ثقافات

معالجة درامية لمأزق البطل الكافكوي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

(إنها الأحلام تدّخر كنوز المُمكن)
معالجة درامية لمأزق البطل الكافكوي عبر قصة "التحّول"

"من بين كل المؤمنين كان أشدهم تحرراً من الأوهام، ومن بين كل أولئك الذين يرون العالم كما هو بدون أوهام كان أشدهم إيماناً لايتزعزع. وهذه هي معضلة أيوب القديمة." (ماكس برود. سيرة حياة فرانز كافكا)

إن كتابات كافكا تلزمنا دائماً على تأمل تلك الفراغات المسكونة بالهواجس المثقلة برنين الدلالات التي كان يشيدّها الكاتب بين سطوره قصداً لتشغلها رؤى المتلقي تتمة لأستكمال دائرة المعنى. لقد أغوت تلك الفضاءات الكثير من الحالمين لملأها برؤى معاصرة وتأويلات مبتكرة، فقد تحولت روايات شهيرة مثل ("التحّول"، "القلعة"، "أمريكا"، "في مستعمرة العقاب"، "المحاكمة") إلى عروض درامية ملفتة وأشرطة سينمائية مدهشة لعل أبرزها رواية "المحاكمة" التي أعدّت إلى المسرح والسينما على حد سواء، ففي أواسط الأربعينات كان الشاعر الفرنسي أندريه جيد قد إفتتن بها فأعدّها للمسرح بمشاركة جان لوي بارو الذي تولى إخراجها ولعب دور جوزيف ك، الشخصية الرئيسية فيها. ملصق العرض أورسن ويلز كان قد إخترق حدود مألوف التلقي العادي للفيلم السينمائي في إخراجه المذهل لفيلم "المحاكمة" عام 1962 المقتبس عن الرواية والذي لعب فيه الممثل أنتوني بيركنز دور جوزيف ك إلى جانب رومي شنايدر. أما في إنجلترا فقد أعد الرواية وأخرجها للمسرح الكاتب والممثل والمخرج البريطاني ستيفن بيركوف عام 1969 وكان العرض الذي قدمّه يومها بمثابة هزّة مروّعة للتقاليد السائدة في المسرح البريطاني. اللعبة ذاتها أغوت المخرج السينمائي أنغمار بيرغمان فقام بإعداد رواية "القلعة" إلى المسرح أواسط الخمسينات وعرضها على خشبة مسرح مالمو. وفي اليابان قام المخرج المسرحي الشهير أوسامو ماتسوموتو عام 2003 بإعداد "القلعة" وتقديمها على خشبة المسرح الوطني في طوكيو، وماتسوموتو كان قد خبر فضاءات كافكا قبل ذلك بعامين بإعداده وإخراجه لرواية "أمريكا" التي إنتقل عرضها من طوكيو يومها إلى نيويورك.
أما قصة "التحوّل" محور مقالتنا هذه، فقد أعاد كتابتها إلى المسرح ستيفن بيركوف عام 1968 وظهرت على خشبة مسرح The Round اللندني بعد عام، وقد تولى هو نفسه إخراجها فضلاً عن لعبه دور "غريغور سامسا" الشخصية الرئيسية فيها.

مسرح الجسد.. مسرح المطلق
"مسرحي هو جسد الأنسان وصوته" هذه الصرخة التي أطلقها ستيفن بيركوف أواسط ستينات القرن الماضي تركت آنذاك دوياً في أرجاء عاصمة المسارح لندن.
بفطنته الثاقبة وجرأته في إنتقاء الأفكار التي يكتب أو يمثل أو يُخرج أو تلك التي تثير شهية مخيلته فتغويه في إعادة إنتاجها ومسرحتها ثانية على الخشبة، كان بيركوف قد إختار طريقاً شائكاً لكنه ممتع، من أجل ترسيخ إسمه ومنهجه المسرحي. فقد شرع من دون وجل وهو لم يزل فتىً غضاً في رحلته المعّذبة والشيقة داخل أقبية كافكا الكابوسية بإعداداته الملفتة لـ "المحاكمة" و"في مستعمرة العقاب" و"التحّول" مواصلاً فيما بعد النهج ذاته مع إسخيلوس وتراجيديته الشهيرة "أجا ممنون" إلى جانب إعداده الفذ لقصة أدغار ألن بو "سقوط منزل الحاجب"، فضلاً عن مؤلفاته الدرامية التي كانت تتزامن ونشاطه التمثيلي والأخراجي آنذاك، ولعل أبرزها: "الشرق"، "الأغريقي"، "المسيح ـ مشاهد من الصلب"، "الأنحطاط"، و "أحياء لندن الفقيرة"، "غرق الجنرال بليغرانو" تلك النصوص التي كانت تشيّد لهذا المبدع المشاكس إسماً ألقاً لم يكن مستساغاً في الوسط اللندني التقليدي مطلقاً.
لم يكتف بيركوف بذلك بل راح يكتب ويّنظر ويجرب لأسلوبه الخاص في فن التمثيل والأخراج والذي صار يعرف بـ "مسرح الجسد"، وقد تضمنت كتاباته تلك تجربته الخاصة به جداً، ولعل أبرزها: " أنا هملت" و "تأملات حول (التحّول)" و "كوريولانوس في دوتشكلاند".
عشقه لعمله قاده أيضاً لئن يصبح رحالاً دائماً، فقد أحب بيركوف السفر والترحال وقد إنعكست رحلاته تلك في كتابه الممتع: "التبضع في سانتا مونيكا مول: يوميات ممثل رحّال".

إن الأسلوب الذي إبتكره بيركوف قد أحدث شرخاً في الوسط المسرحي البريطاني السائد أواسط الستينات حيث النزعة الطبيعية كانت هي مقياس نجاح النصوص وشكل العروض على حد سواء، وكل شيء عداه مهمل ومرفوض. أدرك بيركوف يومها تأثير الصدمة التي يمكن أن يحدثها أسلوبه الجديد في ذلك المحيط التقليدي الراكد، لذا وتجنباً للوقوع في مصيدة الأذلال الأداري البيروقراطي المحافظ سارع في تأسيس فرقته الخاصة به عام 1968 وهي "فرقة لندن المسرحية" مستهلاً نشاطها بعمله الألِق "التحوّل" الذي أحدث يومها دوياً في الأوساط الثقافية البريطانية بسبب إسلوبه التجريبي وعمق محتواه. كتب بيركوف يومها قائلاً: " ... لقد تعوّد الدماغ على أداء وظيفته بأربعة أو خمسة مستويات متباينة. أما حين تبدأ في ملأ رأس المتفرج بـ "الحشو" فإنه سيبدأ في النعاس حتماً. إن غياب الحوافز الحسية تجعل الدماغ يصرخ، وهذا جهد يقوده إلى حالة من الحصار تنتهي به إلى فقدان وظيفته!. لذا فـ "المدرسة الطبيعية" في المسرح هي شيء مضر كالتدخين.".
لقد إتبع بيركوف في منهجه الجديد خطى سابقيه ميرهولد (مسرح البيوميكانيك) وآرتو (مسرح القسوة) وجروتوفسكي (المسرح الفقير)، الذين حاولوا تأمل النص بعمق لإفراغ شحناته العاطفية من خلال عملية التمثيل والأخراج، أما ماعداه فكل الأشياء الأخرى كانت بالنسبة لهم هي أشياء ثانوية. وهكذا فقد إستغنى بيركوف تماماً كما سابقيه عن الديكورات والأكسسوارات الضخمة مستبدلاً إياها بأخرى أكثر تجريدية ومجازاً، مزوّداً ممثليه بلوازم جديدة "فيزيائية وسيكولوجية" غاية في الكثافة والحّدة.
إن العناصر التي إعتمدها أسلوباً لعمله مع الممثل هي الإيماءة والأشارة، الحركة المؤسلبة، الجامدة والآلية، المبالغة في التحكم في الصوت والكلمة المنطوقة، التلقائية والمخاطبة المباشرة، الأحاديث التي تقال على إنفراد وتغمز للمتفرج، الأرتجال..إلخ، والتي أصبحت جميعاً أسساً رئيسية لمنهجه المسرحي ليس لفن التمثيل وحسب بل هي عناصر جوهرية لكل عرض بيركوفي. عن فن الأيماء ودور الكلمة يقول بيركوف: "يستلزم فن الأيماء (Mime) من الممثل دقة تشبه دقة ممارسة الطقس الشعائري لأنه يشرك الممثل بيركوف بدور غريغور مخيلة الجمهور معه بشكل متبادل، وهذه المخيلة هي التي تسهم في إضفاء الحيوية والنشاط على فن الأيماء. الكلمات هي كلمات، وهي ملكنا لوحدنا حيث يمكننا قرائتها أو حتى ترجمتها ويمكننا أيضاً الأخذ بها أو الأستغناء عنها، أو ربما نسيان كلمة هنا وأخرى هناك. أما فن الأيماء فالأمر مختلف جداً، فإذا حدث وفقدنا التركيز فإن ذلك سيقود بدوره حالاً إلى فقدان البنية، وهذا معناه أننا سنفقد أنفسنا ومشاركتنا معاً.".
لقد واصل بيركوف تطبيق الشكل المؤسلب على بقية عناصر العرض المسرحي من ديكور وإنارة وحركة ومؤثرات صوتية إلخ، لأنه يعتقد أن هذا الشكل هو الذي يحقق المضامين لمسرحه. ولقد وجد منهجه هذا تطبيقاً جلياً في إخراجه لـقصة "التحّول" حين شيّد يومها ديكوره الرمزي الشهير الذي هو عبارة عن هيكل مجرّد لجسم حشرة كبيرة ضخمة.
أما عن إعداده لقصة "التحّول" فيقول:
"لقد إنجذبت لكافكا عبر قرائتي لقصة (التحّول)، فقد رأيت في هذا الكاتب الجهود المتوهجة للمخيلة وهي تعمل وسط خيبة روح مختنقة. لقد أبصرت في هذه القصة أقصى الممارسات المدهشة للمخيلة وهي تعمل ضمن إحباطات المقاومة العنيفة للروح وهي تقود الشعور الأنساني إلى أقصى درجات الفزع وذلك من خلال تحرير عوامل الرعب فيه. إن تحوّل غريغور، هذا الأنسان الصغير المرعوب، إلى حشرة، إنما أراد فقط عبر تلك الوسيلة أن يحرر مخاوف روحه. لقد مسّني في كل وتر من أوتار وجودي، من الشاذ والغروتسكي إلى الأنسانية البسيطة. ليس ثمة كاتب يستطيع تماماً عمل ذلك بذات القوة ونفاذ البصيرة التي يمتلكهما كافكا.".

حشرة كافكا أم حشرة بيركوف؟!
"يقول الخلد، تركتُ العالم ونزلتُ إلى جحري... وسأكون سعيداً حقاً لو إستطعت أن أهدّىء صراعاتي الداخلية" كافكا. الجحر، في (مستعمرة العقاب)
لقد عكست الرؤية البيركوفية للنص الكافكوي صورة الحشرة وهي تسحق إنسانية غريغور سامسا التي هي ليست أكبر من حشرة كافكا التي كان يقرن نفسه بها في "رسالة إلى الأب". النقطة الأخرى والأكثر تعقيداً هو ذلك التحالف الكلي لمكونات الواقع لقمع تلك الحشرة التي كانت تجسد موقفاً بطولياً متمثلاً بشخصية غريغور المدرك لأنكساره، فعلى الرغم من تحوله إلى حشرة، إلا أننا نعثر في ذلك على الصورة المخادعة للبصر في الحشرة، فهي لم تعد حشرة بل إختبار يجريه غريغور (إن لم يكن كافكا نفسه) لأسرته من المنظور الأرضي. هذا المنظور الذي يجعلنا نبصر هشاشة الكائن البشري بجلاء وهو فريسة للمنافع اليومية الزائلة على حساب القيم الأنسانية الأشمل والأعمق.
غريغور وهو حشرة ماهو إلا نموذجاً للتناسب الأكبر، الغربة ووعي الغربة. إنه يزمجر، يرغي ويتدلى وحيداً مثل وحش من سقف غرفته الصغيرة، ثم يقفز بعيداً جداً لينأى عن حدود هذه الأسرة.
غريغور في عزلته مثل كافكا، يتأمل البشرية بعمق وهي تفقد بنيتها وأحاسيسها أمام بصره. إن هذا الكائن اللعين القذر البغيض والكريه القابع في مؤخرة الغرفة مثل صرصار ليس سوى ذلك الفنان، وبسبب كونه فناناً ينبغي أن يتحول إلى حشرة!.
في "سيرة حياة كافكا" كتب تشارلس أوزبورن يقول "إن عجز غريغور عن الأرتباط في فرح مع العالم وتحوله المترتب على هذا إلى شيء غريب وغير إنساني (حشرة) في عين ذلك العالم، إنما يشبه تماماً شخصية الفنان. أما عائلته فهي الصورة المتماهية الأخرى لجمهوره!. لقد كان كافكا يرى لحظات كهذه أشبه بكوميديا خالصة.".
عبر تأمله العميق لقصة (التحوّل) إستطاع بيركوف أن يبصر فيها مسرح "المستحيل" طالما أن فضاء كافكا هو ذاته خرافة المستحيل. السحرة السورياليون وحدهم القادرون على إختراق فضاءات اللامعقول هذه، وبيركوف هو واحد من أولئك السحرة، ففي محاولاته الجريئة والمّتقدة إستطاع أن يقتحم منطقة اللاوعي، هناك وسط تلك الأقبية حيث الأحلام تدّخر كنوز الممكن.

لحظة اليقظة، ومضة الوعي
"حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة وجد نفسه وقد تحول في سريره إلى حشرة ضخمة". كافكا "التحوّل"
إن الفكرة الأولى والمركزية التي تتحكم بنتاجات كافكا وحياته على حد سواء هي الشعور بالذنب اللاعقلاني الصادر عن عقدة الأب، تلك العقدة التي كانت تشكل تهديداً مبّطناً لأمنه في الطفولة ولعنة تلاحقه لآخر لحظة في حياته لدرجة أنه عزم مّرة على إصدار أعماله الكاملة تحت عنوان "محاولة للهرب من دائرة الأب" حسب صديقه وكاتب سيرته ماكس برود.
في كتابه "واقعية بلا ضفاف" كتب روجيه جارودي يقول: "... كان والده في نظره هو بمثابة صورة مصغرة للمجتمع الضاغط الذي يخنق شخصية الأنسان ويدفعه إلى الإحساس بالغربة...".
أما الفكرة الثانية فهي إستخدامه المكرور لموضوع الحيوان. "حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة وجد نفسه وقد تحّول في فراشه إلى حشرة ضخمة...". بيركوف وخلفه كافكا بهذا المقطع المروّع يستهل كافكا قصة "التحّول".
الثيمة ذاتها نعثر عليها ولكن بشكل ساخر ومقلوب في "تقرير إلى أكاديمية" التي يتحول فيها القرد "روت" إلى إنسان، كما لو أن ثمة وجود متناوب لماض وراثي بين الأثنين. ويتكرر موضوع الحيوان في قصصه الأخرى مثل "أبحاث كلب" و "المغنية جوزفين" و "الجُحر" والتي تتناول جميعاً الأنسان من خلال الحيوان. كتب لشقيقته مرّة يقول: "لكي يصبح الطفل رجلاً، ينبغي أن ننتزعه في أسرع وقت ممكن من الحيوانية...".
إن حيوانية كهذه هي لحظة تحول حاسمة، لحظة اليقظة التي هي بمثابة الشرخ الأول في عالم الغربة المغلق الذي يقود إلى التساؤل الأساسي عن دلالة وجود الأنسان وماهيته. المعضلة إذاً ليست في تحّول إنسان إلى حشرة، إنما هي تحول كامل في مجمل العلاقات القائمة بين الأنسان والعالم. إن مأزق غريغور سامسا الأساسي والوحيد هو البحث عن ذاته، البحث عن نظام إنساني عادل.

***

رؤى إخراجية متجددة
(كان كافكا يمتلك في فنه مفتاحاً سحرياً لايمنحنا مجرد حيرة ورؤى درامية فحسب إنما جمالاً وعزاء" (هرمان هيسه)

أربعة عقود مضت على النص الذي أعّده بيركوف لقصة "التحوّل" لم يجرؤ خلالها أحد على تجسيده ثانية على المسرح بسبب ذلك الأنطباع المذهل الذي تركه العرض الأول لبيركوف في ذهن الجمهور البريطاني، إلا أن فرقة بيرمنغهام المسرحية كسرت أخيراً حاجز الخوف هذا ونفضت الغبار عن النص البيركوفي ثانية لتنعشه على خشبة مسرح هامبستيد اللندني من خلال قراءة جديدة وجريئة للمخرجة المسرحية البريطانية جوليا سميث. وجوليا مخرجة مسرحية تجريبية إمتلكت خبرة غنية إكتسبتها من عروضها الجريئة والمبتكرة، ولعل عمليها المميزين "عصابة الذئاب" و "مخزن الدمى السحري" قد كشفا عن مخيلتها الخصبة التي أثارت يومها إنتباه متفرجين ونقاد على حد سواء بقدوم
عقلية جريئة خلاقة في هذا الميدان سيكون لها شأن غير قليل في المستقبل، لاسيما بعد حيازة عرضيها السابقين على الجائزة الأولى جاري سيفتون بدور غريغور لمهرجان أدنبرة المسرحي آنذاك. أما عملها الأخراجي المشترك مع المخرج بيتر أويستون لمسرحية ت.س. إليوت الشعرية "جريمة قتل في الكاتدرائية" على خشبة مسرح ليفربول، فقد رسخ في الأذهان إسم جوليا كواحدة من المسرحيين الطليعيين الواعدين في بريطانيا.
لقد سبق لجولي سميث أن خبرت أسلوب بيركوف، ككاتب، في عرضين بارزين لها من تأليفه أحدهما "أجا ممنون" المقتبس عن إسخيلوس، والثاني "المحاكمة" المعّد عن رواية كافكا. إلا أن رؤيتها الأخراجية لمسرحية "التحوّل" تجيز لنا القول بأنها الأكثر ألقاً وإتقاناً من بين كل نتاجاتها السابقة.
لقد جرى تجزئة العرض إلى ثلاثة محاور تجري وتتداخل ضمناً بشكل دائري ولا تخضع للسرد الأفقي التقليدي إنما كانت تعتمد على إنقضاض المشهد وتقهقره بإستخدام إيحاءات زوتداعيات مؤسلبة ومرتجلة مصدرها النص بالطبع والممثل في بعض الأحيان.
يبحث المحور الأول بمحاولة غريغور سامسا في الخلاص من مهنته التي هي بمثابة ترميز لعبوديته. فحين يستيقظ ذات صباح على أمل الذهاب الى العمل يجد نفسه فجأة وقد تحّول إلى حشرة. بمعنى أن خلاصه من عبوديته يستلزم منه دفع ثمن باهظ ألا وهو التخلي عن إنسانيته!.
أما المحور الثاني فيتناول علاقة غريغور بأسرته. فرّب الأسرة (الأب) يتماهى هنا ومفهوم النظام وهو صورة مصّغرة للمجتمع الضاغط الذي يخنق شخصية الأنسان ويدفع به إلى الشعور بالغربة. إن بحث غريغور عن تفرده وإستقلاليته عن الأسرة يقوده إلى مخلوق غريب وإلى غربة أخرى أكثر قسوة وتعقيداً. إن حياة هذه الحشرة الحبيسة داخل زنزانة الأسرة يستبد بها شجن شابلني عميق لايحسه سوى الشاعر وليس الحشرة. إن الذي كان يكدح ليعيل أفراد هذه الأسرة جميعاً يصبح بمنظورها فجأة مجرد حشرة عديمة النفع، مخلوق غريب بدون مكان في نظام هذا الخلق.
"... يجب أن نحاول التخلص من ذلك الشيء الذي في الغرفة المجاورة" تقول شقيقته غرتا التي أحبها أكثر من الجميع، أو قولها في مكان آخر: "ينبغي أن يذهب، هذا هو الحل الوحيد أيها الوالد. يجب عليك التخلص من الفكرة القائلة إن هذا هو غريغور". أو صرختها في النهاية: "لا أريد أن ألفظ إسم أخي أمام هذا الوحش. فلو كان هو غريغور لأدرك منذ فترة طويلة أن البشر لايستطيعون العيش مع مخلوق مثله ولمضى لسبيله طوعاً وإختياراً".
إن حشرة غريغور تصبح هنا بمثابة مرآة تعكس مسوخاً شوهاء بهيمية وفراغاً روحياً مروعاً لأفراد هذه الأسرة.
أما المحور الثالث فيتناول علاقة غريغور (الحشرة) بنفسه.. إنها لحظة إستسلامه الأخير وفقدانه الكامل لنزعة التمرد، لحظة القبول بما لم يريد القبول به مطلقاً في أن يصبح هذا الجسد الحيواني ملاذاً وحيداً وأخيراً لذاته الجريحة. التحّول يصبح هنا، تحت وطأة الخوف والضغط والشعور بالذنب، مجرد واسطة بين الرغبة في التمرد والنزعة الى معاقبة تلك الرغبة. إنها اللحظة التي يرحب فيها أخيراً بإرادة الوالد في قتله لتلك الحشرة، أي القبول بفنائه، ذلك لأن الحرية التي أحرزها وهو حيوان هي في نظره لم تكن سوى حرية بهيمية. كتب كافكا في يومياته يقول:"إن الأشارة الأولى لبداية الأدراك هي الرغبة في الموت".

الديكور الذي صممته هيلين سكيليكورن يقرب في إسلوبه من الديكور الذي إستخدمه بيركوف قبلاً، إلا أن الجديد فيه إن النصف العلوي منه معالج بأسلوب رمزي (غرفة غريغور) أما نصفه السفلي فمعالج بطريقة واقعية (مكان الأسرة). عالمان منفصلان ومتباعدان لكنهما مرتكزان على بعضهما البعض. فضاء حلمي وآخر أرضي. عالم غريغور المفعم بالرؤى وهو يتدلى بقوائمه وذراعيه الطويلتين يتطلع بحزن ووجع إلى عالم الأسرة الذي يشي بفراغ روحي، هناك حيث يكمن موته المّحقق.
يقول غريغور (الممثل جاري سيفتون) وهو يتدلى من أعلى السقالة:
غريغور سامسا "أحب التدلي من السقف فذلك أفضل لي من البقاء على الأرض، لأن الواحد يستطيع هنا أن يتنفس بحرية أكثر. بإمكاني التأرجح والأهتزاز إلى الأمام وإلى الخلف.. أحس أنني خفيف وبوسعي رؤية المستشفى عبر الشارع .. كل ما أستطيع رؤيته من على الأرض ليس سوى سماء رمادية معتمة. ومع ذلك فإنني أتوق جداً إلى رؤية والدتي لأنني لم أرها منذ مدة طويلة. ربما أنا بحاجة لرؤيتها الآن أكثر من أي وقت مضى".
هنا ثمة شيء ما يتماهى وهيكل عظمي صُنع من سقالات حديدية يوحي بمعمار مجّرد لحشرة عملاقة وهي تتمدد فوق خشبة المسرح. هذا المعمار وُظف ليكون منزلاً لعائلة سامسا أو غطاء صلب واق ٍ يشبه الدرع القرني الذي يغطي ظهر السلحفاة، حيث السقالات الحديدية تضيق وتضيق إلى الخلف نحو مركز غرفة غريغور أو قفصه. ليس هناك من ديكور وإكسسوارات على الخشبة، عدا ثلاثة كراس معدنية شغلت أسفل المسرح ليستخدمها أفراد العائلة. أما إتجاهات الأماكن التي يستخدمها أفراد العائلة فقد حددّت بخطوط مضاءة بحّدة، فحين تفتح غرتا باب غرفة شقيقها غريغور على سبيل المثال يقدح ضوء ثقيل على القفص يستطيع أفراد الأسرة من خلاله رؤية غريغور بشكل خاطف، لأنهم يقيمون علاقتهم به أصلاً فقط عبر جدران الغرفة كما لو أنه لم يعد له وجود على الأطلاق. وحين يتلاشى ذلك الضوء تغلق تلك الباب لنواجه خشبة المسرح (الواقعية) التي خصصت فقط للعائلة والنزلاء الثلاث.
غريغور يبين دائماً في ضوء نصفي لأجل أن لايراه أحد. حين يقف أو يتقدم رافعاً قائمتيه الصغيرتان الأماميتان أو الخلفيتان، فإن ذلك كله يوحي بشيء واحد فقط هو أنه يحوم فوق العائلة. إنه يراقبهم دائماً وسيظل يقظاً حتى لحظة موته. التدلي من أعلى التكوين بالمقلوب هو الذي سمح للممثل بمراقبة الحدث مكشوفاً تحته على أرضية المسرح وقد تعزز ذلك بالأستخدام الواسع للضوء والظل.
لعب أفراد العائلة دوراً شبيهاً بدور الكورس الأغريقي في سردهم المتناوب لحكاية غريغور. إنهم يستخدمون كلمات كافكا ويوجهونها مباشرة للجمهور، يتناولون فيها تلك المواجهات الحاسمة والصدامات الخطيرة في حياة هذه العائلة داخل إطار من الذكريات.
هكذا، بثمان ممثلين وبعض سقالات وثلاثة مقاعد دون مساند أعادت المخرجة جوليا سميث إبتكار فضاء كافكا الكئيب الخانق والثقيل، فضاء الأستلاب والعزلة، من خلال بانتوميم راقص وحشي مؤسلب شهدنا من خلاله صراع غريغور وهو يُجّرد من صفاته الأنسانية شيئاً فشيئاً ويتحطم في الآخِر.
إن عملية التحّول التي جرت على الخشبة لم تجسد عبر مستلزمات تقنية أو سينوغرافية، إنما من خلال جسد جاري سيفتون الممثل الذي لعب دور (غريغور) في زحفه البطيء أو التدلي على الأربع أو بالمقلوب من قفصه. لقد إمتلك هذا الممثل قدرة كافكا في مزجه المتقن بين السوريالي والواقعي، فعضو الأستشعار لدى حشرته كان ينمو أمام ناظريه وعموده الفقري يتقوس وذراعاه وقدماه تستطيلان ومع ذلك لايأبه بكل ذلك. تحوله إلى حشرة هو بمثابة موقف حُر الهدف منه الكشف بشكل مؤثر عن عريه الداخلي بعد إن إنتزع العالم عنه جميع صفاته الأنسانية والشخصية على حد سواء ليصبح في الآخِر الحشرة التي تحارب. لقد وصف كافكا نزاعه مع والده مرّة بأنه "كفاح الحشرة التي لاتلدغ فحسب وإنما تمص الدم من أجل المحافظة على حياتها".
لقد إستطاعت جوليا سميث خلق حالة مخاض لولادة حشرة غريغور عبر جو مازج بين موسيقى النقر والقرع والخشخشة تزامنت مع حركات لولبية لاهثة لجسد الممثل وهو يتدلى بالعوارض المعدنية بشكل مقلوب أو يقفز ويعدو بشكل لاهث على أطراف أصابعه ويديه وساقيه وبطنه تضيئه إنارة حادة تعكس ظلال أرجل الحشرة على جدار الخلفية. وعلى ذات الأيقاع كنا نسمع همهمات وحشية يطلقها بقية الممثلين وهم يتابعون مشهد نمو مظهر الحشرة.
الممثل جاري سيفتون كان يمتلك جسداً لدناً ومطواعاً كأنه جسد راقص. بحركة قوائمه وذراعيه الطويلتين كان يجسد ثنائية حادة ومرعبة لحشرة صغيرة تمّلكها وعي إنسان. كان رأسه وعيناه يوحيان بصورة طير وحشي قادم من كتب الأساطير، أما زحفه على أصابعه وبطنه ومرفقيه فيوحي بصورة حشرة ذات ثمانية أرجل!. إنه يتسلق عوارض قفصه كما لو أنها عادة مألوفة شبيهة بتلك الجولات التي كان يقطعها بطله غريغور في المدن والقرى بحثاً عن زبائن، مشاركاً إيانا وجعه الخفي، وجع الروح الأنسانية وهي محصورة داخل جسد حشرة.
إن حركات الممثل وإتجاهاته ونزعاته المبهمة كانت بمثابة إستجابة للمظهر الهندسي للحشرة التي تلبّسته، ليس بسبب دأبه في العثور على الجانب البهيمي في شخصية غريغور بقدر ماكان سعياً من المخرجة نفسها لتعميم تلك البهيمية وجعلها تجتاح فضاء العرض كله. فالحشرة ينبغي أن تكون على مرآى من الجمهور، وهذا يعني أنه ينبغي على الممثل الحوم والحوم والحوم بشكل متواصل حول العائلة ومراقبتها بدقة.
إن الهيجان والوثب والتدلي بهذا الشكل المُهدِّد أصبح ملاذ الممثل وهدفه، لهذا السبب تطلبّ معمار الجزء العلوي للديكور أن يكون شبيهاً بحشرة ضخمة يسهل لغريغور تسلقه ليونة. أما أفراد العائلة وبقية الشخصيات القابعون في عالمهم السفلي فقد ظهروا بشكل يفوق عالم غريغور بهيمية عبر حركتهم الآلية التي تتماهى وحركة الدمى وهي تعكس توترات تلك الحشرة. إن مشهدهم المقرف وهم على مائدة الطعام أوحى لنا كأنهم حيوان واحد عملاق يقوم بجمع قذارته ليقتات عليها.
الأغتراب والنفور والعزلة والقطيعة بين غريغور والعائلة قد تم التعبير عنه هنا عبر الظلال الممسرحة، ففي أي وقت يشاء أفراد العائلة التحدث إلى غريغور نرى ظلالهم الضخمة تظهر منعكسة على الجدار الخلفي كما لو أنها إسهامة مضافة لتوسيع فجوة سوء التفاهم المشترك. لاأحد يعرف أو يتوقع من هو غريغور أو من هو هذا الآخر الذي أصبحه!.
في نص بيركوف نجد أن القوى التي شوهت ماكان جوهرياً وحميمياً في الطبيعة البشرية هو غباء وجشع وحماقات أفراد الأسرة، فالمظهر الأكثر عبثية وقسوة ولامعقول بالنسبة غريغور ليس التحّول ذاته، إنما ذلك العمى الذي كان يتعامل من خلاله الجميع إزاء هذا التحّول. فالأم تقول ببساطة: "كان ثمة شيء ما غريب دائماً بشأن غريغور، لهذا السبب غادرنا". أما شقيقته غرتا التي لم تظهر في النص الجديد كما هي في قصة كافكا ودودة ومشفقة، فقد كانت تظهر إهتمامها وعنايتها بغريغور فقط بدافع من والديها لغرض محّدد هو مراقبة تطور حشرته. ولعل المشهد الأكثر قساوة وإثارة للشجن هو المشهد الأخير الذي يتم فيه قمع الحشرة وهلاكها من قبل الأب عن طريق دفع ولده الوحيد غريغور بعصا المستأجر وضربه المبرح على رأسه دافعاً إياه نحو غرفته مغلقاً عليه الباب ليموت وحيداً.
إلا أن التحّول الذي يحدث لأفراد العائلة في النهاية هو التحول الأكثر رعباً ووحشية في هذا العرض، فوالد غريغور الهرم العليل الذي كان يستلقي متعباً وواهناً في فراشه طوال الوقت يستعيد فجأة عافيته وتتغير ملامحه ونبرة صوته وحركاته ثم يرتدي بذلته القديمة بذلة ساعي المصرف النظامية ليلعب دور طاغية المنزل ومعيل الأسرة كما لو أنه يمثل رمزاً لمبدأ العقاب. أما غرتا شقيقة غريغور فتخرج من بين ظلال الحشرة لتلعب دورين متضادين متناوبين، الأول، دور رئيس الموظفين وهو يوجّه خطابه المّذل والمهين إلى الأم والأب وشقيقها، والثاني دور الفتاة الجميلة العاشقة التي تنتظر ملاقاة عريس المستقبل بعد إن تم إقصاء الحشرة ورميها في القمامة.
لقد جسد هذا العرض مهزلة كابوسية سوداء مقلقة وصارخة عن وحشة الأنسان وضياعه في عالم تمزقت فيه الصلات الأنسانية الحميمة بين الناس. فحتى العلاقات الأكثر لحمة وجمالاً وعذوبة في هذا العالم تلك المتمثلة بالعلاقات العائلية تبدو هنا كما لو أنها مجرد أوهام.
لقد تمّلك المخرجة هاجس ملحاح وعنيد في تحويل هذا العرض الكافكوي إلى درس في الحنين لتلك الوشائج الأنسانية التي نفتقدها اليوم، إلى درس في طبيعة الشقاء الذي يقاسيه أولئك الذين يقلقهم بلوغ المستحيل.
في "تأملات حول التحول" كتب بيركوف يقول:"إن معاناة كافكا تتمحور حول الأشياء الصغيرة في الحياة مثل الحشرة في (التحّول). تخيّل، ماذا يحدث حين يتحول الأنسان إلى حشرة صغيرة!؟. إنها قصة كتبت بعناية شديدة حول كل تلك الأشياء الصغيرة المفصولة عن هيكلها، جاء كافكا ليوّحدها بقوة ملاحظة ومراقبة متقدة الذكاء. إنها في الآخِر حول الأنسان الذي فقد هويته وأناه أكثر منه حول حشرة.".
alikamel50@yahoo.co.uk

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف