وداعاً، إسكندريّة كافافيس (3/3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الأمكنة؛ الأبعاد الأربعة للمدينة الكونيّة:
"كان شاطيء البحر يزهو بالأضواء رغم الشتاء، وخطوط "الكورنيش" الطويلة المنحدرة تتثنى بعيداً، تتلاشى في أفق يميل إلى الهبوط، وآلاف النوافذ الزجاجية تشع بالأنوار، وخلفها جلس سكان الحيّ الأوربي من المدينة، كأسماك إستوائية رائعة، إلى مناضد متألقة عامرة بزجاجات المستيكا واليانسون، أو البراندي.." (1). ما انأى مدينة كافافيس، الأكثر محافظة، اليوم، بين مدن وادي النيل، عن هذه الصورة المنطبعة في المتن الضخم لرواية "رباعيّة الإسكندرية"، والتي سجّلها لورنس داريل؛ إسكندريّة الأربعينيات، التي كانت بتنوّعها الثقافي وتعددها الأثني، منارة بحق للشاطيء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وكفى بنا مثالاً، لوقتنا الحاضر، حقيقة أنّ الجالية اليونانية الوطنية، قد إندثر وجودها في الحاضرة التي مُنحتْ إسم رمز الإغريق الأكثر إشعاعاً على مرّ العصور؛ الإسم وما تصرّف عنه من وجود تاريخيّ متجذر، تجاريّ وثقافيّ وسياسيّ.. في الإسكندريّة التي يفخر إبنها، كافافيس، بأنها كانت مفخرة لليونانيين، و تحوي كل ما يشاءه المرء من متعة:
" وإن أردت أكثر، فلن تبحث بعيداً
فالمدينة المحظية، تاج كل ما هو إغريقيّ
حصيفة في كل شيء، في كل فن " (2)
كان ذلك في ظهيرة يوم عطلة، طال سهر ليل أمسه؛ ليل المدينة المتساهلة مع سمر المقاهي والحدائق المفتوحة لروادها. أوقظت على هدير بشريّ، وما يشبه مكبّر للصوت، لا يمكن أن يكون مصدرهما سوى الجادة المفضية لنزل "سيسيل"؛ مقرّ إقامتنا. هرعت ُ إلى الشرفة، وقد تبادر لذهني، أو لوهمي على الأصح، أنها مظاهرة من مظاهرات التنديد بـ"غزو العراق"، كما دأب الشارع المصري خلال تلك الأيام على مؤالفته. بيد أني بوغتُ بمرأى صف من الخلق، من الرجال حصراً، وهم في حالة من القيام والسجود، وعلى بعد ثلاثة أمتار حسب، من مدخل فندقنا الدوليّ ! وخلال دردشة الإفطار، في مطعم النزل السخيّ، علمتُ من النادل، وهو شابٌ قبطيٌ غاية في التهذب، ما انعقد من أسباب صلاة الجماعة، تلك: كان أهل الإيمان من موظفي ومستخدمي الفنادق والبنسيونات، المكتظ بها ذلك الحيّ الاوربيّ، القديم، وما تفرّع عنه، يشكون دوماً من عدم وجود مسجد في المنطقة. يبدو أن المحافظة، وربما بسبب سياحيّ بالدرجة الاولى، لم ترَ من الضروري المغامرة بتشويه هذا المكان الأثريّ، ببناء جامع مستحدث. فما كان من جمهرة المؤمنين، سوى إستئجار سيارة " لوري "، بعلو مئذنة، تمّ في مقدمتها تثبيت ذلك المكبّر الصوتي، الجهير، الذي شاء أن يقتحم نكيره، نومي الحالم !
يبدو أنّ الجوّال المعاصر، لا محيد عن تيهه في مفهوم "المكان"، الخاص بهذه المدينة المجبولة بالتناقضات، مذ إنبثقت، كزهرة معجزة، من برونز سيف الفاتح الإغريقيّ. فالحيّ الأوربيّ، القديم، لا يني المرء يداور فيه، وإنطلاقاً منه إلى الأمكنة الاخرى المسكونة، أيضاً، بوجود البحر وشطه وكورنيشه؛ حيّ لم يبق منه سوى إسمه، والأصحّ وهمه؛ لأنه حتى الأسماء الأصلية "عرّبت" جميعاً، بعدما إنطلست معالم ُ مسمّياتها، الحضارية، وأحاق بها التشوّه الريفيّ في الصميم: وكمثال على ذلك، فالجادة التي تقع فيها العمارة المحتوية شقة كافافيس، كانت تعرف بـ"شارع ليبسيوس"، ثمّ تحولت إلى "شارع شرم الشيخ"؛ وهذه الأخيرة، كما هو معروف، إسم منطقة في يناء كانت محتلة من قبل اسرائيل واعيدت للسيادة المصرية بعد إحلال السلام بين البلدين: فكأنما إختيار التسمية، من قبل المعنيين بالمحافظة، هو ضربٌ مألوف من السلوك الخبيث، السائد عربياً، والذي يقرن الأقليات الأثنية بأي طارىء خارجيّ، غاز ٍ أو محتل ٍ أو مهيمن.. وفي علة السياق هذه، فقد إستكثر المعنيون، هؤلاء، أن يُطلقَ إسمُ " كافافيس " على الجادة المحتضنة إرثه وروحه؛ وهو الإسم المتواشج، والملحق أبداً بإسم الإسكندرية:
"محيط البيت، وساحات المدينة، وأحياء المدينة
الذي لا أبالي به، والذي أسير فيه، سنين وسنين
لقد خلقتُكَ في خضم الفرح، وفي خضم الحزن
عبر حالات عديدة، وأشياء عديدة.
فغدوتَ، أنت بأسرك، إستثارة ً لي"
تقسيم الأمكنة، إذاً، إلى " حيّ اوربيّ " و "حيّ سوريّ " و"حيّ عربيّ " الخ.. فيه مساهلة لا يجيزها واقع الإسكندرية الراهن، ولا تاريخها المعاد تشكيله " قسرياً "؛ وخصوصاً منذ النصف الأول من القرن المنصرم، وإعتلاء الإنقلابيين العروبيين لسدة السلطة. ويمكن الإفتراض، بشيمة حسن النيّة، أن " المدينة المحظية " بحسب كافافيس، و " البغي بين المدن " بوصف داريل، قد إنتقمت من " عشاقها الجدد "؛ الأجلاف القادمين من أعماق القرية، بالتمنّع عنهم والإستحالة عليهم، كما يجدر بإسم البغي المقدسة / الأم الأرضُ، بحسب عقائد الشرق القديمة: أليست الكآبة المحوّمة على هذه الحاضرة، والمقيمة في أهليها، هي من لوامع هذا الإنتقام ؟؛ كآبة مهيمنة خصوصاً على الصروح والأوابد والنصب المطابقة لحضارة الإسكندرية، المتنوّعة ثقافياً: فمكتبة الإسكندرية (مكتبة العالم، بحسب تعبير بورخيس)، والمندثرة رماداً في لهيب الفاتحين الأميين، يُعاد بعثها حديثاً في المكان المفترض نفسه، ولكن بهيئة ك " الإكسسوار " المتفترضة أيضاً روح المعاصرة؛ الأعمدة وأقواس النصر والتماثيل المتناثرة في الميادين العامة، منسوخة برداءة عن الأصل البتولمي والرومانيّ والبيزنطيّ، المنسيّ والضائع؛ الآثار الإسلامية، وأغلبها أيوبية ومملوكية، حجبتها وغمرتها في آن، اولويات السياحة وتراتيبها.
إلا أننا ما أن بلغنا أطراف "الحيّ العربيّ "، حتى طرح، جانباً، كل هذه السلوكيات. زال عنه توتره. أزاح طربوشه ليجفف عرق جبهته، وحملق فيما حوله بمودة وإلفة. كان ينتمي إلى هذا الحيّ بالتبني. هنا كان يحسّ، حقاً، أنه في داره " (3). قليلة هي الإشارات، في " رباعية " داريل، المتطرقة إلى هذا الحيّ المصريّ، الصميميّ، " الأنفوشي "، المتعاظم حجمه، بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة، خلال الحرب العالمية الثانية؛ وهي الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية. وكأنما قَََدَر الغريب، القادم للإسكندرية، أن يحلّ فيه هذا الإنجذاب، الممغنط ، نحو الدائرة المحوّطة للحيّ الأوربي، واللامبالاة بالأحياء الاخرى، المتطرّفة عن مركز المدينة وروحها؛ " الكورنيش ". غير أنه، وبمحض المصادفة، جرّني إلى تلك الحارات الشعبية، تحويلٌ لا شعوريّ في سيري، الساهم، خلال الكورنيش البحري، وبالإتجاه المعاكس لميدان " المنشية "، المحاذي للنزل الذي أقيم فيه. رأيتني مطمئناً إلى خط سيري، مادام الشاطيء الأثير، ظلي الحارس ؛ الظل المزبد، الفضيّ المشوب بالسمرة، المعتلج بين زرقة البحر والسماء. حتى إذا اختفى ذلك الظلّ، ولجتُ يقظاً، حذراً أكثر فأكثر، في دروب متربة، سيّدها الغبار؛ في قلب الفقر والبؤس والفاقة، النابض على أيسر صدر المدينة: " المدينة الأم التي لا تعي شاعريتها، والتي مثلتها الأسماء والوجوه التي صنعت تاريخها "، كما يقول داريل في " الرباعية ". بيد أنّ الكاتب، في إشارته آنفة الذكر، ما كان يعني هذي الحارات الشعبية، العشوائية، والتي لا تشبه في شيء أحياء القاهرة القديمة، الأثرية؛ ناهيك عن أحياء الإسكندرية، الأوربية الطراز والتصميم: فهذه بكلمة اخرى، قرى وجدت نفسها، وبغفلة منها على الأرجح، على الناصية المهملة، المنسيّة، لمدينة الخطيئة التي لم تأبه بها يوماً. من قلب هذا البؤس المستشري في الأمكنة وناسها، على حدّ سواء، خرجت رموز اخرى " بلدية "، ما كان لصاحب رباعية الإسكندرية أن يعرف أسماءها أو وجوهها؛ كسيّد درويش وناجي وغيرهما من فناني ذلك الجيل .. وكذا عتاة البلد، من بلطجية وبرمجية وقتلة ومشبوهين وغيرهم من الأشخاص المسرفين في القسوة والإجرام، بحسب أفلام الأربعينيات المصريّة، الرومانسية: وما كان ليدور في خلد روائيّ، مثل " داريل "، الموهوب بالدقة في التفاصيل والمغرم بالحبكة المنسوجة من جريمة ما، غامضة ملغزة،، أن نموذجاً فنياً، كالذي جسّده الثنائي، القاتل، " ريا وسكينة "، كان يعيش في ظهرانيه، بمقربة من قلمه وبدون أن يدري به !
" كنتُ قد وصفت من قبل، كيف تقابلنا في ليلة كرنفاليّة _ في تلك المرآة العالية، في " سيسيل "، مقابل بوابته المشرعة على صالة الرقص. الكلمات الاولى التي تبادلناها معاً، ربما وجدت لها صدىً ما في تلك المرآة " (4). هذا ما تـسجله " الرباعية" عن لقاء بطلها " دارلي "، بمحبوبته الإسكندرانيّة اليونانية " ميليسا "، في ذلك الفندق الأثريّ " سيسيل "؛ الفندق الذي حجز لبعثتنا السويديّة، بعد مرور عقود ستة من زمن الرواية. وأنا أقرأ، مجدداً، رباعيّة داريل، يتبادر لذاكرتي عن ذلك النزل، فوراً، تواري صالة الرقص تلك، الأرستقراطية، وراء لافتة جديدة، " صالة الأفراح "؛ لافتة جديرة بتحولات الزمن الريفيّ، الظافر. كنا، وبدورنا، على موعد مع ليلة كرنفالية، اخرى، تشابه إلى هذا الحد أو ذاك، تلك التي وصفها داريل: إقترح علينا زميلنا، الشاعر اليونانيّ، قضاء السهرة في مقهى " اورورا " ؛ المقهى، الواقع في مجاهل الحيّ الاوربيّ، القديم . كان هذا البار ، المكان الليليّ المفضل لدى كافافيس، و ربما إلتقاه هناك مؤلف " الرباعية "؛ وهي الرواية التي ذخرت صفحاتها بلمحات عن " شاعر المدينة، العجوز "، كما قدّمته للقراء. ومثلما في المسرى الليليّ، الذي قادني، منفرداً، إلى الجادة التي تقع فيها شقة كافافيس، والمتبدى لي، فيما بعد، كأنه أضغاث حلم؛ كذلك الأمر في هذه الجولة، المسائية، التي جمعتنا تحت سقف المقهى العتيق جداً، والشاهد المعتق، الحاضر دوماً، على حضور شاعر المدينة. فالجادة، حين وصولنا، كانت مغرقة في غلسة كثيفة، حتى أنّ دليلنا، الزميل اليونانيّ، قد اضطرّ إلى أن " ندلّه " نحن على الطريق الصائب، بوساطة من الوسيلة اللغوية، التي يجهلها هو. أشار لنا أشخاص متسامرون، ملتحفون عتمة إحدى الزوايا، وباللهجة الإسكندرانيّة، المميزة، عن وجهتنا المطلوبة. صعدنا إلى الطابق العلويّ من المقهى الغارق، أيضاً، في عتمة مبهمة، تنيرها ومضات خافتة من شموع مثبتة بدرابزون السلم، وتلك الموضوعة على المناضد: هكذا أراد أصحاب المكان، وهم من مواطني المدينة الإغريق، تكريم ذكرى شاعرهم العظيم، الذي اشتهر عنه ضيقه بالإنارة القوية التي تبعثها مصابيح الكهرباء. توزعت مجموعتنا، إذاً، على المناضد، فرأيتني في جيرة زميلنا، الشاعر التركيّ المقيم منذ عقود ثلاثة في ستوكهولم. كان رجلاً في أواسط العمر، أبيض الشعر، وعلى شيء من البدانة؛ وبهذه الصفة الأخيرة، ربما، كان مرحاً للغاية، فيما عدا اللحظة التي يأتي أحدهم فيها على ذكر هذه المفردة " كردستان "؛ المحرّمة في قاموس الشخصيّة التركيّة، المعتدّة ! وإذا كان الرجل، في يوم أسبق، قد رفض قطعياً مرافقتنا إلى شقة كافافيس، إلا أنه، في هذه المرة، أبدى تساهلاً كريماً؛ متناسياً الضغينة التقليدية، المتوجّبة تجاه اليونانيين. الستائر الكثيفة، المسدلة على النوافذ الشبيه بللورها بالكريستال، لشدة نظافته، أوحتْ لشاعرنا التركيّ بملاحظته الأولى، معرباً عن تذمره من الرطوبة الخانقة. عبثاً كان فتحنا للنوافذ جميعاً، إكراماً لمزاج الرجل، المتدهور شيئاً فشيئاً، مع حصر الحديث بموضوع كافافيس. فهاهو يتذمّر، كطفل مدلل، مع كل كأس شراب أو طبق " مازة "، يوضع أمامه: " ما هذه السلطة ال.. !؟ رباه، ألا يوجد لديهم غير عرَق " اوزو "، اللعين !؟ "، وعلى هذا المنوال. كان ينقص إسكندريّة كافافيس، حقاً، مدّعي الكلمة، ذاك؛ وهي في نكبتها وإغترابها، بما أحاقه بها مدّعو العروبة والثورة.
الإسكندرية؛ المدينة الفريدة، بحسب داريل، الذي أفرد لها رباعيّته الضخمة، الرائعة، والتي نظمها، كما تقول مقدمة جزئها الثاني، كرواية: " ذات أسطح أربع، كما يقوم هيكلها على الفرضية النسبية. إن ثلاثة أبعاد مكانية وبعداً زمنياً واحداً، تشكل الخطة المتجانسة لفكرة التواصل. إنّ الروايات الأربع تسير على نفس هذا المنهج ". مدينة كونية، إذاً، بأبعاد أربعة؛ بثقافات متنوّعة ومشارب متعددة؛ متبددة الآن، جميعاً، في بعد واحد وثقافة واحدة وجنس متوحّد! .. ما فتئت ذكريات اسكندريّة كافافيس تداهمني ؛ وعلى الأخص حينما أكون في ليلي، متوحّداً.. كما كانه حال شاعرها وإبنها الخالد، الذي غامر بعيداً، ثمّ عاد إلى مدينته نفسها، قدَره ذاته:
"لن تجد أرضين جديدة، ولا بحاراً اخرى
فالمدينة ستتبعك
وستطوّف في الطرقات ذاتها، وتهرم في الأحياء نفسها
وتشيب، أخيراً، في البيوت نفسها"
***
إشارات:
1 _ لورنس داريل، رباعية الإسكندرية ( الرواية الثانية: بلتازار )، ترجمة د. فخري حبيب – الكويت 1992، ص 227
2 _ المقاطع الشعرية لكافافيس، الواردة في المقال، ترجمة سعدي يوسف
3 _ لورنس داريل، المصدر نفسه، ص 34
4 – لورنس داريل، رباعية الإسكندرية ( الرواية الاولى: جوستين )، الطبعة السويدية – ستوكهولم 1998، ص 65