيت لأن الزمن بالنسبة له هو عبارة عن وهم، فكل شيء يتغير، لكنه يبقى كما هو!.
بكلمة أخرى، إن الزمن يظهر بلا ريب كقوة تدركها الشخصية، لكي تتداعى وتضمحل أكثر فأكثر، ذلك لأن ليس ثمة جدوى من إستمرارها في الوجود.

**

(عرض تجاوز العقدين)
والتر دي آسموس(*) الذي يتولى العملية الأخراجية للعرض الحالي هو مخرج مسرحي وتلفزيوني ألماني يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.
عمل آسموس مساعداً لبيكيت في إخراجه للمسرحية عام 1975 في برلين، لذا فمن الجائز جداً أن يحمل العرض الحالي الكثير من لمسات بيكيت.
في إخراجه الأول للمسرحية عام 1978 كان آسموس قد أجرى نقاشات عميقة ومطولة مع بيكيت قبل بدأه التمرينات ونتيجة لذلك النقاش، حسب بعض النقاد، ظهر العرض أشبه باللعب الكوميدي المتبادل ما بين خشبة المسرح والجمهور. (عرضت المسرحية يومها في أكاديمية الموسيقى في بروكلين). إلا أنه عاد وأخرجها ثانية عام 1988 بطاقم تمثيلي جديد تضمّن كلا الممثلين الحاليين (باري ماكوفرن وجوني مورفي)، وظل العرض يجول في شيكاغو، سيفيل، نيويورك، ومن بعد سافر إلى ميلبورن ثم تورنتو فشنغهاي وطوكيو.
في عام 1991 قدمّ العرض ذاته على خشبة مسرح Gate في دوبلن ضمن فعاليات مهرجان بيكيت المكرس أنذاك لمرور(85) عاماً على ولادة الكاتب، وهاهو الآن يكرر زيارته ثانية لكن هذه المرة إلى لندن ومن على خشبة مسرح باربيكان بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده.

***

(شخصيات مسرحية أم دمى مؤسلبة؟)
في كتابه "صموئيل بيكيت" يقول الناقد دايارد بير:" لايريد بيكيت من ممثليه أن يمثلوا على الأطلاق. إن كل مايرده منهم هو أن يعملوا وفق ما يقوله لهم النص فقط، وحين يحاول ممثل أن يمّثل ينفجر بيكيت غضباً".(**)
الممثل باري ماكَوفرن الذي يلعب دور فلاديمير أو (ديدي) وجوني مورفي بدور إيستراغون أو
(غوغو) بدوا كما لو أنهما عثرا على بيئتهما الدرامية في هذين الدورين اللذان يكمل أحدهما الآخر.
ينبغي هنا أن نذكرّ أنهما يلعبان هذين الدورين منذ أكثر من عقدين.
هذان الممثلان اللذان لم يعد شابان واللذان يختبئان في لبوس مشردين عجوزين، هما في الواقع مهرّجان حقيقيان لايشيخان. إنهما مضّحكان، متشردان، شاعران، كائنان بشريان عاريان، ممثلان يقدمان نموذجاً لإداء حساس بشكل خلاق يُمسك بإيقاع مغزى روح النص البيكيتي وسخريته معاً.
ماكوفرن ومورفي ممثلان خلاقان يمتلكان خبرة طويلة على خشبة المسرح، وواضح أنهما وبشكل غريزي يدركان جيداً أنهما يأتمنان طاقتيهما الإدائية والسيكولوجية في تفجير كل هذا النثر الغنائي البيكيتي.
الحياة عادة أو روتين أو لعب، هذه المظاهر التي تعكس مفهوم الأنتظار الذي نمارسه ونعانيه بإسم البقاء، كلها تظهر وبشكل مكرور كثيمات في هذا العرض ليس فقط عبر الكلمات بل من خلال لغة الجسد، من تعابير الوجه وإيقاع حركة اليدين والأقدام والرقص والإيماء والدندنة وأشياء أخرى، وكذلك عبر الأماكن التي يشغلها ويتحرك عليها هؤلاء الممثلون على خشبة المسرح.
لقد تمكن هذان الممثلان من تجسيد هذا التزاوج المرّوع بين لغة حجرية قاسية وإيماءات تكاد تقرب من سلوك الحيوان، بإسلوب مبتكر وحيوية مدهشة من دون أن يُظهرا جهداً أو توتراً مرئياً في أي لحظة من اللحظات. فديدي يمشي على رؤوس أصابعه بأقدام شبيهة بأرجل الحمام أو فزاعّة طيور، أما ركبتاه فإنهما تندفعان معاً قبل حركة أقدامه.
أما غوغو فهو يمشي كالبطة وهو يباعد ما بين قدميه. إنه يقفز حين يمشي، محركاً ذراعيه بعنف مثل طاحونة هوائية. غوغو يريد أن يطير حقاً.

لقد أظهرا معاً ضياء وظلال الديالوغ الذي صار يتنقل من الميوزك هول (المسرحية الهزلية) إلى أحاديث السيرك المتبادلة ومن ثم إلى الشعر الحزين المثير للريبة والفوضى على حد سواء.

إن كلا الممثلين إمتلكا القابلية لإقصاء نفسيهما عما يقولانه ويفعلانه حين يتطلب الأمر ذلك، وهذا يعكس، بشكل صائب، إمكانية الشخصية لأن تنظر إلى الماضي من خلال إنشغالها بالأمور التافهة العادية والمجنونة ضمن سياق عمق المخيلة والتبصر المفاجئ. فغوغو مثلاً ينوّع من إستغراقه الذاتي في مخاوفه الخاصة وكوابيسه ولهفته للطعام والراحة، مغيراً إياها فجأة إلى ملاحظة ساخرة ولاذعة من كليهما.
أما ديدي فهو يلغي أحياناً مشاعره الخاصة لأجل إحتياجات غوغو، على الرغم من أنهما يظهران معاً وبشكل بصري ما يجري في داخل عقليهما وجسديهما، وهذه هي واحدة من ميزات موهبة المهرج في التعبير عن التعقيدات الداخلية لرنين الأفكار المّشكلة على النصف أو المشاعر العابرة بشكل خاطف، عبر إشارات وإيماءات خارجية صافية مترابطة بشكل متدفق ومكرور.
تقليدياً، يعتقد المهرج نفسه أنه هو الأعمق والأقرب من ينبوع الحياة منه إلى التراجيديا، فهو يعتقد مثلاً أنه أكثر جدية من هاملت، لذا بوسعه أن يلعبه أفضل من أي ممثل تراجيدي محترف.
ديدي وغوغو يظهران قربهما من النبع التراجيدي حين يقرران "التحدث" بهدوء ليريا أن بمقدورهما "الصمت". إنهما يتحدثان بترو ٍ وتعمّد كي لايفكرا أو يسمعا:

فلاديمير: لم يعد لنا هنا من شيء نفعله.
إيستراغون: ولا في أي مكان آخر. إننا لم نخلق لطريق واحدة.
فلاديمير: لا، لا، هذا الأمر ليس أكيداً.
إيستراغون: بالطبع، ليس هناك شيء مؤكد.

وفي ذات الزمان والمكان يتسائل إيستراغون في اليوم التالي مشتبهاً في المكان:
إيستراغون: أين نحن؟
فلاديمير: وأين تظن نحن؟ ألا تتعرّف على المكان؟
إيستراغون: (غاضباً) أتعرّف.. أتعرّف.. أتعّرف على ماذا؟
إنني لم أفعل شيئاً في حياتي سوى الزحف في الوحل، وأنت تحدثني الآن عن هذا المكان. أفضل شيء لي هو أن تقتلني كالآخرين.
فلاديمير: ومن هم الآخرون؟
إيستراغون: البلايين.. البلايين من الآخرين. كل هؤلاء الموتى.. كل تلك الأصوات الميتة التي ُتحدث صخباً وضجيجاً كالأجنحة، كأوراق الشجر، كالرمل، وهي تنطق جميعها مجتمعة.
في لحظة كهذه يصبح الديالوج شعراً لكلا الصوتين، ومن المحتمل جداً أن تعكس لهجته الحزينة المراوغة تلك مأزقنا نحن جميعاً.
وفيما هما يجتازان النهار أو المساء، ينفصل ديدي وغوغو عن بعضهما وفقاً لطباع ومزاج كل منهما. فديدي يقوم بإداء الأدوار والمهمات المتنوعة التي يرثها الناس أو تلك التي يأخذونها على عاتقهم في غضون حياة المرء. فمرة تراه يلعب دور والد طفل غوغو وأحياناً والدته، وأحياناً أخرى معلماً لتلميذه، أو دور المدافع عن شخص خائف وغبي يتولى هو رعايته وحمايته.
ديدي يواجه تشاؤميته بمزاج تفاؤلي، فحين يتذكر غوغو ماضيه يقوم هو بأناة في حثه وتشجيعه على التذكرّ.
إنه يلوح له بأصبعه نحو الجرح الذي في ساقه والذي سببه له لاكي في اليوم السابق، مفترضاً أن الطفل والمغفل البهيمي داخل غوغو من الممكن أن يتذكر الألم والعنف في الأقل.
المفكر الأيجابي في ديدي يحاول أن يعيد تشكيل الماضي لكليهما، لكي يثبتان وجودهما الراهن عبر مرجع أو صلة ما بما حدث من قبل، لذا فهو لايكف عن القيام بذلك من أجل ومضة فذة من الأدراك:

غوغو: هيه.. ديدي. ديدي.. نحن نجد دائماً شيء ما يعطينا إنطباعاً أننا موجودان، ها؟.
ولأجل إطالة الديالوغ يلجأ بيكيت هنا إلى مفهوم النسيان هذه المرة، فإيستراغون مثلاً لايستطيع أن يتذكر أي شيء مضى، على العكس من فلاديمير الذي يمتلك ذاكرة أفضل، إلا أنه مع ذلك لايثق بما يتذكر!.
وبما أن فلاديمير لايستطيع التعويل على إيستراغون لتذكيره بالأشياء، فهو عملياً يعيش في حالة نسيان، وهذا ما يعطي تسويغاً لملازمة أحدهما الآخر، لأنه طالما لايستطيع إيستراغون تذكرّ أي شيء فهو إذاً بحاجة لأحد ما ليذكرّه أو يحكي له تأريخه.
ديدي وغوغو هما مثل صديقين أو رفيقين متلازمين. إنهما مثل عاشقين أو زوجين غير سعيدين، يمثلان مشاهد من الأنفصال والتوحد، الخلاف والمصالحة، الحث والعون في لحظات المحنة. إنهما أشبه بتوأمين، عقل مشطور إلى نصفين، نصفان لشخص واحد، عقل وجسد.
إن فعل فلاديمير وهو يتذكر عوضاً عن إيستراغون يعني ذلك أنه يثبت له هويته الشخصية (وجوده).
إيستراغون نفسه، كشخصية، موظف كحافز تذكير لفلاديمير بكل تلك الأشياء التي قاما بها معاً في الماضي، لذا فهما موظفان معاً ليذكرّا رجلاً آخر بوجوده الحقيقي!. إن ذلك ضروري جداً طالما أن لا أحد في المسرحية يقوم بتذكيرهما أبداً:
فلاديمير: لقد إلتقينا أمس.. (صمت) .. هل تتذكر؟
بوزو: أنا لا أتذكر أنني إلتقيت بأحد أمس. وفي الغد لن أتذكر أنني إلتقيت أحداً اليوم، لذا لا تعتمد عليّ.
نفس الأشياء تحدث في وقت متأخر في الفصل الثاني من المسرحية حين يحضر الصبي ثانية ويزعم أنه لم يرهما من قبل إطلاقاً.
إن فقدان الطمأنينة في التأكيد على وجودهما الحقيقي يجعل من تذكير أحدهما الآخر شي جوهري وضروري.
الممثل آلن ستانفورد أظهر شخصية (بوزو) باردة الطبع شاحبة ومتسلطة وفضولية بشكل واضح، فيما جسد ستيفن برينان دور (لاكي) العبد المطيع وهو يعدو أمام سيده مثل كلب، بخرس معذبّ ومبالغ.
لاكي بجرجرة سيقانه المائلة ونظراته الصامتة يبدو بالكاد حياً. إنه يمدنا ببانتوميم يجسد الأهانة والوهم، إلا أنه يفاجئنا ويحيرنا في وقت متأخر بمونولوجه الطويل والوحيد المتفجر والفنتازي ملقياً إياه ليس كخطبة رنانة لرجل مجنون بل كمحاولة يائسة أخيرة لإقامة صلة ما بسيّده أو بالعالم.
مايثير فزع فلاديمير هو معاملة بوزو الوحشية لعبده لاكي، أما الذي يثير رعبه بشكل مضاعف فهو رضا لاكي نفسه في معاملة سيده له بالطريقة التي تعامل فيها البهيمة تماماً.
من الممكن جداً أن بيكيت يظهر هنا إزدراءه من كلا الشخصيتين، بوزو ولاكي معاً، الأول الذي يمثل صنف سادة المجتمع الذين يستثمرون ويستغلون، والثاني يمثل شريحة الخدم الذين يسمحون لأنفسهم من أن يُستثمروا ويُهانوا.
كان إداء لاكي في الفصل الثاني مؤثراً جداً وذلك حين يلعب الأثنان دوريهما بشكل معكوس. فنراه يمسك بأصابع سيده السابق ويمررها على حواف الحبل الذي كان يربطه في رقبته من قبل. تبادلهما لدوري العبد والسيد يُضاء عبر المقارنة بالتجربة المشتركة للمشرّدين، وهذا شيء جوهري بالنسبة لبنية العرض فهو يعطي معنىً وإتجاهاً لمنطقه الداخلي. غرائبية كهذه تسمح لنا في رؤية الطبيعة الأنسانية لديدي وغوغو، فالأثنان في تضاد حاد مرئي ومفعم بالحيوية، إلا أنهما مع ذلك يتفاعلان أحدهما مع الآخر..
حين يتعثر لاكي أو يسقط تحت ثقل بوزو في الفصل الثاني يكشف هذا الفعل آلياً عن الشيء الأسوأ في طباع شخصية غوغو، حيث يندفع هذا الأخير للثأر من لاكي العاجز لقاء الجرح الذي سببه له في ساقه، كنوع من التنفيس عن مشاعره ولكن في عنف وبهيمية، فيما نرى ديدي وعلى العكس من غوغو، ينجذب أو يميل نحو الأصغاء لفلسفة بوزو العاطفية لكن البليغة، هذا السيد المستبد الذي يتحول فجأة إلى تابع ضرير يخاطب المشرّدين غاضباً بقوله:
"أي يوم! أي يوم!.. إنه ذات اليوم الذي أصبحَ هو فيه أخرساً، وذات اليوم الذي أصبحتُ فيه أعمى... ذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت، في ذات اليوم، في ذات اللحظة... النساء يلدن اطفالهن والقبر مفتوح تحت سيقانهن، والضوء يتلألأ للحظة ثم يأت الليل ثانية".
إن الكثير من الأشياء التي يتعذر تعليلها أو تفسيرها في علاقة هذين المشرّدين تظهر بشكل غير محدود في لغة الأيماء والفعل. فمثلاً ثمة حركات من التفاعل أو التأثير الفيزيائي المتبادل، عندما يناضل غوغو وديدي معاً في أن يدخلا قدم غوغو في حذائه، أو في الحركة التي يتبادلان فيها القبعات كما لو أنهما طفلين مستغرقين في لعبة إيقاعية لتبادل القبعات. كذلك حين يخلع ديدي، وبنفس الطريقة، سترته ويضعها حول كتف غوغو الشبه نائم، عندما يضجر من الحديث الذي يدور بينهما. إن الغرض من ذلك كله هو إقامة صلة ما فيما بينهما.
غوغو وديدي شخصيتان متعارضتان ومتكافلتان في آن، فهما نصفان لشخص واحد، وبيكيت يشدد على هذا التضاد والتكافل، فقد قال مرة أنه يتخيل ديدي أشبه بشجرة وغوغو مثل صخرة، وهذا الموقف يبين بجلاء وبليغ في هذا العرض.
الممثل باري ماكوفيرن (ديدي) شخص طويل ونحيل مثل شجرة صنوبر، وعيناه أشبه بثقب عقدة الخشب أما ذراعاه فهما مثل غصنين غير متكافئين. جوني مورفي (غوغو) ببدانته وثقل خطاه يشبه صخرة حقاً. إنه شخص هوائي وهمي مرح ومبتهج فيما ديدي شخص دنيوي عملي وفظ. واقع الأمر أن كل شخصية من هاتين الشخصيتين تسعى لأن تكون الشخصية الأخرى (تبادل أدوار). لقد حمل العرض نكهة شابلنية فالممثلان باري ماكوفرن وجوني مورفي ظهرا مثل مهرجين في فيلم صامت وهما يخوضان نزاعاً مع أسئلة كبرى تطال الأيمان والمعنى بسخرية تحّطم القلب.
كان بيكيت كاتباً شكوكياً لذا فشبح ديكارت لم يكن بعيداً مطلقاً عن خشبة مسرح باربيكان، فالنكهة الديكارتية تكاد تملأ كل فضاء العرض، فثمة شك في الزمان والمكان والهدف واللغة، شك في الذاكرة، شك في الأحاسيس، شك في منظومة العلاقات الأنسانية، شك في الأمل، وأخيراً شك في الحقيقة ذاتها.
إن أحد الدروس الهامة التي يمكن أن يتعلمها العاملون في ميدان المسرح من هكذا عرض مّؤثر هو تلك القرابة أو الصلة الحميمة بين هذين الممثلين الرئيسيين. إنهما أصدقاء في النص وفي الحياة، فقد لعبا دوريهما كما لو أن أحدهما هو بمثابة جهاز إرسال وإستقبال للآخر.

***

ديكور العرض كان أجرداً صارماً وخشناً بألوان رمادية ضاعفت الإنارة الباهتة فيه الخواء والوجع المتزايد حيث السماء خمرية اللون مخدوشة الأضاءة، وفي الأعالي ثمة قمر برتقالي مشرق مفعم بالأمل يجسد لغة بيكيت المشذبة الجميلة والتجريبية. أما هالة النور التي أحاطت برأس الصبي الأشقر(الممثل باري أوكونيل) فقد أضفت عليه هيبة رسول أو ملاك هابط من السماء أو شخص قادم من غودو الذي لن يُرى.
إن شكل الشجرة وهي تقف مثل صليب محطم أو شبح هيكل عظمي يرمز إلى الأنتظار الذي لاينتهي، كان يبعث الحزن والتأمل الكوميدي بالأنتحار في ذات الوقت. أما الصخرة الثقيلة فيمكن أن توحي لنا وسط هذه الحيرة إلى صخرة سيزيف.
لابد من الإشارة هنا إلى أن الديكور والملابس هما من تصميم الرسام الأنطباعي الأيرلندي الشهير لويس لي براكوي (1916) الذي عُرف ببورتريهاته المدهشة للشخصيات الأدبية والفنية أمثال جويس وييتس وصديقه الرسام بيكون وبيكيت نفسه. كان براكوي تعرّف على مواطنه بيكيت في باريس منذ خمسينات القرن الماضي وبقي على صلة معه حتى لحظة وفاته. يذكر آسموس أن بيكيت كان قد طلب منه أن يستعين ببراكوي في تصميم الديكور إن كان ينوي إخراج المسرحية، ولابد من الإشارة هنا إلى أن شجرة براكوي شبيهة إلى حد كبير بشجرة جياكوميتي تلك التي صممها للعرض الذي أخرجه بيكيت في فرنسا عام 1961 والتي هي على شكل صليب.

(كلمة أخيرة)
بغض النظر عن تنوع كل المعالجات الأخراجية ينبغي أن تكون مسرحية (في إنتظار غودو) أشبه بإناء فارغ بوسع كل متفرج أن يملأه بمخاوفه وأحلامه وطموحاته بطريقته الخاصة.

هامش:

(*) أفلام آسموس التلفزيونية عن بيكيت:
1ـ بيكيت يُخرج بيكيت، وهو فيلم وثائقي يصور ثلاث مسرحيات لبيكيت أخرجها بنفسه وهي:
"في إنتظار غودو، نهاية اللعبة، شريط كراب الأخير".1988
2ـ فيلم "شريط كراب الأخير" 1988
3ـ فيلم "في إنتظار غودو" 1989
4ـ Beckett on Film هو سلسلة من 19 فيلم لـ 19 مخرج قاموا بإخراج جل مسرحيات بيكيت. "وقع أقدام" هو أحد هذه الأفلام التي قام بأخراجها آسموس عام 2000.
5ـ فيلم "لعبة الراكبي".
6ـ فيلم " Eh Jo".
(**)Deirdre Bair: (Samuel Beckett) page 449

(مراجع ذات صلة)
I: Conversation with And About Beckett.Mel Gussow.
II: Why Beckett.Enock Brater.
III: Absurd Drama. Introoduction by Martin Esslin.
IV: The Beckett Actor.Jordan R. Young.
V:The Cambridge Companion To Beckett.Edited by John Pilling.


alikamel50@yahoo.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف