تقنيات حاسّة الشمّ في هاملت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم تبلغ حاسّة الشمّ أقصى تعقيداتها وخطوراتها كما بلغته في مسرحية هاملت. قد لا يكون لها نظير في أيّ تأليف أدبيّ آخر. باتت أكبر أداة للتعذيب. تقطع التنفّس، وتصبغ الحياة باشمئزازها. (استعملها جيمس جويس في رواية يوليسيس للتعذيب كذلك) من تلك الاصطباغات، نظرة هاملت للشهوة الجنسية. تشكلت هذه النظرة أو الفلسفة من جرّاء نظرته إلى عمّه، الملك الحالي، ومن نظرته إلى أمّه. لا ريب، تعمّقت المسرحية أكثر فأكثر بحاسة الشم، ولولاها لما أخذت تلك الأبعاد النفسية المدهشة.
العمّ قتل شقيقه بالسمّ، وتزوّج من زوجته برضاها. يبدو هذا الحدث في الظاهر بسيطاً بساطة باب مقبرة ، لا ينبئك لأوّل وهلة عن أيّة تواريخ، أيّة أسرار؛ أيّة إحباطات واعراس مطمورة تحت التراب، إلاّ أنّه، أي الحدث، سرعان ما يمتحن وجودية الإنسان لحماً ودماً وروحاً. يمتحن الأعراف، وعقود النكاح. يمتحن السماء والدين. على هذا يمكن اعتبار مسرحية هاملت أكبر مختبر نفساني في تاريخ الأدب.
ففي حين ارتبطت الشهوة الجسدية عند هاملت كما سنرى بجريمة عمّه وزنى أمّه، إلا انها مختلفة لدى لرتيس شقيق أوفيليا، وبولونيوس والدها.
يبدأ المشهد الثالث - الفصل الأوّل، بدخول اوفيليا وشقيقها لرتيس. يبدو أن الحديث بينهما كان يدور عن هاملت ومطارحاته لأوفيليا، قبل ظهورهما على خشبة المسرح.
توقيت الحوار دقيق للغاية. لرتيس على وشك الرحيل إلى الخارج. بهذه الحيلة الفنّية ولقصر الوقت أصبح الحوار أكثر تدفقا ولهاثاًً، وأكثر حميمية، واكثر صراحة.
قال لرتيس لأوفيليا:
"أمّا عن هاملت واهتمامه الطائش
فاحسبيه عاطفة متقلبة، وفورة حسّية عابرة
مثل بنفسج قصير الأجل في ريعان تلاقحه
يتفتح مبكراً ولكن لا يدوم، حلو غير دائم
عطر لهنيْهة
لا أكثر من ذلك"
تجيبه أوفيليا، ربّما بخبث برئ:
"لا أكثر من ذلك."
ستتطوّر الكلمات التي ذكرها لرتيس اعلاه إلى مفاهيم مهمّة ومؤثّرة في المسرحية. فالطيش سيتطوّر إلى جموح يمثّل العاطفة مقابل العقل. أما الفورة العابرة فستتطوّر إلى رمز مخيف هو الوهج المَرَ ضي. اكثر من ذلك فإنّ للبنفسج والتلاقح، دلالات ترافق أوفيليا حتى بعد موتها. البنفسج أيّام شيكسبير رمز للحبّ. ومن الآن فصاعداً في المسرحية سترتبط أوفيليا بالصفات النباتية، وكأنّ شيكسبير جعل أوفيليا مصنوعة من لحْم نباتيّ، في حين جعل الملكة لحْماً منطفئاًً على حيوانيّته، كما سنرى.
قد يكون في إجابة اوفيليا: "لا أكثر من ذلك"، ما ينمّ عن تجربة من نوع ما، مع هاملت، وهذا ما يظنّه بعض الشارحين الإنكليز. حاول لرتيس أن يخيف، اخته من الأمراض التي قد تصيبها كما تصاب النباتات الصغيرة مادامت أوفيليا نفسها مصنوعة من لحم نباتي إذا صحّ التعبير:
"... غالباً ما يُهلك اليرقان النباتات الصغيرة
قبل أن تتفتّح براعمها في الربيع
وفي فجر اليفاعة وطراوتها الغضّة
تكون الآفات المعدية على أشُدّها إيذاء
إحترسي الآن, خير الأمان يكمن في مخافة العواقب
الشاب يتهيّج حتى وان لم يكنْ أحد قربه"
بعد ذلك تأتي نصيحة الأب بولونيوس:
"اعرفُ حقَّ المعرفة متى تفور شهوةُ الدم، وكيف
تسرف الروح فتقرض الأيمان للسان
هذا وهج يا ابنتي يعطي ضوءاً أكثر مما يعطي من حرارة
إنّه في كلتا الحالتيْن منطفئ حتى
في اللحظة التي يوعد فيها بالضوء والحرارة
من الأفضل ألاّ تحسبي ذلك الوهج ناراً"
قد نرى هنا أغرب توقيت. التوقيت الدقيق عموماً من علامات شيكسبير الفارقة. فبعد أن ينتهي بولونيوس من نصائحه تكون أوفيليا( ومن ورائها النظارة) قد عرفت أنّ وهج عاطفة هاملت خال من النار. على هذه الخلفية ينتهي المشهد الثالث. وعلى إيقاع ذلك الوهج يبدأ المشهد الرابع وكأنّ إيذان بدخول هاملت برفقة هوراشيو. يدور بينهما الحوار التالي:
هاملت: الهواء يلذع بحدّة. الجوّ بارد جداً
هوراشيو: الهواء قاطع وقارس
للبرودة هنا وظيفتان: إنها تَواصُلٌ مع قول بولونيوس :"لاتحسبي ذلك الوهج ناراً"، وثانيا يعني البرد في زمن شيكسبير: التوجس خيفة وكأنْ لا أمان مع هاملت. ( سنتابع تطورات الوهج ودلالاته حينما نبحث رثاء أوفيليا).
***
لنحوّل الآن نظرنا إلى الملكة، وكيف عالج شيكسبير نزعاتها الجنسية، وكيف أثّرتْ في فلسفة هاملت، وفي موقفه منها ومن النساء عموماً، وما هي التقنيات التي وظّفها شيكسبير، على لسان هاملت، لإبراز خطورة اللعبة الجنسية. على أية حال قد لا نجد مقطعاُ في المسرحية أفضل لتحليل فلسفة هاملت تلك، من مشهد المكاشفة، أو المجابهة بينه وبين أمّه.لكن قبل ذلك، لا بدّ من تمهيد سريع لهذا المشهد. عرف هاملت بواسطة شبح أبيه، بأنّ عمّه أي الملك الحالي، هو الذي صبّ السمّ في اذنه، وأنّ أمّه تزوّجت سفاحاً حسب بعض الأعراف المسيحية. خاطب هاملت أمّه:
"كفّي عن فرك يديْك. هدّئي من روعك واجلسي
ودعيني أعصر قلبك. سأقوم بذلك
إذا كان مصنوعاً من ماهيّة يمكن النفاذ فيها
إذا لم تُقَسّه العادات الشرّيرة
ولم يُصبح بصلابة النحاس
فيكون محصّناً تماماً ضذّ الإحساس بشئ"
ولكنّ الأمّ تسأل - وقد لا يخلو سؤالها من براءة -:
"ما الذي فعَلْتهُ بحيث تجرؤ وتحرّك لسانك
بضجيج وقح ضدّي؟"
هنا باللاوعي، يقارن هاملت بين أوفيليا البريئة، ذات اللحم النباتي، وبين أمّه ذات اللحم البهيمي:
"زنى السفاح...
ينتزع وردة الحبّ من الجبين الجميل للحبّ البرئ
ويطمغ مكانها وصمة بنات الهوى
ويجعل مواثيق الزواج زائفة"
ثمّ يقول:
"وجه السماء
يخجل عاراً، بل كأنّما هذه الأرض مركّبة من عناصر
مختلفة تتوقّع بوجهها الكئيب قيام الساعة، وتمرض من الفعلة بهلع"
ما الذي فعله شيكسبير، في الأبيات أعلاه؟ أوّلاً كبّر حجم الخيانة الزوجية بجسامة المسافة بين الأرض والسماء. ثانياً جعلها مؤذنة بقيام الساعة. ثالثاً ربطها بمرض الكرة الأرضية، وهل هناك مرض أكبر من هذا المرض! يتخذ هذا المرض من الآن فصاعداً، صيغاً مختلفة، فمرّة نراه خسوفاً أو كسوفاً، ومرّة آفات زراعية وقرحاً، وأخرى عفونات وقيوحات مغثية.يقارن هاملت عند هذا الحدّ، بين أبيه المقتول غدراً وبين عمّه القاتل. فالأب مصنوع في رأيه من مادّة إلهية، أو تعاونت الآلهة على خلقه، حيث أعطاه كلّ إله خصلة منه:
"... إنّه مزيج من الآلهة، وكلّ إله
ختمه بختمه ليطمئنوا العالم أنّهم خلقوا إنساناً"
(ألا يذكّر هذا الخلق بخلق أنكيدو في ملحمة كلكامش؟)
أمّا العمّ فيصفه هاملت:
"... مثل سنبلة مسفوعة
يصيب باليرقان شقيقه المعافى"
لكن ما يهمّنا هو الأمّ، فمعها تطوّرت حاسّة الشمّ، إلى أقصى حالاتها قرفاً. تعقّدت حاسة الشمّ لأنّ هاملت ربط الجنس لدى أمّه بالأعشاب المستنقعية, وبالسوائل النتنة وبالقيوح والأمراض المُعْدية. فأمّه الآن مثل ماشية لا تفرّق بين حقل خصيب وحقل موبوء:
"ألك عينان؟
كيف لك أن تتركي الرعي في هذا الجبل البهيج
وتتخمي نفسك بحشائش المستنقع العفنة
عجباً" هل لديك عينان؟"
يتصوّر هاملت أنّ فورة الشهوة في دم أمّه، يجب أن تكون مذلّلة بسبب عمرها ويجب أن تكون تابعة للعقل. غير أنّ نوبة الجنون اقوى من العقل في بعض اللحظات:
"أيّ شيطان أغواك
وأنت تلعبين معصوبة العينيْن؟
سمْعٌ بلا يديْن أو عينيْن، شمّ بدونها جميعاً
أو حتّى لو كان هناك جزء
من إحدى الحواسّ يعمل, لمنع حالة بليدة كهذه"
ما أكبر الجرم الذي يتعطّل فيه العقل، وتتعطّل فيه الحواسّ والأفعال الانعكاسية! الحواسّ نفسها مفككة. عاطلة. ( ما من مؤلف فكّك الحواس وجعلها حتى متعادية فيما بينها، مثلما فعل شيكسبير). لنتوقّفْ قليلاً عند قول هاملت أعلاه: "شمّ بدونها جميعاً" قد يتشابه ماء البحيرة والماء الآسن بصريّاً، وقد تتشابه خضرة الحشيش في الجبل والمستنقع، بصريّاً ولكن الاختلاف في كليهما في الرائحة بلا شكّ. ربما لم يفلحْ بعض المترجمين العرب في الاقتراب من روح النص،لأنّهم كما يبدو لم يفطنوا إلى دور حاسّة الشمّ وبالتالي إلى الكلمات والمصطلحات التي استعملها شيكسبير لهذا الغرض. ينتقل هاملت بصورة مدهشة من مخاطبة أمّه إلى مخاطبة شهوتها:
" يا أيّتها الشهوة المتمردة
إنْ استطعت أنْ تقودي عصيانك في عظام امرأة كهلة وتؤججي فيها الفتوّة المتوقّدة، فاجعلي الفضيلة تذوب كما يذوب الشمع في ناره بالذات، ولا تسمّيها عاراً إنْ قامت الشهوه بالهجوم, ما دام جليد الكهولة يحترق بحيويّة..."
(رأينا أعلاه أنّ شهوة الشباب كما وصفها ليرتس و بولونيوس لأوفيليا بأنّها قصيرة الأجل وسريعة و باردة وهي مثل البنفسج، بينما هنا أخذت الشهوة الطابع البطء ، وقد استخدم شيكسبير لهذه الغاية الشمعة.). تتواصل صورة الأمّ في شهوتها البهيمية مثل شهوة ماشية في المقطع التالي:
"تعيشين في العرق الزنخ في فراش ذفر
تمخرين في الفساد وتتخاطبين بكلمات معسولة
وتواقعين في زريبة مغثية."
في الواقع إن لتوقيت إدخال الشمعة هنا مغززيْن، الأول :الإيحاء بحلول الليل وقد يكون ليلاً روحيّاً، والثاني تصغير مسرح الحدث، لأنّ الشمعة لا تضيئ إلاّ مساحة صغيرة، تمهيداً للاقتراب من الجسن وبالتالي الدخول فيه. هكذا بدأ هاملت ينصح أمّه أن لا تضع مرهم المداهنة على جراح روحها:
"المرهم يغطّي الموضع المتسرطن بغشاء رقيق
في حين انّ أنّ القيح العفن، وهو يدمّر كلّ شئ في الداخل
يٌعدي غير مرئي. اعترفي لله واندمي على ما فات
وتجنّبي الذنوب في المستقبل، ولا تنثري السماد
على الأعشاب الضارّة فتصبح أكثر وفرة"
بهذه التقنية المدهشة، انتقلت الأمراض من خارج الإنسان إلى داخله، واخذت طابعاً متقيحاً، معدياً، وسرطانيّتها تنتشر.
يعود هاملت في الفصل الرابع - المشهد الرابع إلى صورة متقيّحة شبيهة. في هذا المشهد، يلتقي هاملت بقائد عسكري في طريقه "للاستيلاء على رقعة صغيرة ببولونيا" ولا قيمة لها. يقول له هاملت:
"ألا يكفي ألفا رجل وعشرون ألف دينار
لحلّ هذه المسألة التافهة كالقشّة
هذه دمّلة الثراء والسلم
تنفجر في داخل الجسد، وتؤكّد أنّ
ما من سبب خارجي غيرها لوفاة الإنسان"
قد يكون من المفيد العودة إلى ما ترجمناه، ومقارنته بالترجمات المتيسرة. قلنا كان لرتيس ينصح اخته أوفيليا بالابتعاد عن هاملت، و من بين ما قال:
"وغالباً ما يُهلك اليرقان النباتات الصغيرة
قبل أن تتفتّح براعمها في الربيع
وفي فجر اليفاعة وطراوتها الغضّة
تكون الآفات المعدية على أشُدّها ظهوراً"
Virtue itself scapes not calumnious strokes
The canker galls the infants of the spring
Too oft before their buttons be disclosrsquo;d
And in the morn and liquid dew of youth
Contagious blastments are most imminent
جاءت ترجمة جبرا على الوجه التالي:
" ما أكثر ما يُفسد السوس زغب الربيع
قبل أن تتفتّح براعمه
والعواصف الموبوءة يشتدّ احتمال هبوبها
عند الصباح ونداه الطريّ"
أمّا ترجمة القطّ فجاءت على الوحة التالي:
"والديدان كثيراً ما تقتل ولدان الربيع
قبل أن تتفتّح أكمامها
وفي باكورة الشباب ونداه الريّان يحدق بالمرء وباء الذبولوالتغضّن"
إذا غضضنا الطرف عن كلمة السوس في ترجمة جبرا لأنها العثّ الذي يقع على الأشياء الميتة كالخشب مثلاً، فإنّ كلمة : الزغب كترجمة لـ: infants أكثر خيبة من سابقتها، ذلك لأنّ عموم الصور هنا نباتية، في حين نقلها جبرا إلى صورة حيوانية, إذ المعروف أن الزغب هو: "صغار الريش والشَعْروليّنه، وما يبقى في رأس الشيخ عند رقة شَعْره" (المعجم الوسيط) ثمّ كيف يكون للزغب براعم حتى إذا جوّزنا الصورة مجازاً؟
أكثر من ذلك هل يوافق علماء الأنواء الجوية على ان "العواصف الموبوءة يشتد احتمال هبوبها عند الصباح ونداه الطريّ"؟ وما معنى واو العطف هنا؟ هل المقصود: اشتداد احتمال نداه الطريّ؟
على أية حال، كانت الصورة الشعرية مقتصرة على النبات الغض وعلى الآفات التي تهدده، لا سيّما إذا كان رطباً فيكون مرتعاً خصيباً للجراثيم. وما ذكر الصباح في الصورة إلاّ لأن ساعات الرطوبة فيه تكون أكثر، ولا علاقة لها "بهبوب العواصف عند الصباح" كما ذكر جبرا.
أمّا القطّ فترجم كلمة: infants : ولدان ولا أدري ما معناها هنا؟ وكيف يكون للولدان براعم؟ ولماذا انّث الولدان فجعلها تتفتح بدلاً من يتفتحون؟ ولماذا "يحدق بالمرء وباء الذبول والتغضّن في باكورة الشباب ونداه الريّان" من أين جاء بهذا الكلام المتشائم؟.
شيكسبير لم يقُلْ هذا.
مهما يكنْ من امر, يقول G.R.Hibbard إن صورة اليرقان والنبات, تنويع على المثل: سيأكل اليرقان الوردة الأكثر بياضاً بأسرع من غيرها. ويقول إنّ معنى كلمة: blastments :آفات تسبّب الذبول في النباتات اليافعة.(قارن السوناتا: 54-8)( نَفَس الصيف يفتّح البراعم المقنعة). ويذكر محرّر طبعة آردن: أن اليرقان والبرعم، وهو مثل مشهور، مذكور ايضاً في مسرحية " سيدان من فيرونا": البرعم الأقرب إلى التفتح، سيأكله اليرقان قبل تفتحه". ( الفصل الأوّل - المشهد الأوّل-45- 46).