الثقافة قيم تترسخ وتهتز
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سلوى اللوباني من القاهرة: الثقافة ترقية العقل والذوق، يتفرغ لها الانسان خارج مشاغله اليومية حين يقرأ كتاباً أو يستمع الى محاضرة أو يشاهد شريطاً سينمائيا أو معرضاً تشكيلياً، هذه ثقافة تختص بها نخبة من منتجيها(فئة المثقفين) ويهتم بها جمهورهم، ولكنها ليست الثقافة التي يجب مناقشتها بل الثقافة التي تعتبر رؤية ومبدأ للسياسات، الثقافة بهذا المفهوم ناقشه الكاتب علي أومليل في كتابه الجديد بعنوان "سؤال الثقافة.. الثقافة العربية في عالم متحول" صادر عن المركز الثقافي العربي لعام 2005، عرض في الكتاب التحديات التي تواجهها الثقافة العربية أمام التحول العميق الذي أحدثته ثورة الاتصالات، وناقش أطروحات الليبراليين الجدد، والدعوة الرائجة حول الثقافات.
القيم الثقافية:
الثقافة اليوم أصبحت قضية استراتيجية واستثمار باعتباره أنها تخلق القيمة الاساسية التي تتأسس عليها التنمية وهي الانسان، فالناس متساوون في الكرامة والحقوق الانسانية ولكن تختلف المجتمعات في نوعية الرأسمال الانساني، وليس كل ثقافة هي استثمار منتج للتنمية فهناك ثقافات غير منتجة لها، أما الثقافة بمفهومها القديم مستويان، مستوى انثروبولوجي حيث تكون الثقافة تراثا من عادات وتقاليد وقيم تطبع الوجدان وينبني عليها السلوك عن وعي او لا وعي، ومستوى ثاني تكون فيه الثقافة شان نخبة تداول فيما بينها ثقافة عالمية وهم في المجتمع التقليدي قلة حيث الامية غالبة، ولكن لم تكن فيه الامية مشكلة لان التعليم لم يكن ضروريا في المهن والادارة وفي الحياة العامة، ولكن ارتبط مفهوم الثقافة بالتعليم بالدولة الوطنية الحديثة ومن هذا المنطلق ناقش الكتاب اطروحات اليبراليون الجدد، فتطرق الى اطروحات عديدة لمفكرين حيث كانت قضية التعليم أولوية من أولويات الفكر الاصلاحي، وفي الحركات الوطنية التي تلته اعتبر الجهل سبباً رئيسياً من أسباب القابلة للاستعمار وأصبح من مسلمات الفكر الاصلاحي ان العلم هو الذي أطلق النهضة الاوروبية وان للعلم الدور الاساسي في التقدم الاوروبي، فناقش الكتاب اطروحة "الانواريين" في أوروبا التي تدعو الى ان هدف التربية والتعليم هو نشر الحداثة والديمقراطية، وتكوين المواطن المستنير والمشبع بالافكار الحديثة وبروح المواطنة اي خلق الانسان الجديد، وهو ما تضمن فكر الاصلاحيين العرب والمسلمين وكان فكرهم يدور في اطار ثنائية التقدم-التخلف، أو التمدن- التأخر، ولكن فلسفة الانواريين قائمة على حرية الفرد اي تربيته على حرية الرأي والتفكير الشخصي وتخليص العقول من سيطرة التراث لان التربية يجب ان تتجه الى بناء المستقبل او ابتكاره وليس الى استنتاج الماضي، بينما عند الاصلاحيين العرب ان المجتمع واقع تحت الضغط الخارجي ويريد اثبات ذاته الثقافية او الحضارية تجاه الاخر المسيطر عليه، فكان اعداد المواطنين مؤهلين للاستقلال أكثر منه تربية على الحرية التي هي اساس التقدم، تطرق الكتاب الى مفكرين مثل ماكس فيبر، كوندروسيه، والجدير بالذكر ان من المفكرين العرب الاكثر دفاعا عن فكر الانواريين هو "طه حسين" الذي اعتبر ان التعليم حق للجميع كالماء واالهواء، الى جانب رفاعة الطهطاوي الذي حاول تقريب مفهوم الحرية الى الذهن العربي.
ناقش اطروحة ماكس فيبر "ان القيم الثقافية هي التي تحدد نوع ومستوى النشاط الاقتصادي"، من خلال دراسة شاملة بين الحضارة الغربية والحضارات الاخرى، المعترفة بخصوصية الغرب وامتيازه، وان الغرب هو مبدع العلم وواضع علم السياسة، بالاضافة الى اطروحة ايميل دولافالي البلجيكي، وفرنسيس فوكوياما، وقارنها مع اطروحة "هنتنجون"، الاشد خوفا على مستقبل الهوية الثقافية الامريكية والتي يرى انها تماسكت دائما بسبب وجود عدو خارجي، هذه الدعاوي تهتز اليوم فهناك تخوف من ان الغرب لن يكون هو القوة الوحيدة في عالم الغد، نظرا للتطورات الحاصلة في مستوى العالم، وان الحضارة الغربية لم تعد مرادفة للحضارة العالمية وان هناك يقظة للحضارات والهويات الثقافية بجيث ان العالم لن يكون عالمي الثقافة بل متعدد الثقافة.
هذا المفهوم الثقافي الذي ناقشه الكاتب بان الثقافة يجب ان تكون مبدأ لسياسات التربية والتعليم او السياسة الاقتصادية، أو أسس العمل السياسي او القيم الحافزة لاي عمل أو نشاط في اي من هذه المجالات، فوضح علاقة الثقافة بالتربية والتعليم، وعلاقة الاقتصاد بالثقافة، بالاضافة الى علاقة الثقافي بالسياسي، فالمثقف العربي عادة ما يشتكي من ان الانظمة السياسية تضيق عليه خناق حرية التعبير ويشكو من تهميشه وان اصحاب القرار لا يلتفون الى فكره وخبرته بل هم يحذرونهم لكون المثقفين غالبا معارضين، فطرح الكاتب عدة أسئلة منها "ما هي الثقافة السياسية التي في ذهن المشتغل بالسياسة؟ وما الذي يجعل أصحاب القرار مهتمين بما يكتبه المثقفون؟
نقد المثقف والسلطة:
ومن هنا تطرق الكاتب الى نقد المثقف فاعتبر ان المثقف هو حامل الحداثة وهو يسعى الى تاكيد سلطته الثقافية فيجب ان يعمل من اجل تكوين رأي عام متشبع بقيم الحداثة فهو الشرط الاساسي لتاكيد سلطته الثقافية، وهنا لن يضطر الى ان يستجدي اي حاكم لكي يهتم بما يكتب، لان سنده الرأي العام الفعال القادر على تغيير الحكام من خلال صناديق الاقتراع، فيضطر الحاكم ان يأخذ مآخذ الجد ما يكتبه المثقفون الديمقراطيون لانهم يحسبون الحساب للرأي العام وتأثيره، واعتبر ان شكوى مثقفينا من ضآلة تأثيرهم ليست صحيحة دائما بل لقد كان لهم تأثير سلبي فقد ساهموا في صنع حكاماً وأنظمة استبدادية أحلت بالعرب الكوارث، وفي كتاب آخر بعنوان "في نقد المثقف والسلطة والارهاب" لأيمن عبد الرسول الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع انتقد المثقف ولكنه حاول ان يوسع مفهوم المثقف ليشمل كل من يحاول التعرف على الواقع او امتلاك ادواته ويحاول حل اشكالاته والتعاون مع الاخرين بحثا عن مستقبل أفضل، فالمثقف سلطته المعرفة ولكن عندما يتخلى عن سلطته باحثا عن مأوى آخر يحتمي به في مواجهة سلطات أخرى، فالمثقف يحمل راية التنوير تحت لواء السلطة لمحاربة الارهاب في حين ان هذه السلطة(الدولة) هي التي منعته من اداء دوره كما كان يرجو، واعتبر ان رهان المثقف عليها هو رهان مرحلي الى حين القضاء على الخصم المرحلي (الارهاب الديني)، فستتفرغ السلطة التي استخدمته كمثقف تحت الطلب لوضعه في حجمه الحقيقي كما تراه السلطة وتحجيمه وتمهيدا لنفيه الا اذا استمر مواليا للنظام القائم بالفعل.
انشطار ثقافي:
أصبحت المسألة الثقافية مثار جدلا ونقاش واسع في العقدين الاخيران من القرن 20 بسبب حدثان كبيران وهما الثورة التكنولوجية في مجال الاتصال وسقوط الاتحاد السوفيتي وما أحدثوه من آثار ثقافية، فاصبحت الثقافة بضاعة معولمة الانتاج والاستهلاك وتسويقها عبر شبكات تتحكم فيها شركات عالمية تنتمي في الغالب الى بلدان الشمال، والعولمة لا تعني انها اصبحت عالمية الانتاج بل انها الاكثر انتشارا على مستوى العالم بسبب تحكم الشركات المعولمة في انتاجها وتسويقها، وانهيار الاتحاد السوفيتي الذي جعل الغرب الليبرالي يعلن انتصاره وانه لاسبيل اليوم امام الدول والامم سوى تبني اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية وان الغرب وحده انجح التلازم بينهما، فاصبحت المسألة الثقافية في العالم العربي مهمة وخطيرة فهناك رهانات كثيرة حول قضايا فكرية وسياسية ومجتمعية جوهرية ولا يوجد توافق حولها بل يصل الى حد الانشطار في المسألة الدينية والسياسية والمرأة.
هل هو صراع وصدام؟ أم تعايش وأخذ وعطاء، سؤال اثاره كتاب غربيون بان هناك صراع حتمي قادم بين الثقافات والحضارات، اعتبر الكتاب ان الحوار يجب ان لا يكون فقط بين أطراف ثقافية ودينية، الحوار بين الثقافة العربية والثقافة الغربية يقتضي الاعتراف المتبادل وهو غير متوفر بسبب وجود اصوليتين وهما اصولية اسلامية تختزل الثقافة العربية الاسلامية بتعددها الى دين، وتختزل الدين الى عقائد متشددة، وتعتبر ان الاسلام في غنى عن اي حوار مع جاهلية العصر، وهناك اصولية غربية تعتقد ان قيم الحداثة (الحرية، الفكر النقدي، الديمقراطية الليبرالية، حقوق الانسان) هي قيم غربية حصراً فلا طريق اذا للتحديث سوى التغريب.
موت المثقف العربي:
وعلق الكاتب "ايمن عبد الرسول" في كتابه ان حوار الثقافات يقتضي اولاً تمكين المثقف العربي باستقلاليته، واعتبر ان المثقف والسلطة والارهاب هم المسئولين عن حالة التردي في عالمنا العربي، وان هناك محاولات عديدة لقتل المثقف العربي من قبل المجتمع والارهاب والسلطة، الا ان المثقف العربي انتحر عندما القى نفسه في دوامات الغموض والبعد عن الواقع والبحث عن ايدولوجيا خاصة به لا يفهمها جمهوره، فأزمة المثقف تكمن في انه يعتبر نفسه الاكثر وعياً ولكنه لا يعرف عن نفسه الا ما يبديه منها ولذلك يخشى النظر في المرايا التي تقدم له ذاته، ويكمن الخطر بان ما يؤمن به المثقف ليس دائما ما يؤمن به الاخرين فعند اختياره مبادئه يكفر ما عاداها، وهنا يظهر الارهاب الفكري رافعا راية عدم التفاهم، فانقطعت لغة الحوار بين المثقف والسلطة من ناحية، سواء بتدجينه او ارهابه او ابعاده عن ساحة التأثير الاجتماعي، وقد رضي المثقف بهذا الدور المرسوم له وهو ان يفقد سلطة المعرفة.