عالم الأدب

اجتهادات مريبة في ترجمة هاملت

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في المشهد الثالث- الفصل الثالث، يتذكر هاملت كيف قُتلَ والدُه، وكيف صبّ شقيقُه (االملك الحالي) السمّ في أذنه، وادّعى أنّ أفعى لدغته. هذا القتل كان غدراً لأنّ الملك القتيل لم يُعْط فرصة للتكفير عن ذنوبه، حسب الأعراف المسيحية.

A took my father grossly, full of bread
With all his crimes broad blown,as flush as May
And how his audit stands who knows save heaven?

"قضى على أبي حين كان منغمساً في ملذّاته
لم يجدْ وقتاً للتكفير عن ذنوبه
و كلّ جرائمه متفتحة مثل ريعان النباتات في شهر مايو/ ايار
وكيف سيكون حسابه؟ لا يعلم إلاّ الله"

إلاّ أنّ جبرا ترجمها على الوجه التالي:

" لقد أتى ابي غرّة وهو ملئ بخبزه
وخطاياه مفتحة الأكمام كلّها محمرّة كخدّ أيّار
ولا يعلم حسابه الأخير إلاّ الله"

تصور جبرا أنّ تعبير:full of bread يعني: ملئ بخبزه. لكنْ كيف يكون الإنسان مليئا بخبزه؟ الجملة هذه لا تعني شيئا، لا باللغة الإنكليزية ولا باللغة العربية. كيف استساغها المترجم؟ ولماذا لم يتواضعْ فيراجع شروح الطبعات الإنكليزية، أم أنه ازدهاء الإنسان بنفسه، فلا اهمية لقارئه!
أضاف جبرا أيضا كلمتين لا لزوم لهما وهما تعطيان معنى عكس المطلوب. الكلمتان هما: محمرّة وخدّ. بهاتين الكلمتيْن جعل جبرا الخطايا جميلة جمال أزهار الربيع. ولماذا اختار المترجم اللون الأحمر من بين كل الألوان الأخرى التي يتميّز بها الربيع؟ حمرة الوجوه لا وجود لها في هذه المسرحية، بالعكس إنّ للشحوب دلالات استثنائية فيها. ( كان من أوّل أسئلة هاملت عن شبح أبيه: هل كان شاحباً؟).
المعنى الأدقّ لتعبير: full of bread أنّ الملك مات ولم يكنْ في حالة روحية جاهزة. قال شبح الملك في الفصل الأوّل- المشهد الخامس:

" قُطعتُ وأنا في عنفوان خطيئتي
لم أعترفْ بخطاياي ولم اطلب الغفران
ولم أتطيّبْ بالزيت
وأُرسلتُ إلى يوم الحساب
وكلّ ذنوبي فوق رأسي"

المعنى العام أنّ المذنب لو ندم وتاب فعلاً، فقد تُغفر ذنوبه .(أنظرْ لوقا:5- -30 -32): "فاجاب يسوع وقال لهم لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لمْ آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة". ومتّى: (6- 15 ): "وإنْ لم تغفروا للناس زلاّتهم لا يغفرُ لكم ابوكم زلاتكم". وأعمال الرسل:( 9-1- 31).

* * *

في الفصل الخامس- المشهد الثاني، يرحّب رجل البلاط أوسْركْ، بعودة هاملت نفاقاً، ويخبره، بأنّ الملك رتّب له، مبارزة مع شقيق اوفيليا. راح هاملت يكيل السخرية لأوسْركْ لأنّه ابن البلاط، وعلى هذا فلغته ككل ّأفرلد الحاشية مجرّد جعجعة وما من طحين. دار الحوار التالي بين هاملت وهوراشيو:

Hamlet: I humbly thank you, Sir.
- Doost know this Water- fly?
Horatio: No, my good Lord.
Hamlet : hellip;He hath much Land and fertile
Let a Beast be Lord of Beasts, and his crib
Shall stand at the King s Mess.Iis a Choughbut, as Isay, spacious in the Possession of Dirt
هاملت: أشكرك بامتنان يا سيّدي (إلى هوراشيو) اتعرف مَنْ هذا اليعسوب؟
هوراشيو: لا يا سيّدي الطيّب.
هاملت: إنّه صاحب أراض واسعة وخصيبة. وما دام يمتلك ماشية كثيرة وهو ليس خيراً منها- فإنّكَ ستجد معلفه على مائدة الملك . إنّه غراب الزاغ
يمتلك كما قلتُ فدانات واسعة من الأطيان".

تذكر أمل امين زكي في أطروحتها: "
Sakespeare In Arabic" (ص273) ترجمات مختلفة للنصّ أعلاه. قال خليل مطران:
"لو كان سيّد
البهائم بهيمة كسائر رعيّته
لوجد فكّ هذا الآكل على مائدته كل يوم"

ويقول سامي جريديني
:"مكّنْ الوحش من اقتناء وحوش كثيرة ترَ معلفه بجانب موائد الملوك".
امّا عوض محمد فترجمها على الوجه التالي:
"متى كان الحيوان أميراً في مملكة الحيوان، بات
جديراً بأن يجلس على مائدة الملك"

ثمّ تذكر أمل زكي ترجمتيْ جبرا والقط، معتبرة أنّ ترجمة جبرا
"أقرب إلى الأصل". لماذا؟ ما المعيار الذي وازنت به الترجمات المختلفة؟
لنقرأْ ترجمة جبرا كاملة:

هاملت: إنني بكلّ تواضع أشكر لك لطفك. (جانبا لهوراشيو) أتعرف ذبابة الماء هذه؟
هوراشيو: كلاّ يا مولاي.
هاملت: ...أينما وُجد حيوان هو سيّد الحيوانات رأيت معلفه على مائدة الملك ولكنّه كما قلتُ يملك الشواسع من القذارة".

أما ترجمة القطّ فلا تختلف كثيراً عن ترجمة جبرا إلاّ في السطر الأخير:

" إنه غراب ناعق ولكنه- كما قلت- كثير الطين"

أيْ بإضافة كلمة ناعق، واستعمال الطين بدل القذارة.
نعود اوّلاً إلى الباحثة الأكاديمية أمل زكي التي لم تعطنا، للأسف، المعيارَ الذي تفاضل فيه بين ترجمة وأخرى. من الأفضل قطعاً لو ان الباحث، ايّ باحث، حلّل النصوص نقديّا ومن ثَمّ يعطينا رأيه فيما اختاره وفيما تركه، ولماذا.
يتفق كل من جبرا والقط على أنّwater- fly: هي ذبابة الماء.
ولكنْ هناك أنواع كثيرة من ذباب الماء. فأيّاً منها عنى شيكسبير؟ ولماذا وظّفها هنا؟ لا ريب يختلف الشراح الإنكليزفي إعطاء جواب مرضٍ. وهنا لا بدّ للمترجم من استقراء القرائن.
يبرر القط اختياره لذبابة الماء في الحاشية (ص -259) :" يٌشبّه أوزرك في حركته الدائمة بلا هدف ولا ثمرة بذبابة الماء التي ترفرف صاعدة هابطة فوق الماء بلا غاية واضحة وأوزريك يمثل نموذجاً لرجل البلاط في تكلفه لحركات بعينها على المجاملات الزائدة والتلطّف المسرف في الحديث"
حينما عرّف القط هذه الذبابة وحينما جعلها "ترفرف صاعدة هابطة" وحينما قرر أنها "بلا غاية واضحة" إنّما جعلها مخصوصة ومعروفة وهي ليست كذلك كما رأينا.
يقول ج. أرْ. Hibbard وهو أحد محرري هاملت الأساسيين: من الصعب القول بايّ نوع من الذباب الذي يالف الماء كان يفكّر شيكسبير. يبدو أنّDragon-fly أي اليعسوب هو الأكثر احتمالاً. أنظرْ : الخامس الفصل Troillus - الفصل الأول- س-32-33 حيث اعتبرت اليعاسيب أشياء مزعجة لا قيمة لها. (ورد اليعسوب في ملحمة كلكامش، للدلالة على زوال الأشياء الحيّة بسرعة، في نصائح أتو- نفشتم لكلكامش).
أمّا الغراب كترجمة لـ chough فيتفق معظم المترجمين على أنه غراب الزاغ. يشبّه هاملت، لتريس بهذا الطائر، أوّلاً لانّ له صيحات سريعة، ولأنّه يقلّد ما يقال.( ذُكر هذا الطائرفي مسرحية وودْستوكْ : الفصل الثالث-المشهد-3 :2-3)

* * *

في الفصل الخامس -المشهد الثاني يعود القائد فورتنبراس مكلّلاً بالغار بعد انتصاره ببولندا. وحين يدخل إلى القلعة يرى أمامه الجثث متناثرة على الارض، فيقول:
This quarry cries on havoc. O proud death
What feast is towards in thine eternal cell
That thou so many princes at a shot
So bloodily hast struck?

"هذه الأكداس من فرائس الموتى تشي بصيّادين
قُتلوا بلا رحمة. آه أيها الموت المتغطرس
أية وليمة وشيكة سُتنصب في قبرك اللعين، حيثُ برمية واحدة
اصبتَ بروح متعطشة للدماء هذا العدد الكبير من الأمراء"

استعمل فورتنبراس في المقطع أعلاه استعارتيْن: الأولى من الصيد ولا سيّما صيد الغزلان حين يكومها الصيّادون بعضاً على بعض، والثانية من المصطلحات الحربية مثل
havoc : وهو نداء حربي يؤذن بالقتل بلا رحمة. هل ظهرت هاتان الاستعارتان في الترجمتيْن العربيتين؟ وما الاختلافات الأخرى؟. أدناه ترجمة جبرا:

"إنّه الصيد يصرخ بالقتل والدمار!
أيّهاالموت المصعّر الخدّ كبراً
أيّ وليمة ستولم في حجرتك السرمديّة
حتّى أصبتَ برمية واحدة هذا العديد من الأمراء
وسفكتً هذا الدم كلّه؟

يبدو انّ المترجم فاته فنّ التاليف المسرحي كما فاته أسلوب رسم الصورة الشعرية لدى شيكسبير بوجه خاص. فالاستعارتان المشار إليهما اعلاه لم تظهرا في الترجمة، حيث شبّه المؤلف المجزرة البشرية بمجزرة حيَوانية. خلت الترجمة كذلك من النداء الحربي للقتل بلا رحمة أيْ havoc .
حذف المترجم من ترجمته كلمة: towards :أيْ الوشيكة، وربما تعني هنا أنّ اللحم ما يزال طازجاً-إذا صحّ التعبير- كما تدلّ من ناحية أخرى على شدّة جوع الموت.
الغريب أنّ جبرا فهم تعبير: thine eternal cell : حجرتك السرمدية. كما ترجمها القط: في كهفك الأبديّ، وهي لا هذا ولاذاك.
يذكر محرر طبعة آردن، "أنّ هذه الاستعارة، لا كما يُفترض أحياناً، بأنّها مثوى الشهداء valhalla ، في الاساطير الإسكندنافية، حيث تستمتع الأرواح بالطعام بعد الموت، ولكنّ الموت هو الذي يستمتع بلحم القتلى" (أنظر مسرحية الملك جون: الفصل الثاني- المشهد الأول- 354)
يقول G.R. Hibbard : تعني كلمة : accursed, infernal : eternal
أي اللعينة.(أنظرْ يوليوس قيصر - الفصل -المشهد الثاني-س:160): "the eternal devil و(عطيل: الفصل الرابع- المشهد الثاني- س:131):"some eternal villain "
يقول T.J.B.spencer إنّ تعبير: thine eternal cell يعني القبر: grave.
أكثر من ذلك حذف المترجمان للا سبب، تعبير :bloodily أي المتعطشة للدماء.
***
ادناه قبصة أخرى من عشرات الكلمات والمصطلحات التي ترجمها جبرا وكأنْ عشوائياً، أو بصورة لا أباليّة:
ترجم حسك أو إبر القنفذ : الريش المزئبر
ترجم الفأرة : العصفور
ترجم مالك الحزين : الكركي
ترجم الضفدع : السلحفاة
ترجم دجاجة الحرش : العصفور
ترجم النخلة : غصن الزيتون
ترجم الشعر الجنائزي : الشعر المرسل
ترجم السنونو : العصفور
ترجم التراب الناعم : التراب المحترم...،( وكذلك فعل محمود السمرة...)إلخ

لكنْ مهما جوّزنا للمترجم من اجتهاد، أو مهما أتاح هو لنفسه من حرية التصرف في تعريب بعض الكلمات، إلا أنّه لا يجوز له المساس بها إذا كانت مصطلحات أو مفاهيم أو آقتباسات.
مثلاً ترجم جبر:النخلة: بغصن الزيتون. لماذا لا يجوز له ذلك؟
أوّلاً، لأن شيكسبير استعمل كلمةالنخلة في التعبير التالي:
A love between them like the Palm
might flourish
(الفصل الخامس - المشهد الثاني)
أمّا القطّ فترجمها: الغار.
الجملة أعلاه اقتباس من المزمور: 92 -11 "الصديق كالنخلة يزهو وكالأرز بلبنان ينمو". كان شيكسبير في التعبير أعلاه يسخر من اللغة الدبلوماسية التي عادة ما تستعير بعض الألفاظ من التعابير التوراتية.
قلنا كذلك ترجم جبرا العصفور بالسنونو. ما المبرر؟
استعمل شيكسبيرالتعبير التالي:
Fall of a sparrow
فأين السنونو؟
العصفور اعلاه اقتباس من : متّى ) 10- 29) "أليس عصفوران يباعان بفلس. وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم"
يذكّرناJohn F. Andrews بمسرحية يوليوس قيصر - الفصل الثاني -المشهد الثاني -26-27:" كيف يمكن تفاديه ، إذا كانت الآلهة قد كتبت النهاية"( تفاصيل أخرى في طبعة آردن.)
***
قلنا كذلك إنّ جبرا ترجم دجاجة الحرش : العصفور، وشتّان. ترجمها القطّ : ديك الغابة. النص باللغة اللإنكليزية كما يلي:
Why, as a woodcock to mine own springe,Osric

جاءت ترجمة جبرا :"كعصفور وقعتُ في شركي، يا أوسْركْ".
بينما جاءت ترجمة القط :"كديك الغابة وقعت في شركي يا أوزريك." وكتب القط في الحاشية 123:"ديك يضعه الصيّاد ليجلب الطيور إلى الشراك وقد يقع هو أحياناً فيها."
يذكر Harold Jenkins عن هذا التعبير بأنّه جمَعَ بين مثليْن. وعليْه فإنّ المرء إذا وقع في أحبولته هو, يصبح مثل الطير الأبله الذي يصاد بسهولة."
المعروف أنّ هذا الطير أي دجاجة الحرش، وهي مضرب الامثال بالغباء، توضع لجذب الطيور إلى المصيدة ولكنّها تذهب هي نفسها لالتقاط الحب فتقع فيها.
أكثر من ذلك لقد ضرب بولونيوس مثلاً بغباء هذه الدجاجة من قبل، حينما نصح ابنته اوفيليا بالكف عن الالتقاء بهاملت واصفاً مواعيده المعسولة بأنّها :" أحابيل لصيد دجاجة الحرش". (الفصل الأوّل- المشهد الثالث). الغريب انّ القط ترجم الجملة نفسها هناك : "طيور الغابة الحمقى".

كذلك نوّهنا أعلاه، بأنّ جبرا ترجم كلمة : فأرة بـ : عصفورة. ربّما أراد باجتهاده هذا تلطيف العبارة، فهل يجوز له ذلك؟
قصّة الفأرة، أنّ هاملت كان يعنّف أمّه، بسبب زواجها من عمّه الذي قتل أخاه والد هاملت. قال لها:
lsquo;Let the blowt King tempt you again to his bed,
Pinch wanton on your Cheek,call you his
Mouse
And let him for a pair of reechy kisses,hellip;rdquo;

"دعي الملك المنتفخ يغريك إلى الفراش كرّة أخرى
دعيه يقرص خدّك بفسق ويدعوك : يا فأرتي
ودعيه لقاء قبلتيْن كريهتي الأبخرة..."

جاءت ترجمة جبرا على الوجه التالي:
"دعي الملك المنتفخ يغريك ثانية بالفراش(كذا)
ويقرص خدّيْك ماجناً ويدعوك عصفورته
ودعيه لقاء قبلتيْن سخماويْن..."

قبل كلّ شئ، كيف اصبحت : "قبلتيْن : Reechy kisses سخماوين؟ المسرحية كلّها معنية بحاسّة الشمّ. ما فعله جبرا هنا، ربّما تعسفاً، أنّه نقل الصورة الشعرية من حاسّة الشمّ إلى حاسّة البصر، ولا يفعل ذلك إلاّ مَنْ لم يفطنْ إلى أهمية الحواسّ في صناعة الشعر ولا سيّما لدى شيكسبير.( ترجمها محمود السمرة :"ذو قبلات دنسة" أيْ أصبحت القبلتان قُبُلاً وجعلها دنسة، ولكن كيف تكون دنسة وهي زوجته!)
ولكن لنعُدْ إلى الفأرة والعصفور. قد يكون من المفيد أن نقتبس من أطروحة أمل زكي أمين ترجمات أخرى:
1-عوض محمد : "لا تدعي زوجك المتورّم يستدرجك مرّة أخرى إلى فراشه أو يلاطفك بقرص خدّيْك أو يناديك بفأرته العزيزة"
2-سامي الجريديني: "دعي الملك المنتفخ (كلمة غير واضحة في الأصل) إلى فراشه يضغط خدّيْك ملاعباً ويدعوك فأرته"
3-خليل مطران: "تسللي إلى ذلك المخمور الشره"
4-القطّ :"دعي الملك الأجوف يغريك مرّة ثانية إلى الفراش ويقرص خدّك في مجون، ويدعوك فأرته...دعيه- لقاء قبلتيْن قذرتيْن..."

نستخلص من الاقتباسات أعلاه، أنّ خليل مطران حذف الفأرة وجبرا غيّرها. وجعل القط القبلتيْن قذرتيْن.
لكنْ ما أهمية الفأرة؟ ذكرنا سابقاً أنّ من تقنيات شيكسبير تكرار بعض المفردات ذات الدلالة من شخص إلى شخص، ومن حالة إلى حالة، مما يجعل النصّ وحدة متواشجة ومتكاملة. النصّ يتصادى. فالفأرة لم يقلْها هاملت هنا اعتباطاً. إنّها بمثابة صدى.
ظهرت الفأرة أوّل ما ظهرت، في الفصل الأوّل -المشهد الأوّل- حينما سأل الحارس برناردو زميله فرانسسكو:

برناردو : هل مرّت خفارتك باطمئنان؟
فرانسسكو : ولا فأرة تحرّكت.
وُظّفت الفأرة هنا، فنيّاً، بحذق كما لا يخفى. أوّلاً دللتْ على أنّ الحارس كان فعلاً يصيخ السمع، خوفاً، لكلّ نأمة مهما صَغُرت، فقد كان يتوقّع هجوماً نرويجيّاً في أيّة لحظة. ودللت، ثانياً، على هلعه من احتمال ظهور الشبح. بكلمات أخرى ارتبطت الفأرة بالتوجس من ناحية، وبالهاجس من ناحية أخرى.

يظهر الجرذ، أو الفأرة الكبيرة ثانية، وإن كنّا لا نراها، حينما كان هاملت يعنّف أمّه، وبولونيوس يتنصّت خفية وراء الستارة. يرى هاملت حركة وراء الستارة فيصيح :"جُرَذ.. جُرَذ" ويطعنه، وبهذا الأسلوب يقتل بولونيوس. هكذا ترتبط الفارة هذه المرّة بالجريمة.
هل هذه العناصر الثلاثة: التوجّس والهاجس، والجريمة، تمهّد لحدث آخر جلل؟ هل ستموت الملكة، الفأرة المحبوبة، على يد الملك؟
في الفصل الخامس- المشهد الثاني، كان الملك قد أعدّ الكاس المسمومة لهاملت. إلاّ أنّه لم يشربْها. وبعد جولة من المبارزة بينه و بين لرتيس، يدور الحوار التالي:

الملكة: إنّه يعرق ويلهث
يا هاملت خُذْ منديلي، وامسحْ جبينك.
الملكة تشرب نخب سعدك حتى الثمالة ، يا هاملت.
هاملت: يا سيّدتي الطيّبة.
الملك : ياغيرترود لا تشربي.
الملكة : سأشرب يا سيّدي اللورد، أرجوك أعذرني.
(تشرب وتقدّم الكأس إلى هاملت)
الملك(جانبيّاً) إنّه الكأس المسمومة فات الأوان."

هكذا تموت الملكة على يد الملك وكأنّ حسّاً باطنيا كان قد أوحى لهاملت بتشبيهها بالفأرة.
***
العجب، عين العجب، أنْ لا تتساوق المعاني المترجمة مع المنطق أو مع الواقع، بحيثُ تصبح غريبة وكأنْ لا علاقة لها بمفهومات ناجمة عن أعراف، أو عادات. أدناه بعض الأمثلة:
كان هاملت يتحاور مع أوفيليا ساخراً من قصَر مدّة الحداد على الميّت. وذكر أنّ ذكراه قد تدوم نصف سنة إنْ هو كان قد شيّد الكنائس، ثمّ يقول كما في ترجمة جبرا:

"وإلاّ وجب عليه أنْ يتحمّل نسيان القوم له نسيانهم حصان الملاهي المستعار الذي نقش على قبره"مغنياً": "وا حسرتاه على حصان مستعار هجروه ونسوه..."

إذا قُرئتْ الترجمة أعلاه، بدون الرجوع إلى النصّ الإنكليزي، فأوّل ما يتبادر إلى الذهن، أنّ هاملت كان يعني حصاناً، وخصّصه جبرا بحصان الملاهي، وخصّصه أكثر بالحصان المستعار.
من أين جاء المترجم بالحصان؟ ومن أين جاء بالملاهي؟ وكيف حُشرتْ : المستعار؟. أكثر من ذلك ليس في النصّ : واحسرتاه ولا هجروه. لم يكن هاملت يتحسّر على أحد، كما أنّ هجروه تدلّ على تحسّر ثان، وكأنّ هاملت يقول: يا للأسف.
فيما يلي النصّ الإنكليزي وترجمته.

ldquo;hellip;or elseshall he suffer not thinking on,
with the hobby- horse,whose epitaph is,
for o, for o,the hobby- horse is forgotten "يجب أنْ يبني كنائس وخلاف ذلك فلا يُذكر كراقص الحصان الخشبي الذي يلاحق النساء وكُتبَ على شاهدة قبره:
"لأنّ آه، لأنّ آه،
لقد نُسيَ راقص الحصان الخشبي"

(أضفنا إلى النصّ، الجملةالتوضيحية التالية:"يلاحق النساء" لأنّ هذه الرقصة غير معروفة في البلاد العربية، لذا يصعب تصوّرها.)

كان هذا الراقص في العصر الإلزابيثي يلاحق النساء ، ويقوم بأفعال خليعة. ربّما لهذا السبب منعه "الطهريّون.puritans
يذكر هارولد Jenkins : أنّ راقص الحصان الخشبي كان أحد الأفراد التقليديين في رقصة مورس Morris في احتفالات مايو...وراقص الحصان الخشبي hobby- horse يتكون من شكل على غرار شكل حصان يُشدّ على خصر الإنسان الذي تدخل ساقاه في جسم ذلك الحصان الخشبي حتى يتمكن من السير...إلخ."
***
وهذا مثال آخر.
بعد أنْ أُوقفت المسرحية التي كانت التي كانت تٌمَثّل أمام الملك والملكة، خرج الجميع وبقي هاملت وهوراشيو. قال هاملت، كما في ترجمة جبرا:

" فدع الجريح من الظبا في دمعه
ودع اللعوب من الظبا متفردا
هل أوقف الأكوان في دورانها
ذاك الذي عنها التهى أوسهّدا"

ابتعد المترجم هنا ابتعاداً كبيراً عن الأصل. فحذف: الأُيَّل السليم، وأدخل: " الأكوان في دورانها" جزافاً, وحذف كذلك :"فئة تسهر وفئة تنام"، كما حذف : "سُنّة الحياة". ادناه النصّ الإنكليزي:
Why let the struken deer go weep,
The hart ungalled play;
For some must watch while
some must sleep,
Thus runs the world away

" دع الظبية الجريحة تذهب بعيداً وتبكي
ولْيلعب الأيل السليم
لا بدّ من فئة تسهر، بينما أخرى تنام
كذا سُنّة الحياة"
يذكر بعض الشراح أنّ شيكبير ربّما أخذ هذه الصورة من أغنية شعبية، وأنّ الظبية الجريحةهي هاملت وأنّ الأيل هو الملك. بالإضافة،
كان يُعتقد أنّ الظبية تسفح الدمع حينما تٌجرح جرحاً مميتاً.
***
قد يكون من المفيد، إعطاء مثال آخر لتبيان كيف تحيد الترجمة عن جادّة الصواب، متى ما فاتت على المترجم تقنيات التأليف المسرحي من حيثُ الرموز، ومن حيثُ توقيت الأحداث.
في المقطع التالي نتعرّف على الثياب ودورها في تحديد معالم الشخصية. هنا يقارن هاملت بين الملك السابق والملك الحالي:


A slave that is not twentieth part the tithe
Of your precedet lord, avice of a kings
A cutpurse of the empire and the rule,
That from a shelf the precious diadem
Stole
And put it in his pocket -
Queen. No more.
Hamlet. A king of shreds and patches-

( Enter ghost)

Save me and hover o ver me with your wings,
You heavenly guards

هاملت: " عبد لا يبلغ عشر معشار زوجك السابق
ملك يتصرّف كمهرّج في مسرحية
نشّال سرق إمبراطورية الدانمارك والحكم
وسرق من الرفّ التاج الثمين ودسّه في جيبه
الملكة: كفى
هاملت: ملك بثياب مهرّج
(يدخل شبح)
أنقذوني ورفرفواعليّ بأجنحتكم يا رُسُلَ السماء"

جاءت ترجمة جبرا على الوجه التالي:
"عبد ليس بعشر معشار
سيدك السابق. اضحوكة لا ملك
لصّ من لصوص السؤدد والحكم
اختلس من الرفّ تاجاً غالياً
ودسّه في جيبه
الملكة: كفى، كفى
(يدخل الطيف)
هاملت: ملك من مزق ورقع
خلاصاً يا حرس السماء! رفّوا بأجنحتكم عليّ!"

ما الذي فات المترجم في المقطع أعلاه؟
استعمل شيكسبير هنا مصطلحات مسرحية في غاية الدقّة، مستعيراً ثياب الممثلين، لأنّها بتبدّلها تتغيّر الشخصيّات، أو في الأقلّ تتغير أدوارهم.(تفاصيل أخرى عن أهمية الملابس في هذه المسرحية في صفحات لاحقة)
من هذه المصطلحات: vice الذي ترجمه جبرا: أضحوكة. ولكن لم يمرّ في المسرحية ما يوحي بأنّ الملك كان أضحوكة لأحد. إنّها بلا شكّ ترجمة مضللة في فهم شخصية الملك. ثمّ هل فعلاً معنى vice : أضحوكة، معجميّاً أوْ مجازاً؟
:Vice تشير هنا إلى أحدىالشخصيات التي تظهر عادة في المسرحيات الأخلاقية Morality plays ، في العصور الوسطى، وفيها يقلّد الممثل، أو المهرّج buffoon، ببذاءة، شخصية ملك حقيقي. (عن جون أف. Andrews).
حذف المترجم كذلك: إمبراطورية الدانمارك، ووضع بدلها السؤدد، وشتان. بالإضافة إلى ذلك, فإنّ السؤدد توحي أنّ الملك كان رجلاً طموحاً من نوع ما. وهذه قراءة ليست صائبة كذلك في دراسة شخصية الملك.
جعل المترجم التاج الثمين أو الغالي نكرة، فقال : تاجاً غالياً. لماذا؟ كان هاملت يتحدّث عن تاج بعينه، كما في النصّ الإنكليزي.
قالت الملكة لهاملت كفى مرّة واحدة. لماذا كررّها المترجم: كفى كفى؟ ولكن أهم من ذلك توقيت دخول الشبح أو الطيف. يدخل الطيف عند جبرا بعد أن تقول الملكة : كفى. وهو توقيت لافائدة منه.
التوقيت الحقيقي لا بدّ أن يكون بعد أن يقول هاملت : ملك بثياب مهرّج، (كما في النسخ الإنكليزية) لسببين: أوّلاً؛ لمقارنة الملك المهرج بإطلالة شبح الملك الحقيقي. ثانياً؛ لمقارنة ملابس الملك المهرّج وهي عادة ما تكون مبهرجة، أو "زرق ورق" كما يُقال في اللهجة العراقية، باجنحة الملائكة وهي عادة ما تكون بيضاء بلا شائبة.
إلاّ أنّ جبرا ترجم shreds and patches ترجمة حرفية فقال: " ملك من مزق ورقع"؛ وكذلك فعل القطّ ومحمود السمرة.(روائع التراجيديا في أدب الغرب- جمع وتقديم كلينث بروكس- مقالة : عالم هاملت لمينارد ماك- ص 88)
يقول جون اف Andrews " من المحتمل أنّ هاملت كان يفكّرمرة أخرى بشخصية المهرج وثيابه الكثيرة الألوان..."
ترجم جبرا: heavenly guards : حرس السماء. لم يكن هاملت خائفا كي يستنجد أو يستغيث، وإنما كان يعبّر عن اختناق مما يرى من زيف. لذا فمن المناسب ترجمتها : ملائكة أو رُسُل، وهو ما يتناسق مع ما قاله هاملت في الفصل الاول - المشهد الرابع حينما دخل الشبح: "يا ملائكة السماء ورٌسُلَها".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف