المدينة تقترح الرواية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ـ1ـ
كانت المدينة على الدوام مركزاً لصناعة التاريخ، "فتاريخ العالم هو تاريخ مدن، ومن ناحية فعلية فإن التاريخ هو دراسة المقابر الحضرية" كما يقول كيدين سجو بيرك. والمدينة هي المجال الحيوي الذي شهد التحول الإنساني وتقدم العالم. إن المدينة في جانب منها هي كيان عضوي مادي مكوّن من مؤسسات وأنماط علاقات تربط هذه المؤسسات بعضها ببعض (الأسرة.. الاقتصاد.. العمارة.. وسائل الاتصال.. الشرطة.. مراكز التسلية والثقافة.. الخ). وهي في جانب آخر وجود روحي حي.. هذا الوجود الذي يميز مدينة عن أخرى، ويمنح كلاً منها طابعها الخاص. فلكل مدينة روحها، وهذه الروح هي التي تلهم الشعراء والقصاصين والروائيين كي يجعلوا من مدينتهم فضاءً لإبداعاتهم. فجيمس جويس جسّد مدينة دبلن في قصصه ورواياته حتى قال أحد النقاد ـ وربما بشيء من المبالغة ـ أن مهندساً بارعاً إذا ما قرأ مؤلفات جويس بعناية فإنه يستطيع أن يبني دبلن ثانية بهندستها وروحها ذاتها حتى وإن لم يرها قبلاً.
إن روح مدينة القاهرة تختلج داخل تضاعيف روايات نجيب محفوظ، وروح منطقة المسيسيبي الأميركية نتحسسها بين سطور روايات وليم فوكنر. ونبض باريس القرن التاسع عشر نكاد نسمعه ونحن نقرأ روايات بلزاك، وأنفاس مدينة بغداد/ الخمسينيات تلفحنا ونحن نقرأ رواية الرجع البعيد لفؤاد التكرلي
عرف القارئ العربي القاهرة من خلال روايات نجيب محفوظ قبل أن يراها، ولربما حتى أولئك الذين رأوا القاهرة فعلياً لم يعرفوها بالقدر الذي وفره نجيب محفوظ في رواياته لقرائه، غير أن المدينة التي تبنى داخل النص الروائي لن تكون مطابقة للمدينة الواقعية. فالنص الأدبي عمل تخييل حتى وإن اتخذت لها من أزمنة وأمكنة وأحداث واقعية مرجعاً. فاللغة التي هي أداة ووسيلة العمل الأدبي لها استقلاليتها عن عالم الأشياء، ولا يمكن إلاّ أنْ تشير إلى هذه الأشياء من دون أن تكون إياها.
ـ2ـ
في مقدمة كتابه "الريف في الرواية العربية" ينبهنا الدكتور محمد حسن عبدالله إلى المفارقة الموجودة في عنوان كتابه، والمخالفات والتحديات، كما يسميها، التي اعترضته وهو يتصدى لموضوعة (الريف) في (الرواية العربية) ذلك أن "الفن الروائي ابتدع ليعبر عن المدينة وليس الريف أو القرية، وارتبط ازدهاره بنشأة المدن الكبرى". فالرواية هي نتاج المدينة البورجوازية الحديثة، وما كانت ستحظى بحق الوجود لولا تعقّد وتوتر العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية داخل المدينة، وحيرة الإنسان وقلقه ومخاوفه وهو يواجه قدره وحيداً، ويحس بغربته الخاصة على الرغم من حريته النسبية، والتي هي، على الأغلب، حرية موهومة.
فالرواية وليدة ذلك العصر الذي اعترف ـ ربما للمرة الأولى في التاريخ ـ بالفرد قيمة مستقلة، وبحريته في التفكير والتعبير بعدما اجتاحت مفاهيم عصر الأنوار قلاع العصور الوسطى المظلمة في أوروبا الإقطاعية، ومع هذا التحول وجدت الشخصية الإشكالية المغتربة التي تتسم علاقته بالآخرين والعالم بالتوتر والتصدع، والانقطاع أحياناً، والتي هي الشخصية المرشحة لتكـون (محوراً / بطلاً) في الرواية.
بالمقابل فإن إشكالية الرواية الحديثة بخاصة تنبع من إشكالية الإنسان المعاصر.. من اضطراب حياته ورؤاه.. من قلقه وحيرته الوجوديين، ومن هذا التخلخل الذي أصاب القيم والعلاقات الاجتماعية في المدينة الحديثة.. هذه الخاصية تجعل من المدينة عالماً مفتوحاً على احتمالات شتى، وتجعل حركتها تتخذ مسارات متعددة ومتداخلة عبر تشعب وتشابك وحيوية العلاقات الاجتماعية، وتقاطع الأحداث وتساوقها وتصاعدها، والتي تمد الكتابة الروائية بواحدة من أهم عناصرها، وأقصد الإثارة.
ولأن إنسان المدينة يستطيع أن يختار بشكل أوسع، ويخترق المحرمات التقليدية بشكل أوسع، ويتحرك في إطار فضفاض من الأعراف والتقاليد، أصبح جديراً كي يتبوأ مكانة (بطل/ شخصية رئيسة) في (رواية)، وأصبحت الرواية بسماتها الفنية والأسلوبية التي ألفناها شكلاً أدبياً يوغل جذوره في قاع حياة المدينة.. أي أنها ـ أي الرواية ـ غدت مؤسسة ثقافية مدنية خالصة.
إذاً لولا تلك الأرضية الاجتماعية المعقدة التي أفرزتها المدينة بطرزها الحياتية وعلاقاتها ومؤسساتها لما كانت للرواية فرصة أن تكون، وتأخذ مكانتها بين الأجناس الأدبية الأخرى.
إن شكل الرواية القلق، وتشعب بنائها الداخلي، والدينامية التي تسم طابعها، وتحررها النسبي من قسر الحدود والقواعد الصارمة، وانفتاح نهاياتها.. هذه الأمور كلها تبدو معادلاً ومكافئاً لطبيعة المدينة الحديثة التي كانت نتاج المرحلة الصناعية وما بعدها في سياق تطور المجتمع البشري.
ـ 3 ـ
إن قراءة معمقة لرواية عبدالرحمــن منيف
إن الصحراء تفرض نمطاً حكائياً يقترب من الأسطورة والقصص الشعبي، فالصحراء هي حاضنة الأشكال السردية السابقة للرواية. ومع اكتشاف النفط ونصب الآلات العملاقة وتشييد البيوت، وتبليط الشوارع ودخول وسائط النقل الميكانيكية، واتساع حركة السوق، وإقامة المؤسسات كانت العلاقات بين الأفراد، وبين الأفراد من جهة والمدينة الناهضة من جهة أخرى تأخذ بالتداخل والتشابك والتعقيد، وفي موازاتها يتحرر السرد من الأشكال القديمة ليتلبس شكل رواية.
ـ 4 ـ
يؤكد الدكتور محمد حسن عبدالله أن الشكل الفنــي (اليوميـات) لكتـاب (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم هو نقطة ضعفها الأساس. ومن حقنا أن نتساءل فيما إذا كان من الممكن لتوفيق الحكيم في العام 1937 أن يكتب يومياته في شكل روائي؟ وليس المقصود، هاهنا، قصـور وعدم امتلاك الحكيـم ـ في ذلك الوقت ـ للأدوات الفنية لكتابة الرواية فقط، تلك التي سيطورها نجيب محفوظ بعد عقد من الزمان، ولكن فيما إذا كانت الأحداث التي يسردها الحكيم في إطار مناخها الريفي توفر فضاءً لرواية فنية، على الرغم من أن الحكيم صوّر حياة الريف، وقد اخترقتها الشخصيات القادمة من المدينـة (محققون ونواب وقضاة ) بقوانين هي بنت المدينة المتحضرة.
إن الشكل السردي المتمثل باليوميات ـ وهو شكل حديث أيضاً لم يعرفه الأدب العربي القديم ـ ما كان للحكيم استخدامه أسلوباً تقنياً لولا أن الريف كان مخترقاً بالأصل، وأن الكاتب ( الحكيم ) كان أحد عناصر هذا الاختراق.
إن النسيج الاجتماعي الداخلي لبنية المدينة تخلو من ذلك التماسك الذي يسم نسيج الريف الداخلي. فالريف الذي يبني علاقاته على أسس القرابة، وتحت ضغط شروط اجتماعية صارمة تجعل من إيقاع الحياة في الريف موحداً، ولكن مكرراً ورتيباً، في غالب الأحيان، أيضاً. فذلك السلّم من القيم والأعراف المتوارثة يكون رأسمالاً رمزياً جماعياً يحافظ على النسيج الاجتماعي من التشتت والعطب.
يتحول الحدث الفردي في الريف إلى همّ جماعي. وتخطي حدود التقاليد والأعراف لابدّ أن ينتج فضيحة تهتز له مجتمع الريف بكليته. أما في المدينة فيبقى الحدث مسألة فردية، وتخطي الحدود والمحرمات يمضي، في أكثر الأحيان، من دون أن يثير أحداً، ولاسيما إذا لم تكن تتجاوز حدود وحريات الآخرين.
إن انفتاح الريف، داخلياً، يقلل إلى الحد الأدنى نطاق المحتجب والمخفي. أما المدينة فهي مغلقة، والحياة فيها تجري، في الغالب، داخل جدران صلدة. وبذلك نجد أن للمدينة أسرارها ومؤامراتها السرية.
ـ 5 ـ
كان على (زهرة) في رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ
تقترب الروايات التي تتحدث عن الحياة في الريف من شكل القصص الشعبي، أو الحكايات القديمة، أو الأساطير. فرواية الريف أو البوادي التي لا تتصل بالمدينة تبني عالماً مغلقاً على نفسه، محدودأ ومكرراً. أما مركز الفاعلية في أية رواية معاصرة فهي المدينة، حتى وإن كان جزء من أحداثها يجري في الأرياف والبوادي. وحتى يكون الريف مسرحاً لرواية فإنه ينبغي أن يكون مفتوحاً على المدينة، أو مخترقاً من قبلها.
نعرف أنه لولا شخصية مصطفى سعيد لما كانت هناك رواية أسمها "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. وإذا كانت بداية الحدث ونهايته، في هذه الرواية تبدو وكأنها واقعة في الريف فإن مصطفى سعيد لم يصنع مغامرته الخاصة إلاّ منذ اللحظة التي غادر فيها الريف طفلاً ليدرس في القاهرة أولاً، ومن ثم في لندن. وهناك، ولاسيما في لندن، كانت الخيوط المحكمة والمثيرة للسرد الروائي تُنسج وتُكتمل.
هاجر مصطفى سعيد وهو يحمـل ذلك الاستعـداد البيولوجي والنفسي الأول (ذكاءه الحاد، وخلوه من العواطف المائعة) ليخلق روايته على تلك الخريطة المعقدة من العوالم والعلاقات المتمثلة بمجتمع لندن، وليبتكر شخصيته الفريدة. وما كان باستطاعته أن يسرد قصته مع ذلك العالم إلاّ لشخص آخر خاض تجربة الهجرة إلى مدن الشمال، وعاد بشهادة جامعية (هو الراوي الأول داخل البنية السردية لرواية ـ موسم الهجرة إلى الشمال ـ وهو المروي له الرئيس أيضاً ).
ـ 6 ـ
هل كان للرواية أن ترى النور ـ جنساً أدبياً له خصائصه التي نعرفها اليوم ـ لولا أن المدينة قد خلقت النمط الفردي من البشر، ذلك الإنسان الذي يشعر باستقلاله الذاتي، وقد تحرر إلى حد بعيد من المواضعات الاجتماعية التقليدية. ولولا اشتباك العلاقات وملابساتها وتعقيداتها وإشكالياتها داخل المدينة، وقلق الإنسان وحيرته وهو يواجه المجهول ويمضي إلى مصيره وحيداً؟.
إن غياب الاستقرار والطمأنينة، والتوقع المضطرب للإنسان لما تنتظره من احتمالات ومفاجآت في دوامة حركة الحياة السريعة والصاخبة.. الخفية والظاهرة للمدينة، هو الذي يهيئ المرجعية لخلق التنوع والإثارة والتوتر والتصعيد في السرد الروائي.
الهوامش:
( 1 ) د. محمد حسن عبدالله ( الريف في الرواية العربية ) سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت/ 1989 ص 7.
( 2 ) المصدر السابق ص 64.
saadrhm@yahoo.com