استخراج معاني العناوين ودلالاتها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
العنوان في شعر عبد القادر الجنابي:
"حياة ما بعد الياء" نموذجا - (2/3)
لقراءة الحلقة الأولى انقر: العنوان في شعر عبد القادرالجنابي
معاني عناوين الجنابي ودلالاتها
ننوي في هذه الحلقة قراءة عناوين للشاعر عبد القادر الجنابي من ديوانه "حياة ما بعد الياء"، المقسم إلى ثمانية فصول. والعناوين المختارة هي عنوان الديوان "حياة ما بعد الياء"، وعنوان الفصل الأول من الديوان "تأصيل بلا ينابيع"، وعناوين ست قصائد تدخل في إطار هذا الفصل وهي: "مهاجرو الداخل"، "حُلُم"، "صناعة الشِّعْر"، "الله في كلمة"، "هذا الصباح، ليلٌ يتوهّج" و"ليت الحصان كان وحيدا". أما هدفنا من وراء هذه القراءة فهو استخراج معاني هذه العناوين ودلالاتها. وإن هذا سوف يتاح لنا من خلال اعتماد الطريقتين الآتيتين:
أ) طريقة آن فيري (Anne Ferry):
تقدم آن فيري في كتابها (The Title to the Poem) طريقة لقراءة عناوين القصائد. وهذه الطريقة تتطلب منا قراءة العنوان ثلاث قراءات (1):
1)قراءة العنوان كوحدة نحوية مستقلة
2)قراءة العنوان من خلال ربطه بنص القصيدة
3)قراءة العنوان بناء على علاقاته بعناوين أخرى للشاعر ذاته أو لغيره من الشعراء
ولا بد من الإشارة إلى أنه ستتم معالجة عنوان الديوان وعنوان الفصل المختار فحسب بموجب هذه الطريقة، أما عناوين القصائد فستتم معالجتها وفقا للطريقة الثانية. كما وعلينا أن ننبه إلى أننا لن نتمكن من اتباع طريقة فيري بحذافيرها في قراءة عنواني الديوان والفصل، لأنه يتعذر علينا ذلك. فما سنفعله هو القيام بالقراءة الأولى والثالثة دون القراءة الثانية، وذلك لأنه لا توجد في الديوان قصيدة تحمل العنوان "حياة ما بعد الياء". وهذا يعد أمرا نادرا بعض الشيء، لأننا نجد عادة أن إحدى قصائد الديوان تحمل عنوانا مماثلا لعنوان هذا الديوان. وكذلك لا نجد في الفصل المختار قصيدة تحمل عنوان هذا الفصل. وبالإضافة إلى ذلك، سنقوم بإجراء إضافة طفيفة على القراءة الثالثة لملاءمتها للحالة التي نعالجها. وهذه الإضافة تتجلى في عدم اكتفائنا بقراءة عنوان الديوان قراءة ثالثة من خلال بحث علاقته بعنوان الفصل وبعناوين القصائد المختارة فحسب، وإنما أيضا من خلال بحث علاقته بالنصوص التي تتبع لتلك العناوين. ولن نبالغ إن قلنا بأن هذا ما نبتغيه في الأساس من هذه القراءة. والسبب في ذلك يعود إلى أن معالجة العنوان تعني معالجة النص الذي يخضع له أيضا. وسندعو هذه القراءة في دراستنا بالقراءة الثانية، سيما وأن قراءة فيري الثانية غير متحققة في حالتنا.
بالاستعانة بطريقة فيري سنقوم في القراءة الأولى بتحليل عنوان الديوان وعنوان الفصل دلاليا كنصين مستقلين، وذلك بالاعتماد على معارفنا الخلفية في الأساس. وفي القراءة الثانية سوف نبحث في العلاقة التي تربط عنوان الفصل المختار بالقصائد المعالجة الداخلة في إطاره، وفي العلاقة التي تربط عنوان الديوان بهذا الفصل. وكل هذا سيجري من خلال جمع معطيات من نصوص القصائد وعناوينها تتناسب مع عنوان الفصل وعنوان الديوان من ناحية دلالية. ويجب أن ننبه أيضا إلى أننا سنقوم بالقراءة الثانية لعنوان الفصل بعد قراءة عناوين القصائد المختارة، كما سنقوم بقراءة عنوان الديوان قراءة ثانية بعد قراءة عناوين القصائد الست وعنوان الفصل. والسبب في ذلك يعود إلى أن قراءة عنوان الفصل قراءة ثانية تتطلب منا معرفة دلالات عناوين القصائد التابعة له ودلالات نصوصها في الوقت ذاته، كما أن قراءة عنوان الديوان قراءة ثانية تتطلب منا معرفة دلالات عناوين هذا الفصل.
ب) قراءة نص القصيدة قبل قراءة عنوانها
لغرض معالجة عناوين القصائد نقترح قراءة نص القصيدة قبل قراءة عنوانها. وسنحاول في هذه القراءة استخلاص الفكرة المركزية من نص القصيدة، واعتبارها بمثابة عنوان طويل لها، وذلك لأننا نفترض أن يكون عنوان القصيدة الحقيقي عبارة عن تلخيص مركّز لهذه الفكرة، أو متصلا بها بوجه ما إن لم يكن تلخيصا لها. وإن هذه القراءة مخالفة بطبيعة الحال لما نقوم به عادة، وهو قراءة عنوان القصيدة في البداية، وتخميننا من خلال هذه القراءة موضوع النص. وبعد قراءة النص واستخلاص فكرته الأساسية، نقوم بقراءة عنوان القصيدة الحقيقي، أي بتحليله دلاليا بناء على علاقته بالنص. وما يهم في هذه القراءة هو كونها تمكننا من امتحان العنوان وفحص أهميته من خلال طرح عدة أسئلة في ذهننا بعد قراءته، مثلا: ماذا أضاف العنوان للنص؟ أأمكننا فهم النص فهما كافيا دون قراءة العنوان؟ هل غير العنوان المعنى الذي بلورناه من خلال قراءتنا للنص؟ هل وضّح لنا أمورا كانت غامضة؟ أم خلق فجوات جديدة؟
وبالإضافة إلى ما قيل، فإن هذه الطريقة تمكننا من معرفة أصناف عناوين القصائد، وظائفها، مدى ارتباطها بالنصوص واستقلالها عنها من قراءة واحدة للعنوان. إلا أنه علينا أن ننبه إلى أن هذه الطريقة أتت لغرض البحث ليس إلا، لا لكي تقترح على القارئ أن يقرأ نص القصيدة قبل قراءة عنوانها، لما في هذا الأمر من مخالفة لمنطق عملية القراءة التي تبدأ من العنوان. ومع ذلك، فإن هذه الطريقة تفترض قارئا واحدا على الأقل، ألا وهو كاتب النص، الذي يصنع العنوان بعد كتابة النص بموجب الفرضية التي تحدثنا عنها، والتي تنطبق على طريقة كتابة الجنابي للعنوان.
قراءة أولى لعنوان الديوان
إن كون كلمة "حياة" نكرة يعني بالنسبة لنا أنها حياة مجهولة، وما يزيد من صبغة المجهول فيها هو وقوع "ما" النكرة بعدها. كما أن كلمة "حياة" هي كلمة واسعة وعامة على الصعيد الدلالي، فقد تدل على كلمات مثل معيشة، وجود، دنيا، كينونة، موت، تقلب، مجهول وغير ذلك، ولن نبالغ إن اعتبرناها أوسع كلمة في وجودنا نظرا لإيحاءاتها اللانهائية. وما يضاعف من إيحاءات اللانهاية في هذه الكلمة عبارة "بعد الياء" بعدها. فالظرف "بعد" يصح أن يكون ظرف زمان أو/ و مكان، و"الياء" هي آخر حروف العربية من ناحية ترتيبية، مما يعني أنها تشير إلى النهاية والحدود، وعليه تأتي عبارة "بعد الياء" ككل لتقول بأن الـ"حياة" المذكورة تخترق الزمان أو/ و المكان المحدودين. وبرغم ما قلناه فإننا نجهل ماهية مركّبات هذه الـ"حياة"، نظرا لعمومية العنوان، وبالأخص كلمة "حياة".
أمر إضافي يلفت نظرنا في العنوان هو الربط ما بين شيئين من صنفين مختلفين، وهما الـ"حياة" بكل ما فيها مع حرف "الياء" ذي الدلالات الأضيق والمأخوذ من عالم اللغة. ونعتقد بأن هذا الربط هو غاية في الأهمية، لما فيه من إشارة منذ البداية إلى غرض لغوي، يتعلق باللغة الشعرية، يريد الشاعر طرقه في الديوان. فالـ"حياة" التي قد تحوي الشعر ترتبط بلغة تتجاوز حدود اللغة العادية ـ "الياء" ـ وتقفز ما وراءها. وإلى هنا نكون قد عثرنا بواسطة العنوان على أحد مركبات الـ"حياة" ألا وهو اللغة المتجاوزة للحدود. ونخمن وجود مركبات أخرى لهذه الـ"حياة" نجهلها لغاية الآن، لكن ما نعلمه هو أن هذه المركبات تشترك فيما بينها في اختراق الحدود.
أما بالنسبة لكاتب العنوان نفسه، أي الجنابي، فإن العنوان يدلنا على أنه شخص متحدٍّ، لا يقيّده قيد، وإلا لما جرأ على تجاوز "الياء". وفي هذا الصدد يجدر بنا أن نأتي بالحوار الذي اقتبسه الجنابي عن كتاب الدكتور عبد الستار إبراهيم آفاق جديدة في دراسة الإبداع، ووضعه قبل النص الأول من الديوان، الذي يحمل العنوان "مفاتيح، أو تمهيدات قبل التحليق":
"الصديق الأول : والآن.. إنني قد عرفت كل شيء.. كل شيء من البدايةحتى النهاية.. أليست ((الياء)) هي نهاية الحروف الهجائية.
الصديق الثاني : تستطيع أن تقف عند ((الياء)) إذا شئت هذا.. الكثيرونيفعلون هذا وينتهي مطافهم ((بالياء)).. ولكن ما أبلغ الدهشة التي ستعتريك إذاحاولت المضي ما بعد ((الياء)) مطلعًا على عوالم أخرى لا متناهية"
إن هذا الاقتباس، الذي يلفت انتباهنا إلى التناص الموجود في عنوان الديوان، يجعلنا نتساءل: ألا يمثل الجنابي في ديوانه هذا الصديق الثاني، المتحمس لما بعد النهاية ولاختراق المجهول؟ فالعنوان لا يصرح لنا بموقف الجنابي من "حياة ما بعد الياء" بشكل مباشر، ولا نعتقد بأنه يجدر به أن يقدم لنا مثل هذا التصريح، لكن من خلال معرفتنا لمواقف الجنابي المتحدية للموروث العربي والإسلامي وللأنظمة العربية السائدة وللشعراء السائرين في ركابها، والتي تتجلى بشكل متكرر في كتبه ومقالاته المتعددة، نستطيع أن نكون على يقين بأنه يدعم الـ"حياة" الموصوفة في عنوان الديوان وينادي بها.
قراءة في عناوين من الفصل: "تأصيل بلا ينابيع"
قراءة أولى لعنوان الفصل
قد نجد لكلمة "تأصيل" عدة إيحاءات، كالتثبيت والتجذير، كما أننا كثيرا ما نراها مرتبطة بكلمات مجردة، كالفكرة، المبدأ، العقيدة، العادة وغيرها. فنقول مثلا: "أصّل أحدهم الفكرة في رأس فلان". ومن هذا المنطلق قد تتبع عدة طرق ووسائل لتحقيق التأصيل، كالإقناع، الوعظ، التكرار، أو حتى غسل الدماغ. وبما أن العنوان نص بخيل بالمعطيات فإنه لا يذكر لنا لأي شيء سيكون الـ"تأصيل" وكيف، وما يركز عليه هو وصف هذا الـ"تأصيل" بأنه "بلا ينابيع". وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن الصفة، كما تقول فيري، تلعب دورا هاما عند ارتباطها بالاسم، لأنها تمنحه هيئة معيّنة من خلال الإعلان عن وجهة نظر تجاهه. وتقسم فيري هذه الصفات إلى قسمين: قسم يعبر عن مشاعر ما تجاه الموصوف، وقسم آخر يعبر عن موقف تجاه الموصوف، ولا يهدف إلى إثارة أي مشاعر في القارئ (2). والصفة التي لدينا تنتمي بلا شك إلى القسم الثاني، لأن الجنابي يعبر بواسطتها عن اعتراض خفي على ارتباط الـ"تأصيل" بالـ"ينابيع"، دون إثارة أي مشاعر في القارئ. أما كلمة "ينابيع" فتعبر عن شيء ملموس. ويقال: "نبع الماء نبوعا يعني تفجر، أو خرج من العين، ولذلك سميت العين ينبوعا" (3).وهذا يدل على أن كلمة ينبوع تشير إلى تدفق الماء أو أي شيء آخر بغزارة. واستخدام صيغة الجمع "ينابيع" يزيد من قوة الانفجار وكثرة خروج الماء. وبالاستناد إلى هذا، فقد تشير هذه الكلمة أيضا إلى التهويل والتعظيم، خاصة وأن جرسها يوحي بذلك. وإن ارتباط عبارة "بلا ينابيع" بكلمة "تأصيل" يدلنا على أن الـ"تأصيل" يتم عادة بواسطة الـ"ينابيع" مع كل ما توحي به هذه الكلمة، أما في الحالة التي أوحى بها العنوان فإن الـ"تأصيل" سيكون بغير "ينابيع". ولهذا يبدو لنا أن العنوان يعبر عن موقف سلبي تجاه كلمة "ينابيع"، مما يدفعنا إلى القول بأنها تحمل إيحاءات سلبية، بعكس ما هو متعارف عليه، وهو أن كلمة ينبوع أو ينابيع تشير إلى مصدر للخيرات الكثيرة، لا إلى مصدر سلبي. وما جعلنا نلمس السلبية في استخدام هذه الكلمة هو اقترانها بـ"بلا"، وبهذا جعل كلمة "تأصيل"، التي تشير إلى الثبات والرسوخ، مناقضة لها.
وبناء على ما ذكرناه، فإن العنوان قد يعني أنه إذا كان المراد بكلمة "تأصيل"، على سبيل المثال، تجذير فكرة ما فإن التجذير لن يتم بواسطة الـ"ينابيع"، أي ليس بطريق التهويل والتعظيم، أو باستعمال أية وسيلة سلبية أخرى، وإنما بطرق ووسائل مغايرة، لا نعرفها في هذه المرحلة. أما إذا كان المراد بهذه الكلمة التعبير عن مصدر لشيء ما فإن الـ"تأصيل" ينبذ هذا المصدر.
قراءة في عناوين قصائد من الفصل
أ) "مهاجرو الداخل" (4)
مهاجرو الداخل
ما نريده
ليسَ مصعدًا في مبنى الأسماء
ساحة لجنديّ مجهول
مقصًا ينتظرُ قصيدة
خرجت على القافية
بلا ثياب.
قد يذهب الرجل إلى لا رجعة
قد يأتيها في ثنايا الليل
قد ينتفض
فتكون عيناه
صحو البديل.
نريد
ظهيرة في منتصف الليل
قمرًا في حضن الشمس
غرفا لا يثكلُ فيها
ضوءُ النهار
وكتلة هذا النديد
لتزويق القشعريرة
وندبة الخوف
ما نريده،
أصلا في الأرض.
شكٌ وميثاق
شهادات نحملها معنا
إلى العالم الآخر
صوبَ الأحياء :
ليس الرأس
ولا اليد،
ولا الذراع
ولا حتى ذاك التراث
وإنما خُصلة تاريخ
في مهب الأوراق
يسرّحها مشط الاختلاف.
قراءة النص
يقسم نص القصيدة إلى سبعة مقاطع، يسهم كل منها بفكرة جديدة. فالمقطع الأول عبارة عن عرض لأمور لا تريدها مجموعة المتكلمين، وهذه الأمور هي: علو أسمائهم واشتهارها ("مصعدا في مبنى الأسماء")، أو "ساحة" تُكرس "لجندي مجهول"، والتي قد تعبر عن عظمة، أو عن موضع افتخار بالنسبة للناس عادة. وابتداء من السطر الرابع من هذا المقطع، ومن خلال كلمة "قصيدة"، نكتشف أن "للنحن" علاقة بالشعر، وليس من المستبعد أن يكونوا شعراء. وقد تعني الأسطر 4-6 أن "النحن" لا يريدون شهرة للقصيدة، من خلال انتظار مقص، أو بالأحرى قارئ يحمل مقصا ليقص هذه القصيدة ويحتفظ بها. أما وصف القصيدة بأنها "خرجت على القافية/ بلا ثياب" فقد يقصد به أن هذه الـ"قصيدة" تبدو حديثة، لأنها خالية من القافية، لكنها في الواقع قصيدة فارغة المعنى، لا "ثياب" لها، مما يعني أنها خالية من الأدوات التي تجعل منها قصيدة. أما في المقطع الثاني فينتقل الجنابي ليتحدث عن قضية أخرى، وهي عملية خلق الشاعر، "الهو"، للقصيدة. وهذه العملية تحدث "في ثنايا الليل"، بحيث يكون الشاعر في هذا الوقت في حالة ما بين النوم واليقظة (5). ومن ثم يستيقظ ليرى الأمور بشكل واع، بعد ذهاب الوحي الشعري عنه. وهو في هذا كـ"البديل"، أي الرجل المقدس العالم بأمور الكون، والذي يمر بتجربة روحية يصحو من بعدها. وينتقل المتكلمون في المقطع الثالث إلى الحديث عن الأمور التي يريدونها فعلا، وهي أمور مستحيلة ومقلوبة، تعارض التعتيم، وتوحي بالتمرد على عالم قائم وقلبه. ويصرّح "النحن" في المقطع الرابع مرة أخرى بما يريدونه، وهو "أصلا في الأرض"، وسيحصلون على هذا الأصل من خلال الأمور المذكورة في المقطعين الخامس والسابع. فالكلمات "شك وميثاق" و"شهادات" قد ترمز إلى القصائد في حال كون "النحن" شعراء، وهذه القصائد مخصصة إلى "العالم الآخر"، الذي يرمز إلى عالم القراء ـ "الأحياء". وتتوضح ماهية هذه الأمور في المقطع السادس من خلال النفي، فـ"النحن" لا يريدون بذل أمور محسوسة، مثل "اليد"، "الذراع" و"التراث"، مما يعني أنهم يدعون إلى التجديد الشعري والتخلص من قيود الماضي، بما في ذلك التراث العربي. وبدلا من كل هذا يبتغون الجديد والمختلف، كما يتضح لنا من المقطع السابع.
bull;الفكرة المركزية: "النحن" الشعراء يرفضون مفاهيم سائدة في عالم الشعر، وينادون بإحداث التغيير وقلب هذه المفاهيم لصالح مفاهيمهم، التي تدعو إلى ترك القديم والتشبث بالحديث المختلف.
قراءة العنوان
على الرغم من أننا تمكنا من معرفة ما يرمي إليه النص بنسبة معيّنة، فإن العنوان يضيف لنا معلومات أخرى من خلال تحديده لنا هوية "النحن". فإن "مهاجرو الداخل" هم مجموعة المتكلمين في النص. ولقد سبق وأن استخدم الجنابي عبارة العنوان هذه في مدخل كتابه انفرادات الشعر العراقي الجديد، بحيث وضح فيه أن "مهاجرو الداخل" هم الشعراء وأصدقاؤه الموجودون داخل العراق (6). لكن الجنابي يقول في رسالته إلى الشاعر أدونيس (ولد 1930) بأن "الداخل" هو عبارة عن داخل البلدان العربية عامة، والتي تعتبر بنظره منفى حقيقيا (7). فإذًا، إن "الداخل" ليس مقصورا على العراق فحسب، لأنه يقصد به أيضا البلدان العربية عامة، التي يشعر الشاعر المجدد فيها بوحشة وغربة، وكأنه مهاجر، وذلك على الصعيد الفكري، سيما وأنه لا يجد من يشاطره أفكاره وآراءه، بل من يلاحقه بسببها. ومن هنا نفهم سبب الجمع ما بين كلمتين متناقضتين في العنوان. وهذا التناقض بين كلمتي العنوان يتناسب مع النص نفسه، وخاصة مع المقطعين الثالث والسابع منه، اللذين يؤكدان على قلب المعايير والاختلاف، وعلى وجهة النظر المتحدية التي يحملها "النحن".
ب) "حُلُم" (8)
حُلُم
"... بهذه الطريقة يدخل البطلُ الغابـة. لم ينتبه إلى أن المخرج أنأى مـن هذه الكواكب المندثرة في طمي السماء. توقف عند أوّل شجرةٍ انتصبت أمامه بكل ذكرياتها المليئة بأبطال أشدّ بأسًـا منه. أخذ ينظر إليها، رأى عصفورًا جد صغير يحاول أن يحط على أحد أغصانها الذي يَغزو إلى السّحاب. والساعات تسري زفرات في الأعالي مختلطة بطشيش الهواء
الـذي تحدثـه عصـابة الطـير وهي تبـرق خـلل الشجر. علـى أنّ سنوات عمره تعبر فيلمًا في وحشة الغاب. وكأن أشجارًا ترْدفه بأشجار أخرى؛ بأزمنـة لا متنـاهية، تصيّره إشارة برّاقـة في قـلب الشيء، يتكثف حتــى تصير أشياؤه زمنا شعريا لا نهائيا. أوراق تتساقط من رحلته. طفق يَنفـذ بعينيـه إلى أدق التفاصيل. وبِخطفةِ البرق راح حَمار العين اليمنى يصبغُ الغابة كلها، بينما يتطاير شررٌ من العين اليسرى، فيحرق صـورة غابـةٍ معلقة بشكلٍ مضبوط جدا في غرفة طفلٍ صغير."
قراءة النص
يبدو لنا النص بمجمله وكأنه لقطة سينمائية، خاصة وأن الشاعر يستعير كلمات من عالم السينما، مثل "المخرج"، "البطل"، "فيلما". فنتخيل أن أحدهم يحمل كاميرا ويرصد تحركات "البطل"، ويخبرنا بها. وهذا الرصد بصورة عامة، وجملة "يتكثف حتى تصير أشياؤه زمنا شعريا لا نهائيا" بصورة خاصة، يجعلاننا نخمن أن يكون "البطل" هو الشاعر. وإذا ربطنا الكلمات: "البطل"/"الأبطال"، "شجرة"/"أشجار"، "عصفور"، "الطير" بعالم الشعر توصّلنا إلى أن الـ"شجرة" ترمز إلى القصيدة التي تقف أمام الشاعر وتتحداه، و"العصفور" قد يرمز إلى الكلمة أو العبارة التي أغوت الشاعر بكتابة القصيدة، و"الغابة" قد ترمز إلى عالم الشعر، أما كلمة "أبطال" فقد ترمز إلى شعراء آخرين سبقوا "البطل" ـ الشاعر في ممارسة العملية الشعرية، وأكثر تمرسا منه في هذه العملية. و"البطل" ـ الشاعر يراجع القصيدة وينقحها، فيكتب عدة مسودات لها، ولذا يقول الجنابي: "أوراق تتساقط من رحلته"، كإشارة إلى الأوراق التي يملؤها الشاعر في مرحلة الكتابة. والشاعر في تنقيحه للقصيدة يحاول صياغة المعنى بدقة متناهية، وهذا ما رمى إليه الجنابي حين قال: "طفق ينفذ بعينيه إلى أدق التفاصيل". أما نهاية القصيدة ("وبخطفة البرق راح حَمارُ العين ...") فتعتبر بنظرنا نهاية مشكلة وأشد غرابة من النص نفسه، وقد تعبر هذه النهاية عن كتابة الشاعر السريعة واللامعقولة للقصيدة، وكأن مسا قد أصابه.
bull;الفكرة المركزية: الجهد الذي يبذله الشاعر في عالم الشعر حتى ينتج القصيدة، ويثبت نفسه أمام "أبطال" ـ شعراء "أشد بأسا منه".
قراءة العنوان
إن العنوان يفاجئنا لبساطته وسذاجته وحياديته الظاهرة، لكن إعادة النظر فيه، من خلال ربطه بتفاصيل النص، تبرز لنا شدة كثافته. فإن هذا العنوان يطالب القارئ بإعادة النظر في مركبات القصيدة، والبحث عن عناصر الـ"حلم" فيها. لكن بعد هذا البحث لا يجد القارئ مركبا بعينه يرتبط بالعنوان مباشرة، وإنما يجد أن النص ككل يرتبط بهذا العنوان. فقبل قراءتنا للعنوان قلنا إن النص يبدو كمشهد سينمائي، لكن بعد قراءته اكتشفنا أن النص عبارة عن مشهد حلمي، يتخطى حدود الواقع والوعي. وهنا يتحتم علينا أن ننبه إلى أن الـ"حلم" المقصود في العنوان هو ليس الحلم الذي يألفه الإنسان العادي، وإنما ذلك الحلم الشعري، الذي يعتبر أساس كل قصيدة، ويبرز بشدة في هذه القصيدة بدءا من عنوانها. ولقد تحدث الشاعر فاضل العزاوي (ولد 1940) عن "صناعة الحلم" الشعري في البيان الشعري الذي كتبه ونشره في مجلة الشعر عام 1969 (9). وكان مما قاله فيه بأنه في الشعر "يتداخل الحلم بالواقع لتشكيل عالم واحد هو عالم الواقع ـ الحلم، أو الحلم ـ الواقع. والشاعر كائن يخلق عوالمه من أشياء الواقع، وهي مصدر بهجته وانبهاراته وأحزانه، فالأشجار والأرض والصحراء والنهر والبحر والليل والنهار في نظر هذا الكائن الذي يمتهن كتابة الشعر بساطه السحري إلى عالم الحلم الخاص به. في القصيدة تفقد هذه الأشياء جوهرها الواقعي وتتحول إلى مجرد رموز وإشارات مضيئة في أفق مدفون داخل ليل الرحلة"(10). وهذا ما وجدناه في قصيدة الجنابي، إذ أن "البطل"، "الأشجار" و"الطير" هي رموز استمدها الجنابي من الواقع لصياغة مادته الحلمية. أما كلمة "رحلته"، والتي استخدمها العزاوي أيضا، فإنها تشير إلى رحلة الشاعر الحلمية أثناء عملية الإبداع الشعري. وبالإضافة إلى ذلك، فإن العزاوي يشير إلى نقطة هامة تتبدى في هذه القصيدة بشكل واضح، ألا وهي الهلوسة التي يتضمنها الحلم أحيانا (11). ولقد لاحظنا هذه الهلوسة في النص، أو بالأحرى هذا التظاهر بالهلوسة، بدءا من عبارة "وبخطفة البرق" وحتى نهاية القصيدة، والتي يبدو فيها الشاعر وكأنه يهذي.
وبالاعتماد على ما سقناه، يمكننا أن نقول إن الجنابي بواسطة عنوانه هذا زاد من كثافة القصيدة، وأطلعنا على موضوعها الأساسي، وهو دخول الحلم في عملية الإبداع الشعري.
(ج) "صناعة الشِّعْر" (12)
صناعة الشِّعْر
مِـنْ ضلع الأفعال تنبجسُ الأسماء، ومـن عين الأسماء تنبجسُ الأفعال درجة في سلّم الخلق : "فليكن..." وها هي ولادة جديدة للكون. كـان المبنى خاليا عندما انفتح ثقبٌ صغير يؤدّي إلى دائرة السلّم. إنها ساعـة الغروب، علـى أنه في اللحظة التي ارتقيت فيها السلم، بين الـنائم والـيقظـان، كـان الرجل الذي يعيش في الطبقة العليا مع الجـنّ والملاك ، قـد وصل إلــى الدرجة الثالثة نزولا، بينما رجلي اليمنى بلغت الدرجة الرابعة صعودا. لــكن كـلما تمر ثانية ، أشعر بأن الدّرَجات تأخذ بالازدياد. وكلّما يُسرى بـي، أسمع صوتا يفيد بـأن ربَّ البيت سيرسلُ دابّـة يُقـالُ لهــا الـبُراق، دون البغل وفوق الحمار، يصعد بي إلى سدرة المبنى. كــان مجموع درجات السلم ستّ عشرة درجـة. أنّـى ينزل أصعـد، أنّى أصعد ينـزل : مبـاراة في القــدرة علـى بلـوغالغاية! وما إن بلغت ، حتـى تراءت الدرجات وكـأنها زحافــات يجهـش إليهـا الإيقاع! طفق الرجل يتوقد فيتأجّج وكاد يُشطّر بعضُه عن بَعض من أجل نزلةٍأخرى ؛ فاصلـة مشدودة إلـى وتِد بعيد يمكّنه من الثبـات. غيـر أن علة جعلته يتهـاوى كتلة نـورٍ ترتطم بأسفل السلم فتتشظّى إلـى شعل صغيرة سرعان مـا
يكتنفها رجالُ الإرصاد الطاعون من حوائط المبنى.
قراءة النص
إن السطرين الأول والثاني من النص يتحدثان عن عملية تكوين لغوية، تسفر عنها ولادة مخلوق لغوي. وبما أن الكلام يدور بأدوات لغوية ("الأسماء"، "الأفعال") داخل سياق شعري، نخمن أن يكون الموضوع هنا عملية الخلق الشعري التي تتولد عنها القصيدة. فـ"سلم الخلق" يرمز إلى سلم الخلق الشعري. ويتحدث المتكلم، وهو شاعر، في السطرين الرابع والخامس عن ارتقائه "السلم"، أي دخوله في عملية الخلق الشعري، وهو "بين النائم واليقظان". والحالة التي يتأرجح فيها الشاعر ما بين النوم واليقظة تعد إحدى الطرق التي تعينه على الوصول إلى الحلم الشعري (13)، الذي تحدثنا عنه في قصيدة "حُلُم". ويورد المتكلم أثناء ارتقائه، الذي يتم بشكل شاق ("لكن كلّما تمر ثانية، أشعر بأن الدَرَجات تأخذ بالازدياد")، ذكر رجل آخر آخذ بالنزول من سلم الشعر، خلافا له. ونخمن أن يكون ذلك "الرجل"، الذي "يعيش في الطبقة العليا مع الجنّ والملاك"، هو الشاعر التقليدي، الذي يتعلق مصير قصيدته بوحدات الوزن، كالـ"وتد" والـ"فاصلة"، وأي تغيير طفيف في التفعيلة، كالـ"علّة"، قد يوقعه، بمعنى يوقع قصيدته، نتيجة اهتمامه بأمور متعلقة بمبنى القصيدة التقليدي وليس بجوهر الشعر. وهذا الشاعر المقيد بالأوزان يتلقى في النهاية نقادا تقليديين، مثله، يهتمون بشعره، وهذا ما عناه الجنابي حينما قال: "رجال الإرصاد الطالعون من حوائط المبنى". وما دام "الرجل" يمثل الشاعر التقليدي، فإن "مجموع درجات السلم" الذي يبلغ "ستّ عشرة درجة" قد يرمز إلى بحور الخليل الستة عشر. وأمر آخر لا بد من الإشارة إليه هنا هو التناص في الأسطر 7-9 ("وكلما يُسرى بي، أسمع صوتا يفيد بأن ربَّ البيت سيرسلُ دابّة يُقالُ لها البُراق، دون البغل وفوق الحمار، يصعد بي إلى سِدرة المبنى") مع قصة الإسراء القرآنية. ولقد وظف الجنابي هذا التناص ليقول بأن الشاعر في عملية خلقه للقصيدة، يرتقي إلى سماء القصيدة، كالنبي محمد، الذي وصل بواسطة البراق إلى سدرة المنتهى في السماء.
bull;الفكرة المركزية: "مباراة"، تتعلق بعملية الخلق الشعري، بين نوعين من الشعراء: شاعر محدث يكتب قصيدة بطريقة حديثة، ويبلغ في النهاية غايته، وهي كتابة القصيدة؛ وشاعر تقليدي في نزول دائم، وأي تغيير طفيف في الأوزان التقليدية يتهدد قصيدته، وهو في النهاية يقع من سلم الشعر.
ولا بد من الملاحظة قبل قراءة العنوان بأن كون النص يعالج عمليتين مختلفتين تتناولان الخلق الشعري يدل على أنه نص ميتا ـ شعري.
قراءة العنوان
نشير في البداية إلى أن الجنابي نشر هذا النص مع تغيير طفيف فيه في جريدة إيلاف الإليكترونية، وهذا التغيير تجلى في العنوان، الذي أصبح "صنعة الشعر"، وفي استخدام كلمة "تتسامى" ("الأفعال") بدلا من "تنبجس" (14). ويتناسب هذا التغيير مع ما قاله الجنابي في مقدمة الديوان: "القصيدة غرفة. بيوت الشعر فيها موجودة وجود الأثاث. من حين لآخر، لا بد من نفض الغبار، إعادة تركيب، رمي ما رثَّ منه ثم الإتيان بغرض جديد" (15). وبعد هذا نقول بأن عنوان القصيدة لا يفاجئنا على الإطلاق، وذلك لأن النص، ومنذ السطر الأول منه، كان كفيلا بأن يكشف لنا أن القصيدة تدور حول عملية الإبداع الشعري. كما أنه عنوان واضح وبسيط، بخلاف النص، الذي نجد فيه رموزا عديدة وتناصا، مما يثري معناه. لكن مع هذا، فإن هذا العنوان يؤكد على قضية هامة، وهي أن الشعر يعتبر "صناعة"، أي عملا واعيا ومنظما. وتغيير الجنابي العنوان إلى "صنعة الشعر" وما قاله في مقدمة الديوان يؤكدان هذا الأمر.
د) "الله في كلمة" (16)
الله في كلمة
العجوزُ التي تعيش في الغرفة المقابلة لشقّتنا، والتي كـثيرا مــا كـانت تتأمـل، في مرآةٍ مشروخة، أحنـاء جمالهـا المترهل، العجوزُ هذه... لا أظنّهــا إلا قــد ماتت. منذ ثلاثة أيام وغرفتهـا في ظلام يثير أسئلة جـدّ متضاربـة في أذهــاننُزلاء البناية التـي أسكن. لكـن...، لِـم هذا الشعور المتشائم بأنّ كلّ غيابٍ هـو موتٌ نهائي؟ العجوز هذه، إمّا انزوت عن أنظارنـا لغرضٍ إبداعي (ألـم تقـل لنا أنها تنادم الكتابة أياما لكي تتخلص من الصور التي جعلتها ضريرة) وإمـّا ذهبت إلى بلد آخر للاستراحـة، للتأمل : ربّ هواءٍ صحيح يتسرب من نافذة - ذاكرة بعيدة... إنّها عجوز قبل كلّ شيء. غيرَ أنَّ ليلة أخرى قد مرّت والظلام هو إزاءُهُ؟ "فليكن"، صرّح أحدُ النزلاء: "ما دام ليس هنالك من مَعلَم يؤكد لنا موت عجوز. البابُ مبهمٌ فحسب".
إنّهُ على حق : "مبهمٌ فحسب".
إذن،
شيءٌ ما يسري .
قراءة النص
إن النص بأكمله يتناول موضوعا أساسيا، وهو اختفاء "العجوز"، وما أثار ذلك من نقاش جرى بين "نزلاء البناية". فيبدأ الجنابي بسرد معلومات، يكشف لنا من خلالها عددا من الأمور عن "العجوز". فجملة "والتي كثيرا ما كانت تتأمل، في مرآةٍ مشروخة، أحناءَ جمالها المترهل" تدلنا على أنها عجوز غير اعتيادية، وذلك لأن المرء يتأمل نفسه عادة في مرآة سليمة لا مشروخة. وهذا يدفع بنا إلى القول إن "العجوز" تنظر في الأمور بطريقة غير معهودة. لكن لا يشترط أن يكون التأمل هنا بصريا، فقد يكون بصيريا باطنيا. في السطر الثاني ترد كلمة "العجوز" مرة أخرى، مما يؤكد على أهميتها في النص، سيما وأن القصيدة التي أمامنا هي قصيدة نثر، من سماتها التكثيف الشديد وعدم تكرار الكلمات فيها عبثا. أما جملة "لا أظُنُّها إلا قد ماتت" تزيد من جو الكآبة الذي شعرنا به من قراءتنا للسطرين الأول والثاني. والجملة التالية ("منذ ثلاثة أيام...") تكشف لنا السبب الذي أدى بالمتكلم إلى الظن بأن "العجوز" "قد ماتت"، وتشكل المحور الذي تدور حوله أحداث النص فيما بعد. إن اختفاء "العجوز" لم يثر المتكلم فحسب، وإنما أيضا "نزلاء البناية" التي يسكن فيها. والسؤال: "لِم هذا الشعور المتشائم بأن كلَّ غيابٍ هو موتٌ نهائي؟"، الذي ينقطع السرد ابتداء منه، يبدو وكأنه رد على من قال إن "العجوز" "قد ماتت". وهذا القائل قد يكون شخصا آخر غير المتكلم، أو المتكلم نفسه إذا كان يقيم مونولوجا مع نفسه. وتكشف لنا الجملة اللاحقة أن "العجوز" مبدعة، مما يؤكد على كونها عجوزا غير اعتيادية. وإن الجملة التي تبدأ بـ "ألم" تضفي إبهاما آخر على "العجوز"؛ إذ ما دامت "العجوز" "ضريرة"، فكيف يمكنها التأمل في المرآة؟ ثم أي صور هي هذه التي "جعلتها ضريرة"؟ وقد نعيد القول بأن تأمل العجوز هو بصيري، وبهذا نكون قد أجبنا عن السؤال الأول، أما السؤال الثاني فنعجز عن الإجابة عنه، وبهذا لا يمكننا إغلاق الفجوة التي يخلقها. ويستمر المتكلم في تبرير سبب غياب "العجوز"، وكأنه شخص ذو علاقة قريبة بها. أما جملة "إنَّها عجوزٌ قبل كلّ شيء" فيحتمل أن يكون قائلها شخصا يتغاضى عن إبداع "العجوز" ويستهتر بها، وهو بذلك بخلاف المتكلم الذي ينظر إليها نظرة مغايرة، تنم عن تعاطف معها. وقول أحد النزلاء الذي يأتي به الجنابي قبل نهاية النص يكشف لنا بشكل أكيد عن استهتاره بالـ"عجوز" وتعاليه عليها، وذلك من خلال استخدامه لكلمة الحضرة الإلهية "فليكن"، وكلمة "عجوز" بدلا من "العجوز"، وفوق ذلك إقران الفعل "صرّح" به، والذي يستخدم عادة في الصحافة ويرتبط بأناس يلعبون دورا مركزيا من الناحية السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية وغير ذلك. وبالإضافة إلى ذلك، إن هذا النزيل لا يهتم باختراق الإبهام الذي يتعلق باختفاء "العجوز". أما جملة "إنه على حق: مبهمٌ فحسب" فيبدو وأن لها وظيفة معيّنة، وإلا لما كررها الجنابي. ونعتقد بأن هذه الجملة هي عبارة عن تعليق صادر من المتكلم، يهدف بواسطته إلى السخرية من النزيل المصرّح، كما قد تعني أن إبهام "الباب" يثير تأمله وتفكيره، وهذا ما تؤكد عليه نهاية النص "إذن،/ شيءٌ ما يسري ."، التي تفصح عن تفكير المتكلم ورغبته في معرفة ما يجري خلف باب بيت "العجوز". كما أن هذه الجملة تدل على أن هناك أمرا عظيما هائلا مبهما يحدث في الداخل، خاصة بسبب استخدام "ما" الإبهامية، والنص نفسه لا يكشف عنه. وتجب الإشارة إلى أن الغموض لا يكتنف اختفاء العجوز فحسب، وإنما النص ككل أيضا، الذي لا يشفي غليل القارئ ولا يخرجه بشيء أكيد حتى لو وصل في قراءته إلى نهايته.
bull;الفكرة المركزية: لا توجد فكرة مركزية محددة وواضحة للنص، لكن مع ذلك، فإننا لاحظنا أن "العجوز" هي محور النص. وقد يريد الجنابي من خلال هذا النص الكشف لنا عن أفكار وآراء وقناعات "نزلاء البناية" فيما يخص "العجوز"، المخلوق الغامض الخارق. وهؤلاء "النزلاء"، وبضمنهم "الأنا"، قد يمثلون فئتين من الناس: فئة تأنف من الغريب الغامض، وفئة، يمثلها "الأنا"، تتعاطف معه وتسعى إلى كشف غموضه. وبما أن الغموض الذي يكتنف "العجوز" يكتنف النص أيضا فقد ترمز هذه "العجوز" إلى النص الشعري الغامض، الذي يمثله هذا النص بالتحديد، خاصة وأن الجنابي يذكر فيه أن لهذه "العجوز" علاقة بـ"الكتابة". أما "نزلاء البناية" فقد يرمزون إلى قراء الشعر المختلفين، فمنهم من ينبذ هذا النص وأمثاله، لأنه لا يريد تفعيل ذهنه وفك أسراره، ومنهم، كالمتكلم في النص، من يصر على التعامل مع هذا النص الغريب وكشف مكامنه. كما قد ترمز "العجوز" إلى عالم الشعر، و"النزلاء" إلى الشعراء المختلفين، فمنهم من لا يدأب على اختراق خفايا عالم الشعر، ومنهم من يدأب ويصر على اختراق مجاهيل هذا العالم، كالمتكلم، الذي يمثل في هذه الحالة الشاعر الحقيقي. لكن هذه التأويلات هي مجرد افتراضات قد يدعمها العنوان أو ينفيها، وقد لا يتعلق بها حتى. لكن ما نفترضه هو وجوب تعلق العنوان بـ"العجوز" بصورة ما.
قراءة العنوان
إن العنوان لا يكشف لنا شيئا عن مضمون النص، بل على العكس من ذلك، فإنه يتطلب منا إعادة قراءة شاملة للنص للبحث عن دلالاته فيه. وهذا يعود إلى غموض النص والعنوان في آن واحد وتكثيفهما. وإن التكثيف يبدو في العنوان من خلال حصر "الله" اللانهائي في "كلمة" ومن غموض مفهوم هذا الحصر. وإن الغموض لا يتجلى في العنوان والنص فحسب، وإنما أيضا في العلاقة بينهما، التي تبدو عبثية، مما يضطرنا إلى محاولة اختراع صلة بينهما.
لقد لمسنا أثناء قراءة النص أن "العجوز" هي الكلمة المركزية فيه، وقد تشير كلمة "كلمة" إليها وتمثلها، أولا: لأن "العجوز" تشترك مع الـ"كلمة" في ناحية كونها أمرا يبدو هامشيا، خاصة وأن بعض "نزلاء البناية" قزّم "العجوز" ولم يُعن بأمرها. لكنَّ هذه "العجوز"، الشيء المهمل، والذي يبدو ضئيلا، هي مخلوق مبهم ومبدع. ومقابل ذلك، نجد في العنوان أن الـ"كلمة" تحوي "الله" بكل ما يوحي به من أمور لا نهائية، خفية ومبهمة، الأمر الذي يؤكد على أهمية هذه الـ"كلمة" وعظمتها، كـ"العجوز"، التي لمسنا تقدير المتكلم لها. وثانيا: إن اعتبار "العجوز" رمزا لقصيدة النثر الغامضة، أو لهذه القصيدة بالتحديد، يتفق مع ما تشير إليه الـ"كلمة"، وهو النص الكامل. فالـ"كلمة" إذًا، هي كناية عن عدة كلمات تؤلف قصيدة. وبناء على ذلك فإن المعادلة التي تتشكل لدينا هي: "العجوز" = "كلمة"= النص. أما "الله" الذي يشير إلى الغموض والإبهام والعظمة فإنه يتواجد في "العجوز" ـ الـ"كلمة" ـ النص. وبهذه الطريقة يشترك العنوان مع النص في سمة الميتا ـ شعرية، فالنص، كما ذكرنا، قد يشير إلى الغموض والإبهام في قصيدة النثر، والعنوان كذلك يشير إلى هذا الأمر. كما قد يتناول العنوان والنص معا القوة التي يمكن أن تحملها الكلمة في النص الشعري.
هـ) "هذا الصباح، ليلٌ يتوهّج" (17)
هذا الصباح، ليلٌ يتوهّج
قُم اطلع أيها الشاعر :
كم من سماءٍ
تتجعدُ جبهتُها في الهاوية،
تُرْدِف أشعارَكَ المتظاهرة بالحياء،
وأنت تريد أن ترتعي في خبز الشهرة.
أين لحنُك.
ذرِ الذينَ...
تِه بالمجهول مسحورا
إلقِ بخبزك في المياه الراهفة :
فليس من مثوى.
القصيدة رسمٌ في بؤبؤ التنحّي :
بين الفوهة والهدف،
السرّة وبثور العيش...
كم من عالم يتراءى في شُقة القول
كِسرة فردوسٍ تَسْفكُ كلَّ ما فيه
وبشرخ لحظة
يَنْدُرُ في متحف وهميّ،
ممدّدًا بلا هرير،
لا يُكشّرُ حتى عن هَمهمةِ ضوءٍ
يستوقدُها منبوذون في أطواء المدينة.
قم أيّها الشاعر :
إنّك لست إلا...
بهذا
أو مت.
قراءة النص
يتألف نص القصيدة من ستة مقاطع. في المقطع الأول يحث الجنابي "الشاعر" على القيام والطلوع. ويبدو من هذا أن "الشاعر" غارق في أمور أخرى. وتأتي الأسطر اللاحقة لتعْلِمنا بأن هذا "الشاعر" يجعل المصائب ("سماء تتجعد جبهتها في الهاوية") مصدرا لأشعاره، مما يعني أن شعره مقترن بالحادثة. وفوق ذلك، إن هذا "الشاعر" يسخّر الشعر لخدمة مآربه الشخصية، كالشهرة. أما السؤال الذي يؤلّف المقطع الثاني من النص فقد يعني أن الجنابي يسأل ذلك "الشاعر" عن شعره الحقيقي الأصيل، النابع من دوافع شعرية فحسب، وكأنه يقول له: أين أصالتك. وإن عدم وجود علامة استفهام في نهاية السؤال قد يدلنا على أن الجنابي لا يريد الاستفسار عن لحن "الشاعر"، وإنما التعبير عن عدم وجود لحن له ونقده لذلك. ويأمر الجنابي "الشاعر" في المقطع الثالث بأن يترك "الذين"، وهو اسم موصول، لا توجد له جملة صلة في النص، وبهذا فإنه يدل على جماعة غير محددة. لكن مع هذا، بإمكاننا أن نقول بأن لـ"الذين" تأثيرا سلبيا على "الشاعر"، وإلا لما أمِر بتركهم. ومن ثم يأمر الجنابي "الشاعر" بأن يتفرغ للمجهول، وينطلق غير مقيد بأي قيد. وجملة "إلقِ بخبزك في المياه الراهفة" قد تعني طلب البحث عن الدقة في الشعر. أما في المقطع الرابع فإن الجنابي يعرّف "الشاعر" بماهية القصيدة الحقيقية. وقد تعني عبارة "رسم في بؤبؤ التنحي" أنه على القصيدة أن تكون دقيقة، ونقية جدا، بحيث تتنزه عن الأطماع المادية (18)، وهذا لأن "التنحي" يعني الكلام النقي الفصيح الخالي من الأخطاء. وفي المقطع الخامس يلمح الجنابي إلى الشعر المزيف الذي يغذي الأوهام، فيتحدث عن القصيدة ("شُقة القول") التي تصور العالم وكأنه "كسرة فردوس". وجملة "تسْفكُ كلَّ ما فيه" لها إيحاء سلبي، لأن الفعل "تسفك" يقترن عادة بالدماء. وعليه، فإن "كسرة" الـ"فردوس" تصب كل ما في العالم بشكل سلبي، أي أن القصيدة هذه تشوه العالم، الذي سرعان ما يبدو ككلب ممدد لا يقوى على الـ"هرير" حتى، أو على إشعال القليل من الضوء. وهذا يعني أن هذا الشعر هو شعر معتم، لا يقدم أية خدمة إيجابية، وبهذا فهو يناقض رسالة الشعر الحقيقية. ونشعر بأن الجنابي أراد في هذا المقطع تحذير "الشاعر" وجعله يعتبر. أما في المقطع السادس فإن الجنابي يكرر حث "الشاعر" على النهوض مما هو فيه. وجملة "إنك لست إلا .../ بهذا" قد تعني أن "الشاعر" لن يبقى أو يكون إلا إذا اتبع ما أمِر به في النص وحمله محمل الجد، أما إن لم يفعل ذلك فيأمره الجنابي بأن يموت، والموت هنا يعني الموت شعريا، أي أن يتوقف "الشاعر" عن الكتابة وبث أشعاره.
bull;الفكرة المركزية: حث "الشاعر" الوصولي على الكف عن العبث بالشعر، والحذر عند تناوله هذا الموضوع.
قراءة العنوان
قبل الشروع في تأويل هذا العنوان يهمنا أن نشير إلى أن الجنابي نشر النص الذي نحن بصدده في كتابه شيء من هذا القبيل (1992) تحت العنوان: "هذا الصباح، الليل". ويشير الجنابي في هذا الكتاب إلى أن هذه القصيدة كتبت في الأساس ضد الشعراء المشاركين في مهرجانات المربد، وإلى أنه فكر بنشرها تحت العنوان: "ضد سعدي يوسف حتى!"، إثر سماعه حصول الشاعر سعدي يوسف (ولد 1934) على جائزة الإمارات لعام 1992 (19). لكنَّ هذا العنوان الأخير هو أوضح بكثير من العنوانين الآنفين، وخاصة من العنوان الذي نحن بصدده. فلو جعل الجنابي عنوان قصيدته "ضد سعدي يوسف حتى!" لأصبحت علاقته بالنص واضحة، وذلك لأن هذا العنوان سيعبر في هذه الحالة عن انتقاد الجنابي للشعراء الذين يخدمون النظام بشعرهم لغاية التكسب، ومنهم الشاعر سعدي يوسف (20). ويبدو أن كون العنوان "ضد سعدي يوسف حتى!" يميل إلى الوضوح والمباشرة أدى بالجنابي إلى التنازل عن فكرته، ووضع عنوان آخر للنص، قد يفوق العنوان الأول "هذا الصباح، الليل" كثافة، بسبب التركيب الأكسيموروني (21) "ليلٌ يتوهّج".
إن العنوان الذي نحن بصدده يصدمنا؛ إذ يبدو وأنه لا يتعلق بتاتا بـ"الشاعر" أو بالعمل الشعري، مما يؤدي بنا إلى اختراع رابط بينه وبين النص، يعيننا على تأويله. فإن الشق الأول من العنوان ("هذا الصباح") لا يرتبط بأية كلمة في النص تقريبا، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار إيحاءات كلمة "الصباح" المختلفة، ومنها: النهوض، العمل، التجدد، طلوع الشمس وغيرها. فهذه الإيحاءات ترتبط بالسطر الأول من النص، وذلك لأن القيام والطلوع يحدثان في الصباح عادة. لكنَّ "الصباح" لا يعني "الشاعر"، الذي يبقى عالقا في أمور أخرى، تخالف النهوض، القيام والعمل. وبدلا من أن يكون الشق الثاني من العنوان متناسبا مع إيحاءات الصباح (مثلا: "هذا الصباح، شمس تتوهج") نجده مخالفا لها، لأنه يوحي بسلبية شديدة، لا سيما وأنه يعني ليلا شديد الظلمة. ولقد ذكرنا خلال قراءتنا للنص أن ذلك "الشاعر" يهدف إلى التكسب بواسطة الشعر، وينتج شعرا مظلما، يقتل العالم، ولهذا السبب فإنه يتناسب مع "ليل يتوهّج"، لأنه يشيع الظلمة الشديدة، كالليل، وذلك من خلال أشعاره التي تنشر الجهل وتسيء للأصالة الشعرية. كما قد تعني عبارة "ليل يتوهّج"، بالإضافة إلى العتمة الشديدة، أن هذه العتمة بارزة وواضحة للعيان، أي أن قصائد ذلك الشاعر سلبية بشكل واضح ومكشوف.
و) "ليت الحصانَ كان وحيداً" (22)
ليت الحصانَ كان وحيدًا
إلى محمود درويش
القضيّة ينزُُّ من شفتيها الدم
متمددة على رمل النسيان
يدلك ظهرَها شعاعٌ من الحنين
يوقظُها أدنى الذكريات
القضيّة شلال من الأوراق
آتٍ بلا مجيء
في لمح البصر
يتلاشى
بين أرجل الشعارات
وحجر الصّوان
القضيّة حصان
أنْ يخرجَ
ذات يوم كالطفل
من حمّام الجميع.
"يمضغ الريحَ"
"ويؤنس البيتَ"
فتُسْجَر آبار
فيها مَصْحاة
من سُكْر التي واللتيّا
القضيّة، ذا هي ...
كيلومترات
نجمٌ بَليلٌ
في موجهة البرد،
في لجّ سلام
تلحسُ الحربُ ضفافَه.
قراءة النص
إن النص مقسم إلى أربعة أقسام، يحمل كل منها فكرة معيّنة. فنجد أن موضوع القسم الأول هو "القضية" المُهْمَلة المنسية، والتي لا يعتني بها أحد. بيد أننا لا نعرف في هذه المرحلة عن أية قضية يتحدث الشاعر بالضبط. ويتناول القسم الثاني السبب المؤدي إلى السوء المهيمن على حال "القضية"، وهو السطحية في معالجتها. وإن كلمة "حجر" في هذا القسم توحي لنا بأن القضية المتحدث عنها هي القضية الفلسطينية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه كثيرا ما