أدب الداخل / الخارج: ثقافة عراقية أم ثقافةأجنبية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يتناول بعض الكتاب العراقيين في "الداخل" في مقالات سريعة تقرب من مادة التقارير الصحفية، يتناولون فيها مفاهيم ثقافية كبيرة وحساسة لا يتم رفدها بمعطيات فكرية وثقافية جادة. كما وأنها لا تتمتع بالعمق المعرفي المطلوب عند الحديث والخوض في هذا المضمار الشائك والمعقد من الناحية الوجدانية والقيم الثقافية الإنسانية على نحو أشمل. مواضيع من قبيل "أدباء الخارج وأدباء الداخل" أو "المثقفون العراقيون في الخارج" أو "مثقفو المنافي"، وبالتالي "أدب الخارج وأدب الداخل". أغلب تلك المواد السريعة تنطوي على شحنة من "العدائية المسبقة" أو في أقل تقدير ما يمكن أن نطلق عليه "الخصومة الجاهزة". وهي تشبه إلى حدٍ كبير تلك الخصومات التي تنشب دون مسوغات معقولة أثناء سهرة ليلية طارئة ليتم الاعتذار عنها لاحقا في القادم من الأوقات الواضحة حين تشرق شمس الواقع.
الأدب في الداخل.. الأدب في الخارج
الأدب هو الأدب إن كان في الداخل أو كان في الخارج. الإبداع الثقافي والفكري والأدبي هو خلاصة لمكونات الفرد الذاتية التي ينتجها على شكل معين من الأشكال في صيغة معينة. كتاب علمي، لوحة فنية، مقطوعة موسيقية، قصيدة شعر، قصة، رواية. هذا الفرد لا يأتي من الفراغ على الإطلاق. إنه خميرة تفاعلت فيها مجمل عوامل كثيرة ومعقدة أدت به إلى إنتاج هذا العمل بتلك الصيغة، تمثل قاعدته الصلبة منشأه الأول وأصوله الاجتماعية والدينية والثقافية الأساسية وجذوره الوطنية والقومية الحقيقية من الناحية التاريخية، كأن يكون عربيا أو أفريقيا أو أوروبيا.
الأديب المنفي عن وطنه، المغترب عن بلاده مكانا وزمانا، لا يعني ذلك انفصاله عن الموطن الأول، أو عن جذوره الواقعية في بلاده. في الحقيقة لا يتمكن الأديب والمثقف في الخارج من تكوين جذور جديدة في تربة المنفى تماثل جذوره الأصلية الأولى. الأمر يشبه زراعة نخلة في كندا أو في السويد. الفارق هو عنصر "مكاني" أما من ناحية الوجدان فليس هنالك كبير فرق بين اغتراب الأديب والمثقف داخل بلده أو خارجه إذا قسنا هذا الفارق بمقياس مستوى الحرية المتوفر وأدوات التعبير الإبداعية الممكنة. يجب علينا عدم التغاضي عن حقيقية واضحة تشكل بالنسبة للمثقف المنفي كابوسا وهاجسا مريرا كونه يعيش جلّ عمره الطويل أو القصير تحت وهم العودة إلى الجذور الأولى مقتاتا على طاقة الحنين الروحية التي تأخذ بالنضوب بمرور الزمن كأية مصدر آخر للطافة. هنا تكمن المفارقة الجوهرية.
إذا تمكنا من الوصول إلى مفهوم المعرفة ببعده الإنساني العميق، لا يمكننا معاملة بحار إيطالي يصل إلى ميناء أم قصر في البصرة كما لو أنه من أبناء البصرة حتى وإن عاش ومكث فيها عدة سنين. وليكن هذا البّحار هنديا أو عربيا من الخليج القريب. فكيف بنا ونحن نقرأ نصا شعريا لهذا المغامر الغريب؟ هذا ينطبق على الأديب والمثقف والفنان العراقي الذي ينتج مادته الإبداعية في المنافي.
انتماء النص وحده مَنْ يحدد العلاقة الضائعة بين منتجه وبين حيزه الجغرافي. هو حيّزٌ هلامي يستند إلى المعرفة في أبسط شروطها. النص هو عبارة عن "معرفة" في جميع الأحوال. ربما تكون المعرفة غنية وثرة، وربما تكون فقيرة جدباء. النص هو الذي يحدد أبعاد تلك المعرفة من خلال ما تشي به مادة النص ذاته.
النصوص المدونة المكتوبة المنشورة وغير المنشورة، هي المعيار الحقيقي لتقييم الأدب فيما لو كان أدبا يُكتب في الخارج أو يُكتب في الداخل. الكثير من النصوص الأدبية تتحايل على الداخل لكي تكتب بلغة الحرية الأرحب مدى في الخارج. أيضا يقابل ذلك الكثير من النصوص التي تُكتب في الخارج كما لو أنها لم تفارق المكان الأول للكاتب، نقصد الحيّز الجغرافي "الأصيل" المغيب لعالمها الروحي وشكلها الفني حين تولد في مكان غريب لا يتعرف عليها بسهولة ومن ثم لا يستطيع فهمها أو هضمها. لا يهم في هذا السياق كثيرا في ما إذا كتب أديب عراقي نصه عن ذكرياته الحميمة في العراق وعن أهله وجيرانه وشوارعه وحبيبته باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو السويدية أو أي لغة أخرى. فروح النص ومادته الأساسية تبقى عراقية في جميع الأحوال. فما بالك إذا كان هذا الأديب لا يكتب إلا بلغته العربية؟ أو بلهجته الشعبية حتى، كالشعراء الشعبيين على سبيل المثال؟ هذه إحدى المعضلات الحقيقية التي تواجه الكتاب والمبدعين الذين ينتجون أعمالهم خارج الوطن، في تلك الغابة الشاسعة من البلدان واللغات البعيدة والأوطان الغريبة.
لدينا أدباء عراقيون "في الخارج" كتبوا ويكتبون مادتهم الأدبية وكأنهم لم يغادروا العراق على الإطلاق. وهذا يرجع إلى خلل ثقافي كبير في التكوين الثقافي والمعرفي يحول بينهم وبين ثقافة وخصوصية ذلك المجتمع الحاضن لهم. على خلاف ذلك، يمكن لنا العثور على أدباء عراقيين كتبوا وأنتجوا "في الداخل" أعمالا ونصوصا انتشرت خارج أسوار القمع المفروضة عليهم تبعا لملامسة تلك الأعمال قضايا الحرية والمعاناة الإنسانية بشكل حار وجديد.
ليس كل أدب يُكتب خارج حدود الوطن هو أدب "الخارج". وليس كل ما يُكتب داخل الوطن هو أدب "الداخل". أعظم الكتاب في عصرنا الراهن كتبوا أهم أعمالهم "الوطنية" خارج حدود أوطانهم. غابريل غارثيا ماركيز كتب روايته الشهيرة "مائة عام من العزلة" في باريس. أعظم شاعر ألماني هولدرلين كتب أجمل أشعاره وأعمقها في اليونان. مظفر النواب أكبر شاعر شعبي عراقي معاصر كتب جلّ أدبه "الوطني" في المنفى. هذا معيار واحد من جملة من المعايير التي يمكن من خلالها فحص النص الأدبي الإبداعي في ما يخص الموقع الجغرافي المجرد عندما ينحصر بمفهوم المكان: "الخارج" و" الداخل".
ما هو "أدب الداخل" وما هو "أدب الخارج"؟
هل يتعلق الأمر بالعامل الجغرافي الذي يحدد "مكان" الأديب والفنان حسب؟ أم أنه يتطاول ليشمل البعد النفسي والروحي للكاتب أو المبدع؟
على الأغلب يُراد من خلال طرح مثل هذه الإشكالية الثقافية الإشارة إلى نوع من التمييز البليد والمغرض يمنح "الأصالة" للداخل على حساب "الخارج". هذا ما يحفز على كتابة هذا المقال، ولا أقول "الدراسة" الميدانية، إذ أن ذلك يتطلب الكثير من التوثيق المسؤول والكثير من الوثائق التي ليست في حوزتي الآن. لكن يجدر القول أن هذه "الظاهرة" من المفاهيم والمصطلحات أفرزتها التجربة الفلسطينية على الصعيد العربي. ولا نكاد نعثر على شبيه لها في تجارب الشعوب والأمم الأخرى. حيث تحترم وتنسجم الشعوب مع لغتها ونتاجها الفكري والثقافي والأدبي وتحرص على جمعه وتدوينه وتوثيقه مهما تبعثر مبدعوها على سطح كرة الأرض. تجارب الشعوب غنية في هذا المضمار ومنها الشعب العربي. ولا نكاد نعثر على شعب أو وطن تجرد عن مثقفيه عدا نمط الدول الشمولية. تلك تُعد من الظواهر المنقرضة في التاريخ المعاصر. إذ نعرف الآن جيدا أن الكتاب والمبدعين المارقين على النمط السياسي لحكوماتهم المستبدة كانوا وأصبحوا يحظون بآيات التبجيل من قبل شعوبهم كونهم قالوا الحقيقية مضحين براحة الخنوع التي يفضلها الجرذان تحت المختبرات القمعية. أن يرضى المثقف أو الأديب أن يكون "جرذاً مختبريا" للآلة القمع لا يعني على الإطلاق أنه أمتلك ناصية الحق المطلق بين كفيه. والعكس هو الصحيح، أي أن المثقف "المتمرد" الذي غامر وركب المجهول ليس هو صاحب "الحق المقدس" بالحكم على معاناة الآخرين. لكن يجدر القول هنا أن لا أحدا يمتلك حق محاكمة (الآخر) على حرية نالها عن طريق خسارة فادحة. خسارة الأهل والأحبة، خسارة البيت والمال، خسارة الشوارع والناس، خسارة نعيم الوطن وراحة البال فيه. وبالتالي خسارة كل شيء عدا الحقيقية.
عام 1979، مباشرة بعد تربع الدكتاتور على الكرسي الأول بعملية اغتصاب غير شرعية من سلطة هي الأخرى لم تكن شرعية بالمقياس السياسي والقانوني، أُضطر الكثير من أدباء العراق ومثقفيه وساسته إلى الهجرة خارج العراق. وقدرت الدوائر المعنية عددهم آنذاك بحوالي الخمسمائة مثقف وأديب بينهم أدباء النخبة. بهذا تم إفراغ الساحة الثقافية العراقية من شحنة فكرية وثقافية هامة وقوية ومؤثرة. ثم دقت طبول الحرب مع إيران، لنجد أن الساحة الثقافية العراقية قد غصت بأدباء الحرب. الحرب ذاتها هي ظاهرة جديدة في المجتمع العراقي، لذا كانت النصوص التي ظهرت على أرض الواقع تحمل طابع "التجريب" ولم تبلغ مستويات "الأصالة". تردت الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية في العراق بعد حرب تحرير الكويت الأمر الذي أدى بالكثير من الأدباء العراقيين والمثقفين إلى النزوح خارج العراق. شكلت العاصمة الأردنية عمان محطة أولى لهم. وهناك بدأت مرحلة تفحص الذات وكشف أقنعة الأدب المزيف المكتوب ذاتيا خوفا من العقاب المسلط على الرقاب، مُضافا إليها بعض حالات جلد الذات التي عّبرَ عنها بجرأة بعض الكتاب ممن انجرفوا أكثر من غيرهم، ومن دون مسوغات جدية، إلى التطبيل للحرب زورا وبهتانا عبر تشويه الحقائق واللعب على مشاعر الناس والمواطنين البسطاء ودفعهم للموت في جبهات القتال من أجل بناء مجد الطغاة وعظمتهم وغطرستهم الجوفاء.
إلى ماذا يمكن أن يُشير هذا الواقع الثقافي العراقي المأساوي في نهاية المطاف؟
إنه يشير إلى خلل كبير حلَّ بمكونات وعناصر الثقافة العراقية كونها إحدى أهم روافد المجتمع وعنوان تقدمه ورقيه، وأهم عناصر تكوين الضمير الجمعي للشعب العراقي. تدهورت المؤسسات الثقافية العراقية على الصعيدين الأكاديمي والشعبي. على الصعيد الأكاديمي غاب النشاط الثقافي والبحث العلمي من صروح الجامعات العراقية ليحل محله التطبيل المجاني الكريه للحرب. وماذا عن مؤسسات الدولة الرسمية، من وكالة الإعلام العراقية (واع) مرورا بوزارة الثقافة أو وزارة الإعلام، وصولا إلى اتحاد الكتاب العراقي الذي أفرغ من محتواه ومهامه الحقيقية هو الآخر. أما على الصعيد الشعبي فقد شهدت المكتبات وسوق الكتب وأحوال الطباعة والنشر والنشاطات الثقافية في المحافظات أسوأ حالات التدهور والانحطاط في تاريخ العراق المعاصر. في مثل هكذا ظروف عسيرة، يحيق بها الدمار والخراب والحرائق من كل حدب وصوب ويموت فيها المثقف والأديب بأسهل الأمراض، أو حتى من مجرد الجوع والفاقة، ماذا يمكن أن ننتظره من المثقف العراقي في "الداخل"؟
بينما شكل المثقف العراقي في "الخارج" ظهيرا حرا واعيا أخذ على عاتقه حماية الثقافة العراقية الأصيلة والحفاظ على هويتها الحقيقية كونها ثقافة ذات طابع إنساني عميق عبر ربطها إلى جذورها التاريخية ومورثها الغني منذ الحضارة السومرية والبابلية وصولا إلى الحضارة الإسلامية بطابعها الإنساني المشرق. هذه الحقيقة بحاجة إلى الكشف الميداني العلمي. وقد سبق وقام العديد من المثقفين العراقيين بتسجيل ذلك، وكانت محاولات جادة لرصد تلك الأعمال الإبداعية العراقية في المنفى عن طريق جمعها في "بيبلوغرافيا" توثق للأدب العراقي والمبدعين العراقيين المنفيين خارج وطنهم.
هنا يمكن لنا المطالبة واقعيا برصد شامل للإنتاج الثقافي والأدبي والفني للأدب العراقي الذي كُتب وأنتج خارج العراق، وبين ما أنتج من أدب وثقافة وفنون داخل العراق منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي وصولا إلى الوقت الحاضر. من ناحية الكم و من ناحية النوع كذلك. عندها سوف نطلع بشكل حقيقي على من يمثل الأدب العراقي الحقيقي والفنون العراقية الحقيقية، وبالتالي أي من الطرفين استطاع إبراز الوجه الناصع للثقافة العراقية ببعدها الإنساني وبعدها التاريخي، هل ثقافة "الداخل" تحت الحقبة الدكتاتورية وفنون رسم وتجسيم تماثيل الدكتاتور وكتابة أشعار الردح لتمجيده وكتابة القصص والروايات البائسة عن ملاحم وهمية للجيش العراقي، هي في الواقع مقابر جماعية وسجون ومعتقلات رهيبة وغازات كيماوية أبادت الزرع والضرع، أم ثقافة عراقية تنشقت عبير الحرية السياسية في المنافي الكثيرة المبعثرة على أماكن المعمورة في أصقاع الكرة الأرضية؟
أنتج المثقفون العراقيون في "الخارج"، كما يحب أن يطلق عليهم البعض، كتبا ومؤلفات كثيرة العدد وكبيرة القيمة احتلت مكانها على رفوف أكبر المكتبات العالمية. وأنتج الفنانون العراقيون أعمالا فنية عُلقت وعرضت في أكبر صالات العروض ذات المستوى العالمي ونالت التقدير الكبير أكاديميا وفنيا. وأخرج المسرحيون أعمالا نالت الشهادات العالمية والتقدير الشعبي. وألف الموسيقيون والملحنون العراقيون أعمالا فنية أصيلة ذات طابع إنساني ينطلق من المحلية العراقية ذات الخصوصية الثقافية والاجتماعية المميزة. من خلال جميع هذه المساهمات الإبداعية والفنية والثقافية استطاع المثقف العراقي في الخارج إبراز الوجه الحقيقي لوطنه الجميل. وطن الحضارات الإنسانية العريقة أمام الدوائر الثقافية العالمية والمحافل الدولية. هذا الجهد الثقافي الضخم الذي استطاع تقزيم "ضخامة" الدكتاتور المزيفة وإظهار وجه المواطن العراقي الحقيقي، ذلك المواطن الذي يتعرض إلى شتى صنوف القهر والإذلال على يد حفنة من الجهلة المتلطين زورا بعنوان العراق ومجده الحضاري الضخم.
لذا أهيب بالأخوة والزملاء من المثقفين العراقيين ممن لم يجربوا ولم يتعرضوا إلى تجربة المنفى العسيرة، التي قضى فيها كوكبة من المثقفين والأدباء والفنانين نحبهم ودفنوا في أراضٍ غريبة وأرواحهم الطاهرة تغني وتكتب وتمجد أسم العراق، حتى ليبدو أن هذا الوطن بكل هذه القسوة التي يجود بها أبناؤه عليهم من حكام قتلة إلى "أدباء" جهلة لا يستحق كل هذا العذاب والدمار الذي بلغ مستوى الموت. أهيب بهؤلاء الأخوة والزملاء تكليف أنفسهم بالبحث عن كتب إخوانهم وأعمالهم وإسهامهم الفكري للإطلاع عليها والإفادة منها وضمها إلى الرصيد الكبير للثقافة العراقية كونها روافد نقية ودماء جديدة تصب في عروق المشهد الثقافي المتخشب في الوقت الراهن بعد أربعين عاما من التلف الفكري والعطب الثقافي الذي ألحقته الدكتاتورية بأرض الرافدين وعقول أبنائه على مدى أربعة أجيال.
*كاتب عراقي مقيم في السويد