ابتسامة الفأس النصفية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مغامرة حقيقيّة هي الكتابة عن الشاعر اللبناني عبّاس بيضون كما هي مغامرة الكتابة عن شعره، فكلاهما، الشاعر وشعره، مفارِقان، إشكاليّان، ومثيران حقّاً. أحدٌ لا ينسَ أنّ عبّاس بيضون هو واحد من اللبنانيين الكثر الذين أدلوا ولا يزالون يدلون بدلائهم في هذا الشأن أو ذاك من الشؤون السياسيّة اللبنانيّة والعربيّة ذات التعقيدات التي لا نهاية لها. وغالباً ما كانت تتّسع أحداق قرّائه من هول مفاجآته. عبّاس بيضون عصي على التصنيف. تتوقّعه أن يطلّ عليك من جهة، فإذا به يطل عليك من جهة، والعكس صحيح تماماً. هذا ما حدا بالشاعر الأردني أمجد ناصر أن يظنّ عيباً في مواقف بيضون السياسيّة زمان الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان وقد تمّت الإشارة إلى ذلك في كتاب لأمجد ناصر يضمّ بين دفّتيه موضوعات هي من أدب الرحلات. وكاتب هذه السطور لم يغادر هذا الحيِّز في النظرة إلى مواقف عبّاس بيضون السياسيّة. كانت الحرب، كما كلّ حرب، تحرف الأنظار بدخانها الكثيف عن حقيقة مطلقة وهي أنّ الآخر موجود دائماً حتى فينا فكيف بخارجنا؟. كان عبّاس بيضون وما يزال خارج كلّ سرب، وكثير الإلتفات إلى الوراء، فلا تلعب يقينيّاته من وراء ظهره على ما يحثّ إليه الباحث نصر حامد أبو زيد. هنا يكمن سرّ عبّاس بيضون، وبالتالي خطل النظّار إلى نثره السياسي، الذين قلّما تفلّتوا من دوائر أسرابهم.
وكما يتفلّت عبّاس بيضون من إسار يقينيّاته السياسيّة كذلك يتفلّت من إسار يقينيّاته الشعريّة، لا بل من يقينيّات تراث شعري عربي هائل حتى ليشمل المابعد حديث منه، ومن هنا قولنا السابق باستعصاء عبّاس بيضون على النقد وخصوصاً منه الأعزل إلاّ من شفافيّةٍ ما هي كلّ عدّته.
عن دار الآداب البيروتيّة صدر ديوان جديد للشاعر عبّاس بيضون هو "شجرة تشبه حطّاباً" بعد سلسلة من الإصدارات منها "الوقت بجرعات كبيرة" و"حجرات" وغيرها لكن أشهرها ديوان "صوْر". ويضم الديوان الجديد الذي يقع في مائة وثلاث صفحات خمسة محاور هي: "لا أحد في بيت السيكلوب"، "لا حاجة إلى أكثر من يوم واحد"، "مسافة بين قارّتين"، "أكاذيب صيّادين"، "قلوب ملساء"، و"أخنونخ". وكلّها نصوص على قارئها أن يحوز على ذائقة غير سائدة ليحوز ولو على نذر قليل من متعتها الكثيرة، خصوصاً أن ما يجمعها هو هذا التفجّر الداخلي والخارجي في الألفاظ والتراكيب والصور وتلك الغرابة في كلّ جديد لا تحاذره بل تقتحمه اقتحاماً وخصوصاً في النصّ الأوّل الذي يتّخذ فيه "شكل الفم" الناتئ "شكل البوق" الناتئ فشكل العين نفسها "عين السيكلوب" الناتئة أو الجاحظة، وحيث "الطاولة الصلعاء" والنغمة الصمّاء الواحدة السريعة والدائمة و"اللاّشيء التامّ يدوي من دون أن يُسمَع في صبّات الرؤوس المنحنية" وكلّ الأشياء التي تُقال أو تُقارَب من زوايا مختلفة وبأسلوب متميِّز، وحيث العنف الخارج من رحم الحرب التي همدت تقريباً من دون أن تهمد مفاعيلها في الرأس والأعصاب والخطاب، تتوالد منه عوالم تتكاثف كأدغال وتنبسط في الوقت ذاته إلى حدود الأفق من ضمن معجم لغوي غرائبي إذا تلاقح استحال ذهباً تلمع حبّاته في نهر أو استحال إلى ماس كثير الأنوار.
و"لا أحد في بيت السيكلوب" النصّ الذي لأجله يُهدى الديوان كلّه إلى "زياد" إبن أخت الشاعر يحيل إلى نفس رافضة لكلّ ما هو غير إنساني بلا تأوّهات، يحيل إلى نفس كلّها جرح وتتعالى على الجرح في الوقت ذاته. لا مكان للشفقة هنا. هنا ألم نبيل فقط. هنا أرستقراطيّة العين التي تختزن شفق الغضب لتقول من دون صراخ كلّ الصراخ، هنا "لتكن فكرة أيضاً تلك الرصاصة التي كمنت كالنواة في عظم الجمجمة حيّة ومتوتّرة كلّ الوقت"، وهنا السخرية المرّة من كلّ ذلك الرعب الذي يُقال بحياديّة تُشهر كلّ حربة بوجه الرعب.
وأنا أقرأ "شجرة تشبه حطّاباً" لم ينفعني كلّ جهدي لأتصبّر في القراءة، فليس من الطبيعة أن توازي من يطير بالتمهّل في المشي، وليس من الطبيعة ألاّ يصيبك ما ترسله الشمس، وليس من الطبيعة ألاّ تذهل أمام كلّ هذا الذهول الذي تمرّس فيه الشاعر عبّاس بيضون.
هنا المقطع رقم 30 من شجرة عبّاس بيضون الجديدة:
"ليس الكركدن أعمى. إنّه وحيد النظر، عينه وقرنه واحد. يخبط الكركدن بالأشجار لا بالكلمات. عين السيكلوب الفارغة هي أيضاً قلبه.
ماذا يفعل الضخم في الغابة. شجرة واحدة في روحه، بلا أغصان ولا رأس، مقطوعة ككلمة.
الجبال جملة صخريّة كبيرة أو أمر هائل مستمرّ، العمالقة ينشأون كالطبول من قوّة الفراغ المدوية، كالجليد من جملة الثلج البسيطة، إذ لا يأمرهم أحد بأن يتوقّفوا.
الجبال تُغزى برايةٍ صغيرة، العمالقة يُجرّون من أنوفهم وها هو، العالم أطنان حوله والهواء مكعّبات، لكنّه يرطم ويتقدّم. شجرة واحدة في روحه بلا أغصان ولا رأس، حشرة واحدة في روحه بلا أجنحة ولا ظلّ، حشرة مقطوعة ككلمة.
الجليد جملة ثلجيّة هائلة وها هو، الريح دوّامات أمامه والماء طوفان، ولا شيء في رأسه سوى صفير خافت يدعوه إلى الأمام. لا شيء في عين الظهر. قليل من القوّة، قليل من الإكسير والجبال ألعاب ضخمة.
العمالقة يتقدّمون على قفزات ونغمة واحدة. قليل من الشجاعة والوقت سنوات أمامهم، وها هو يتقدّم ويرطم. كلمة حيّة يربيها كشجرة، "نعم" صغيرة في عينيه. "نعم" صغيرة في مثلّث قلبه المفتوح. "نعم" كعقرب الثواني.
العمالقة يمرضون من طنين غير متوقّع، من تحوّلات كلمة مفاجئة، أو سقوط بذور جديدة، من فيروس المعاني السريع وها هو يتقدّم ويرطم. أجنحة بلا معنى تجعل الهواء غير قادر على حمله. إسم بلا معنى يقوده إلى حيث العالم بلا حجم.
لو أنّ ذلك لم يكن، لو لم يضع عقرب الثواني. الضخم يتقدّم ويرطم لا شيء سوى خياله، سوى جملته العاطفيّة، سوى حشيشة رأسه.
الكلمة المريضة تبيض في داخله وها هو يتقدّم .. تنقسم عيناه، ينقسم جناحاه. الكلمة المتصدِّعة ثقب في إرادته. يتقدّم ولا يستطيع أن يجرجر جثّتها من عينه. الأجنحة الخفيّة تواكبه والكلمة الهائلة التي ابتلعت الجبل ترفرف للاّشيء.